الشرقُ الأوسط يَتَّجهُ نحوَ الاستقرار؟

يبدو حتى الآن بأنَّ المنافسة المتزايدة بين القوى العظمى تسمح للدول، وخصوصًا في الشرق الأوسط، عقد صفقاتٍ تُحقّق مصالحها الخاصة.

الأمير محمد بن سلمان: خذلته إدارة ترامب فقرر اتباع مسار آخر في المنطقة.

روس هاريسون وأليكس فاتانكا*

اجتمع عددٌ من وزراء الخارجية في عاصمةٍ آسيوية للتفاوضِ على إنهاءِ إضطراباتٍ إقليمية. إحدى الدول المُمَثَّلة في الاجتماع توسّطت في اتفاقٍ لإنهاءِ الأعمال العدائية بين دولٍ أخرى.

قد يكونُ هذا اتفاق بكين 2023 لتطبيع العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية. ولكن يُمكِن أن تكون بانكوك أيضًا في العام 1967، عندما ساعد وزير خارجية تايلاند في صياغةِ اتفاقٍ لإنهاء الأعمال العدائية بين إندونيسيا وماليزيا. كان هذا الاجتماع هو المكان الذي وُلد فيه مفهوم إحدى أنجح المنظمات الإقليمية في العالم: رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).

بحلول أواخر الستينيات، كان من الواضح لدول جنوب شرق آسيا أنه من دونِ تعاونٍ بينها لن تتمكّن من الازدهار اقتصاديًا، ولن تكون قادرة على توفير أمنها، لا سيما مع صعود الصين. كانت الأحداث التحويلية في المنطقة والعالم على القدر نفسه من الأهمية في تشكيل “آسيان”.

مع اندلاع الحرب في فيتنام وتزايد المخاوف بشأن انتشار الشيوعية من الحركات المدعومة من الصين، هددت الاقتصادات ذات الأداء الضعيف بنزع الشرعية عن الحكومات في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا. كانت بريطانيا على وشك الانسحاب من المنطقة؛ عالميًا، بعد عقدين من الزمن انتهت الحرب الباردة. ساهمت هذه العوامل في تشكيل –وفي ما بعد توسيع العضوية– “آسيان”.

تشيرُ حالات خفض التصعيد الأخيرة إلى أن الوعي الإقليمي الذي ظهر في جنوب شرق آسيا في الستينيات من القرن الفائت قد يترسّخ في الشرق الأوسط. بدأت المحادثات بين إيران والمملكة العربية السعودية في نيسان/ إبريل 2021 في بغداد، وذهبت إلى مسقط، في سلطنة عُمان، ووصلت في النهاية إلى بكين، حيث تُوِّجَت باتفاقٍ يحمل وعدًا بالاستدامة. كما تشير التطورات الأخرى، مثل اتفاقيات أبراهام والتقارب الناشئ بين تركيا ومصر، إلى اتجاهٍ نحو التطبيع.

من السهل التشكّك في آفاق الديبلوماسية في الشرق الأوسط. وينطبق هذا بشكلٍ خاص على التطبيع بين إيران والسعودية، حيث تُثيرُ الأسئلة حول الفوائد غير المتوازنة لطرفٍ أو لآخر مخاوِفَ بشأن المدة التي سيستغرقها ذلك. ولكن كما هو الحال مع جنوب شرق آسيا في الستينيات، هناك قوى فاعلة في الشرق الأوسط والعالم اليوم يجب أن تُخفّفَ من شكوكنا.

يتمثّلُ أحدُ موضوعاتِ اللحظة الحالية في أنَّ دولَ الشرق الأوسط تَعقُدُ صفقاتٍ تستند إلى مصالحها الوطنية الخاصة بدلًا من الرقص على أنغام الغرباء. هذا الاستقلال هو للمفارقة بسبب التنافس بين القوى العظمى في المنطقة، وليس على الرُغم منه. مع تصاعد التنافس بين القوى العظمى، أصبح لدى القوى الإقليمية المزيد من الخيارات وتعمل كوكيلة حرّة أكثر من كونها حليفة ملتزمة للقوى العالمية.

على سبيل المثال، تُظهِرُ إسرائيل والمملكة العربية السعودية استقلالًا كبيرًا عن الولايات المتحدة في قضايا تتراوح من سياسة الطاقة إلى مقاربات الحرب الروسية في أوكرانيا. إيران، في سياق دورها في تزويد روسيا بطائراتٍ مُسيَّرة  للحرب الروسية-الأوكرانية، تشعر أيضًا بمزيدٍ من الثقة.

علاوة على ذلك، في حين أن الولايات المتحدة لن تنسحبَ من الشرق الأوسط، فإن حلفاءها في الخليج العربي أصبحوا يشكّكون في مصداقيتها كضامن وشريك للأمن. ويؤدي هذا إلى تقريبهم من إيران وليس الابتعاد منها. القشّة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى السعودية كانت هجمات الطائرات المسيرة في العام 2019 على مصفاتَي نفط، بقيق وخريص، المملوكتين لشركة أرامكو الحكومية. كان يُعتَقَدُ على نطاقٍ واسع أنَّ هذه الهجمات هي من صنع طهران، لكن إدارة الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب لم تفعل شيئًا يُذكَر للرد على الرُغم من كلامها الهجومي المستمر ضد إيران. بالنسبة إلى السعوديين، فإن مبدأ كارتر، الذي تمت صياغته في العام 1980 كالتزامٍ أميركي باستخدام القوة للدفاع عن مصالحها الوطنية في الخليج العربي، قد انتهى. لا شك أن هذا التطور دفع السعوديين إلى الانفتاح على التفاوض مع إيران. وبحلول العام 2021، كانت الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان أيضًا تقومان على قدم وساق بتوسيع حواراتهما مع إيران.

كان هناك اعتقادٌ سائدٌ في واشنطن بأنَّ الشرقَ الأوسط لا يمكن أن يستقرَّ بدون تدخّل الولايات المتحدة. لكن في البيئة الحالية، من الواضح أن الدافعَ الأساسي لتحقيق الاستقرار يجب أن يأتي من القوى الإقليمية. كما تُظهِرُ هذه التحرّكات الأخيرة نحو الحوار، فإن وجهةَ نظرٍ تترسّخ في المنطقة مفادها أنَّ الاستقرارَ وخفض التصعيد -من الحرب الأهلية في اليمن وسوريا إلى المشاكل في لبنان والعراق- يتطلّب تعاونًا بين الأطراف الإقليمية الفاعلة، مع أو بدون مشاركة الولايات المتحدة.

يُعتَبَرُ الدور الديبلوماسي الجديد للصين في الشرق الأوسط عاملًا آخر يمكن أن يساعد على الحفاظ على اتجاهاتِ خَفضِ التصعيد. تتجنّبُ بكين نَهجَ الولايات المتحدة في الموازنة الخارجية ضد إيران عبر االسعودية وإسرائيل؛ فهي ترى أنَّ مثلَ هذا النهج تصعيدي. بدلًا من ذلك، تتخذ الصين نهجًا أكثر حيادية تجاه النزاعات الإقليمية، على أساس أنها ستهدّئ التوترات بدلًا من تأجيجها.

سلّطت مصادر إيرانية عدة الضوءَ على الدور الحيوي الناشئ للصين كعامل استقرارٍ إقليمي. أفادت وسائل الإعلام الإيرانية الحكومية أنه بعدما هاجمت إيران الأصول البترولية السعودية في العام 2019، حذّرت الصين طهران من أن مثل هذه الأعمال تُقوّضُ مصالحها، نظرًا إلى أن سياسة أمن الطاقة في بكين تستند إلى استيراد النفط السعودي والخليجي بدون عوائق.

بكين هي أكبر شريك تجاري لكلٍّ من إيران والمملكة العربية السعودية، على الرغم من أن التجارة الصينية-السعودية أكبر بنحو ستة أضعاف من التجارة الصينية-الإيرانية. بالنظر إلى أن الصين تتلقى نصف نفطها من الخليج العربي، فإن أمن الطاقة لديها يستلزم الضغط من أجل سياساتٍ تُقلّلُ من احتمالية نشوب صراع بين الإيرانيين والسعوديين. يبقى أن نرى ما إذا كانت الصين لديها الثقل والإرادة السياسية لمساعدة إيران والسعودية على متابعة التكامل الاقتصادي، وهو النوع الذي شهدته القارة الأوروبية في نهاية الحرب العالمية الثانية. الواقع أن هذا سيكون اختبارًا كبيرًا للصين.

ربما على عكس ما هو مُتَوَقَّع، فإن غزوات الصين الديبلوماسية في الشرق الأوسط يمكن أن تدفع واشنطن نحو الديبلوماسية أيضًا. ربما تكون تحركات الصين بمثابة قوة دافعة للحديث الأخير عن اتفاقٍ غير رسمي بين إيران والولايات المتحدة بشأن القضية النووية. من ناحيةِ السُمعة، يتعيّن على البيت الأبيض الآن محاربة رواية الصين كصانعة سلام والولايات المتحدة باعتبارها داعية للحرب لا تريد سوى بيع الأسلحة إلى الشرق الأوسط.

بشكلٍ عام وفي المدى القصير، ستستفيد الرياض أكثر من مشاركة الصين. تفوز الرياض إذا تمكنت الصين من الضغط على طهران لإجبار الحوثيين في اليمن على التوصل إلى اتفاق سياسي مع المملكة والتوقف عن التهديد باستهداف البنية التحتية والتجارة والخطط الاقتصادية السعودية. كما يربح السعوديون إذا فشل الإيرانيون في القيام بذلك، حيث يمكن للرياض أن تُظهرَ لبكين أنَّ الإيرانيين ليسوا جادين في وقف التصعيد.

كما إنَّ للاستئنافِ الديبلوماسي فائدة أخرى للرياض: في حالة نشوبِ صراعٍ عسكري بين إيران والولايات المتحدة أو إيران وإسرائيل، فقد جعل السعوديون الآن من غير المرجح أن تصبح السعودية هدفًا للانتقام الإيراني.

المكاسب قصيرة المدى لطهران هي أنَّ هذه الاتفاقية مع الرياض قد تدفع السعودية بعيدًا من إسرائيل، على الأقل في الوقت الحالي. والأهم من ذلك، على الأقل، أن الصفقة يمكن أن تشير إلى حقبةٍ جديدة من “السلام البارد” بين طهران والرياض، حيث يتوقف الجانبان خلالها عن التدخل في الشؤون الداخلية لبعضهما البعض. ويعتبرُ الجانبان هذا الوعد بعدم التدخل أمرًا محوريًا، وهي رسالة تكررت خلال زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود إلى طهران في 17 حزيران/ يونيو.

لا تعكس هذه الحسابات المتغيّرة الحقائق المتحوّلة على المستوى الإقليمي والعالمي فحسب، بل تعكس أيضًا الضغوط التي تواجهها النخب الحاكمة الإيرانية والسعودية على المستوى المحلي.

في حالة المملكة العربية السعودية، فإن أجندة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هي واحدة من التحوّلات الهائلة في المجتمع السعودي. وفوق كل شيء، فإن القيادة في الرياض مقتنعة بأن أفضل استراتيجية وطنية لمستقبل البلاد هي تلك التي تركز على التنمية الاقتصادية في الداخل، بما في ذلك الالتزام بمنصة رؤية 2030 لولي العهد.

على الجانب الآخر، قد يكون وصول الرئيس الإيراني المتشدد إبراهيم رئيسي دفع طهران والرياض تجاه بعضهما البعض. بعد رحيل ما يسمى بالحكومة البراغماتية لحسن روحاني في العام 2021، واجه السعوديون نظامًا إيرانيًا استقرت فيه كل السلطة في أيدي الفصيل المتشدد. في غضون ذلك، تعرّضَ هذا الفصيل المتشدّد في طهران لضغوطٍ لتحقيق نتائج. ومن هنا، ازدادت احتمالية وفاء إيران بوعودها -لا سيما في ما يتعلق بتعديل سياساتها الإقليمية- بالنظر إلى أن أجندة طهران الإقليمية كانت في أيدي الحرس الثوري المتشدد.

في الوقت عينه، لم يستطع النظام في إيران أن يرى أو يجد مخرجًا من مأزقه مع واشنطن. بدلًا من ذلك، وجد أن أفضل الطرق هو التوجه إلى سياسة جديدة تجاه خصومها العرب بهدف الالتفاف على العقوبات الأميركية. لقد أدرك صناع السياسة في طهران فائدة الجيران المباشرين كقنواتٍ للتجارة العالمية.

لهذا برزت الإمارات العربية المتحدة والعراق وسلطنة عُمان أخيرًا ضمن أكبر الشركاء التجاريين لإيران. على أقل تقدير، يأمل النظام في طهران أن يؤدي الانفراج مع الرياض إلى الحد من الإجراءات المناهضة لإيران من قبل السعوديين ، بما في ذلك الدعم المالي للعمليات الإعلامية المعارضة في الشتات الإيراني الكبير، وهي قضية ملحة لطهران منذ اندلاع الاحتجاجات في أيلول/ سبتمبر 2022 على أثر وفاة محساء اميني التي كانت في عهدة النظام.

هناك أيضًا عامل خلافة المرشد الأعلى في طهران. في الوقت الحالي، على الرغم من ذلك، من حسن حظ رئيسي أن أجندة آية الله علي خامنئي البالغ من العمر 84 عامًا تتداخل بشكل جيد مع احتياجاته السياسية.

يمكن أن يستفيد الاستقرار الإقليمي المستدام من ثلاث قوى محلية وإقليمية وعالمية تسير في الاتجاه عينه. شيءٌ واحد يجب مراقبته هو ما إذا كانت اتفاقيات أبراهام والتقارب الإيراني-السعودي ستتكامل أو تتعارض مع بعضها البعض. في حين أن هناك احتمالًا ضئيلًا بأن يكون هناك أي تعاون رسمي بين إسرائيل وإيران، فمن الممكن أن تسير اتفاقيات أبراهام بالتوازي مع التقارب السعودي-الإيراني. يمكن لموقف الصين الأكثر حيادية أن يسمح بذلك. سيكون العامل الرئيس هو ما إذا كانت المملكة العربية السعودية ستنضم في نهاية المطاف إلى اتفاقيات أبراهام، والتي يمكن أن توفر بطريقة ما جسرًا غير رسمي بين المبادرتَين.

في حين أنه من الصحّي التشكيك في الدوافع وراء تطبيع العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية أخيرًا واختبار الإرادة السياسية للبلدين تجاه وقف التصعيد، فإن السخرية قد تعمينا عن احتمالات مستقبل أفضل لهذه المنطقة المضطربة.

  • روس هاريسون هو زميل كبير في معهد الشرق الأوسط وفي هيئة التدريس بجامعة بيتسبيرغ. وهو مؤلف للعديد من الكتب عن الشرق الأوسط وهو حاليًا متعاقد لتأليف كتاب عن سياسة إيران الخارجية. يمكن متابعته عبر تويتر على: @georgetownprof
  • أليكس فاتانكا هو مدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان “معركة آيات الله في إيران: الولايات المتحدة والسياسة الخارجية والتنافس السياسي منذ العام 1979”. يمكن متابعته عبر تويتر على: @AlexVatanka
  • يصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى