بقرة السعودية الحلوب

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

مرّ حكيم وحواريه ذات مسغبة على كوخ فقير، فهالهما ما رأياه من بؤس وفاقة. كومة من الأخشاب القديمة ملأى بثقوب تُظهر من العورات ما حرص الفلاح المسكين أن يخفيه. وإمرأة ضامرة تلبس السواد الخشن، ورجل زاده الفقر همّاً وشيباً. وأمام فوهة الباب نصف المفتوح، تسمّرت أربع أقدام ضامرة تبحث في خشاش الأرض عما يسدّ الرمق. دق الحكيم بيد من حاجة على باب الكوخ، فأطل الأشيب من النافذة، ورحب على عكس المتوقع، بضيفيه الثقيلين. ولما ولجا الكوخ، وجد الحكيم الداخل أشد بؤساً. فقال للفلاح: “كيف تعيش وسط هذا العفن يا رجل؟” قال الفلاح: “نحمد الله أنه وهبنا بقرة حلوباً، نشرب لبنها، ونصنع منه الجبن، ونبيع ما فاض منه لنشتري به ما يقيم إودنا. نحن والله أفضل حالاً من غيرنا”.
إمتلأت بطنا الحكيم والحواري بلبن لم يتغير طعمه، وشكرا للفلاح وزوجته كرم الضيافة، وقبّلا رؤوس الصغار وإنصرفا. وقرب تلة، توقف الحكيم، وطلب من حواريه أن يعود ليسرق بقرة الفلاح، ويأتي بها إليه. بعد تردد ذهب الشاب إلى كوخ الفقير، وما لبث أن عاد بالخوار. وعندها جاء الإختبار الأصعب، إذ طالب الشيخ تلميذه المطيع أن يلقي البقرة من فوق التلة. فهل يطيع التلميذ شيخه وإن كان ظالماً؟ هل يقابل بالإساءة إحساناً على بعد خطوات من قدميه المتعبتين؟ وهل يقتل بقرة ما زال لبنها يترجرج في أمعائه؟
رفض الشاب هذه المرة أن يقدم قدماً على قدم، ووقف في مكانه كمسمار في تابوت. لكن التلميذ لم يرفض يوماً أمراً لمعلم ما عهد عليه إلا الصلاح، وما رأى منه إلا التقوى. فهل يفعلها اليوم ويفسخ عهد ثقة أعطاه عن طيب خاطر لسيده؟ تردّد الحواري، وطال به التردد، حتى رأى إصرار شيخه، فأخذ برأس البقرة يشدها إليه حتى صار عند أعلى نقطة في سنام التلة. وما هي إلا لحظات حتى ألقت البقرة نظرة وداع على رجلين لم يريا من ضروعها إلا الحليب. ومن يومها، لم يسامح التلميذ معلمه. كان يسمع له ويطيع، لكنه كان يقدّم الولاء إضطراراً، ويتبع التعاليم قهراً، وينام كل ليلة وفي قلبه غصة. لماذا فعل معلمه ما فعل؟ ولماذا قابل إحسان الفقير بكل هذا الجحود؟ وكيف يقطع المرء ضرعاً مده يوماً بشريان حياة؟
ذات ليلة، قرر الحواري أن يعود إلى الكوخ الخشبي ليقف أمام الفلاح في ضعة يسترضيه ويستعطفه حتى يصفح عنه. وفي الطريق، إستبدت الهواجس بالفتى. ماذا لو وجد الريح تصفر في كوخ الكريم؟ وماذا لو رأى أطفال من أحسن إليه مشردين حفاة، يفترشون الأرصفة أو يجلسون في إحدى الزوايا يسألون الناس إحسانا؟ وبأي وجه سيلقى من أقبل بوجهه عليهما فطعناه في الظهر من دون شفقة؟ وأي ثمن يمكنه أن يدفع ليعوّض الفلاح عن سنوات الضياع؟ وبأي الكلمات يبدأ إعتذاره الذي تأخر جداً؟ وعند ذات المنعطف الذي وقف فيه الفتي وشيخه ذات غدر، توقف الفتى بعدما هاله ما رأى. إذ لم يعد لكوخ الفلاح أثر تقصه عين، ولم يعد لبؤسه وجود. ومكان كومة الخشب، وقف قصر منيف يطل على المكان في زهو، وحول القصر سيارات فارهة وإصطبلات خيل. وقبل أن يدور التلميذ على عقبيه ليعود من حيث أتى، لمح الفلاح يخرج من البوابة الرئيسية وفي يده مفتاح سيارة كانت تنتظره أمام مدخل القصر.
تريد أن أكمل، وكأنك لم تعش يوماً مرحلة اليأس من كل شيء ومن كل أحد إلا من يديك؟ تريد أن أكمل لتهزّ رأسك وتمسح شاربيك وتثني على صنيع الحكيم؟ وكأنك خارج عن إطار ضعفك، وكأنك خارج سياق الحزن العربي الكبير. تريد أن تجد ما يأخذك بعيدا من بؤسك، وأن تجد ما تروّح به عن فؤادك المُتعَب؟ تريد أن تجعلها قصة تحكيها لصغارك قبل النوم؟ لتفعل، لكن عليك أن تنسى نظرة البقرة التي أعطت كل شيء، ولم تأخذ من حكمة الحكيم إلّا الرمي من علٍ. لماذا يفقد الناس الأشياء ليجدوا أشياء، ونقف نحن عند كل فقد في إنتظار فقد أكبر؟ ولماذا يخرج الناس أشداء بعد كل هزيمة، بينما لا نصادق نحن بعد الهزائم إلا النكسات والوجع؟ ولماذا يتحوّل الكوخ إلى قصر، ونخرج نحن من بيوتنا إلى مزابل الأوطان، ومن عزنا إلى كل مهانة بعد كل هزيمة، وكل تعادل، وكل نصر؟ ولماذا تحولت المملكة العربية السعودية في نظر المرشح الجمهوري “دونالد ترامب” إلى مجرد بقرة حلوب: “علينا أن نحلب البقرة السعودية قدر المستطاع حتى يصبح شيوخها الأثرياء عديمي الفائدة، وعندها نغادر الشرق الأوسط”.
دونالد ترامب لا يمارس هنا دور الشيخ، لكننا نمارس دور البقرة عن طيب خاطر في إنتظار السقوط الأخير. هم يدافعون عن السعودية “لسبب واحد ووحيد، وهو النفط”، هكذا يقولها الرجل بكل صفاقة، ويجد بين العرب آلاف الحواريين المستعدين لجر رأس السعودية العربية نحو الهاوية. هم ينتظرون الشبع، ونحن ننتظر جزاء سنمار. هم يتسابقون لحصد الأصوات الإنتخابية ونحن نستعد لربط اللجام وشد اللجام. وحين يأمر ترامب، سيتقدم أشقاؤنا لتنفيذ وصايا المعلم من دون تردد. ولن يشعر تلميذ بتأنيب ضمير على سقوط بقرة السعودية الحلوب، لأن أحداً لم يرثِ لسقوط بغداد أو لسقوط طرابلس أو لسقوط حلب. سيشرب ترامب نفطنا حتى الثمالة، ثم يأمر حوارييه في المنطقة بسرقة البقرة التي لم يعد له بها حاجة ليلقيها من علٍ من دون رحمة. لكننا حتماً لن نستطيع بعد بقرتنا الحلوب أن نمتلك القصور أو مرابط الخيل، لأننا سنكون ببساطة قد سقطنا معها، وإلى الأبد.

• كاتب وصحافي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى