المطلوب لإخراج لبنان من محنته

كانت فكرة المحتجّين الشباب في لبنان عبقرية عندما دعوا حركتهم “طلعت ريحتكم”. في كلمتين فقط، إختصروا على حدّ سواء جوهر الأزمة الحالية حول القمامة غير المُحصَّلة، والمشاكل الهيكلية الطويلة الأمد التي يعاني منها بلدهم.
على مدى الشهرين الفائتين، تكدّست القمامة في المدن اللبنانية فيما كان السياسيون في البلاد يساومون على منح العقود لجمعها والتخلص منها. إنه الصيف، ورائحة تعفن النفايات في كل مكان. ولكن كما أشار المتظاهرون بشكل صحيح، هذه الفوضى ليست سوى علامة على تعفّن أعمق للنظام السياسي الطائفي الفاسد والمشلول الآن في لبنان.
البرلمان لا يجتمع، ولا يمكنه حشد الأصوات اللازمة لإنتخاب رئيس للبلاد؛ كما لم يشرّع موازنة منذ 2005؛ ومدّد ولايته مرتين لأنه لم يتمكّن من الإتفاق على قانون إنتخاب جديد. والشلل عينه ينطبق الآن على الحكومة أيضاً.
في ظل غياب مؤسسات دولة فعّالة، تتحوّل السلطة والإمتيازات إلى العشائر والطوائف في البلاد والزعماء الإقطاعيين الذين يديرونها. وبطريقة منحرفة، خدمت هذه الدولة الضعيفة والمتفق فيها على توزيع السلطة والمحسوبية، لبعض الوقت، كمصدر لصمود لبنان. ووفّرت لأعضاء كل طائفة درجة من النفوذ والمحسوبية، وإستوعبت سخطهم. وأصبح هذا النظام متحجّراً، لكنه ظل اللعبة الوحيدة في الساحة.
إن الفترة صعبة الآن. لقد ألهبت الحرب الدموية المجاورة العواطف، وشارك فيها مباشرة بعض اللبنانيين (وأبرزهم “حزب الله”) وصدّرت 1.5 مليون لاجئ سوري إلى لبنان، الأمر الذي وضع ضغطاً شديداً على موارد البلاد والنظام السياسي المهترىء والمتدهور.
وقد تفاجأ المراقبون أنه حتى مع هذه الضغوط، بقي البلد هادئاً بشكل ملحوظ حتى الآن. مظاهرات “طلعت ريحتكم” كانت الإندلاع الأول للسخط الشعبي.
مع ذلك، إن مشكلة لبنان عميقة جداً، وهي لن تُحل من طريق الإحتجاجات الحاشدة. النظام الطائفي راسخ ٌجداً، وعلى الرغم من الثقافة السياسية النابضة بالحياة في لبنان والحريات النسبية، هناك غياب ملحوظ لمؤسسات سياسية وطنية غير طائفية التي يمكن أن تكون عربات للتغيير المطلوب.
على الرغم من ذلك، هناك شيء للبناء عليه. في تحليل لإستطلاعات الرأي التي أجرتها “مؤسسة زغبي لخدمات البحوث” في لبنان على مدى ال15 عاماً الفائتة، نلاحظ تقارباً ملحوظاً في وجهات النظر عبر خطوط الطوائف التي يمكن أن تشكّل أساساً لحركة واسعة النطاق لتغيير جوهري.
للتأكيد، هناك قضايا تفرّق اللبنانيين. لكن لبنان هو البلد العربي الوحيد (حسب هذه الإستطلاعات) حيث جميع الفئات الديموغرافية تعلن بأن هويتها الأساسية الأولى هي لبنانية، قبل أن تكون عربية أو دينية. وعبر خطوط الطوائف، يحدّد جميع اللبنانيين الأولويات السياسية عينها: توسيع نطاق فرص العمل، وإنهاء الفساد والمحسوبية، والإصلاح السياسي، وتحسين نُظم التعليم والرعاية الصحية. وأبرزها، عندما يُطرح السؤال إذا كانوا يدعمون الإنتخابات على أساس التوزيع الطائفي الحالي أو نموذج “شخص واحد، صوت واحد” أو “نظام إنتخاب نسبي”، أجابت الغالبية، من كل مجموعة، بأنها تفضل الخيار الأخير.
لا ينبغي هنا الخطأ، إن الهياكل القائمة ستجد في النهاية وسيلة لإلتقاط القمامة، لكنها لن تتخلّى طواعية عن إمتيازاتها. ما يحتاجه لبنان هو حركة سياسية يمكن أن تبني برنامج إصلاح وطنياً غير طائفي؛ الذي يمكنه تعبئة الناس حول القضايا التي توحّدهم؛ حركة يمكنها تقديم مرشحين في الإنتخابات البرلمانية المُقبلة، والبدء في عملية جذب جيل جديد من القادة الى المسرح السياسي اللبناني.
ليس هذا هو الوقت للإعلان عن تغيير النظام، كما فعل بعض الكتّاب، والإحتفال ب”العاصفة الثانية” ل”الربيع العربي”. لبنان ليس مصر، كما أنه ليس تونس. لا يتحمّل هذا البلد أي إضطرابات كما أنه سوف لن يستفيد منها. فهو لا يزال هشّاً للغاية، ويفتقر إلى المؤسسات الوطنية التي يمكن أن تمتص الصدمة من إطاحة متطرفة للحكومة، كما هو حالها الآن.
ما يحتاجه لبنان هو تطور سياسي مطرد والذي لا يمكنه أن يأتي إلّا من حركة وطنية منضبطة مع رؤية إستراتيجية. وسوف لن يكون الأمر سهلاً، كما أن التغيير لن يأتي بسرعة. ولكن في الواقع ليس هناك من بديل.

كابي طبراني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى