كارِثَةُ الولايات المتحدة في أفغانستان تَضَعُ حدوداً للقوّة العظمى

أسامة الشريف*

السقوط الدراماتيكي لأفغانستان في أيدي طالبان سيُسَجَّل في التاريخ باعتباره أكبر كارثة عسكرية وسياسية أميركية منذ عقود. حتى عندما سحبت قواتها من البلد الذي احتلته على مدار العشرين عاماً الماضية، أساءت الولايات المتحدة التعامل مع الوضع وأخطأت الحسابات كما فعلت لسنوات. إستغرق الأمر عامين من الجيش الفيتنامي الجنوبي المُجَهَّز تجهيزاً جيداً للاستسلام أخيراً بعد الانسحاب الأميركي المُهين من فيتنام، ولكن بالنسبة إلى الجيش الأفغاني الذي درّبه الأميركيون، والبالغ عدده 300 ألف جندي، استغرق الانهيار أقل من شهر. يوم الأحد، دخلت طالبان كابول من دون قتال. بحلول المساء، كان أفرادها يحتفلون في القصر الرئاسي ويتعهّدون بإعلان أفغانستان إمارة إسلامية. وفرّ الرئيس أشرف غاني وكبار المسؤولين من البلاد. لقد تركت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون ملايين الأفغان لمصيرهم.

كانت هناك “لحظات سايغون” في ذلك اليوم المشؤوم: مروحيات أميركية تُحلّق فوق مبنى السفارة الأميركية المهجور لإجلاء الموظفين، بينما كان الآلاف من المتعاونين الأفغان “الودودين”، من مترجمين ومساعدين وعائلاتهم يسرعون لركوب الطائرات لمغادرة نهائية للمدينة المتروكة لقدرها. وسط الهرج والمرج، سيُترك معظمهم في نهاية المطاف لمصيره.

بالنسبة إلى إدارة جو بايدن، لا توجد استراتيجية واضحة لما يجب فعله بعد ذلك. مثل سلفه، دونالد ترامب، أراد بايدن إنهاء هذه الحرب التي لا نهاية لها. لكن الاعتماد على الجيش الأفغاني لصدّ تقدّم مقاتلي طالبان، حتى لبضعة أشهر، ثبت أنه خطأٌ استخباراتي كبير. بعد عشرين عاما وإنفاق مئات المليارات من الدولارات وفقدان عشرات الآلاف من الأرواح، خرجت الولايات المتحدة مهزومة، حيث لم تستطع تحقيق أهداف استراتيجية تُذكَر. على الرغم من أن بايدن قال إن أميركا لم تكن موجودة لبناء الدولة، فإن الحقيقة هي أن الإدارات المتعاقبة كانت تأمل في أن تكون الديموقراطية على النمط الغربي في أفغانستان هي الضمان الوحيد لعدم عودة طالبان والجماعات الجهادية الأخرى إلى السلطة.

كما هو الحال في العراق، فشلت الولايات المتحدة في فهم تعقيدات المجتمع والثقافة الأفغانية. لقد فشلت في تقدير الدور الذي لعبته الدول المجاورة، مثل باكستان، لتوفير ملاذٍ آمن لرجال طالبان المُنسَحِبين والهاربين من أفغانستان في أعقاب غزو حلف شمال الأطلسي (الناتو) في العام 2001. ومثل الاتحاد السوفياتي البائد، فشلت في استخلاص دروس التاريخ. لقد أصبحت أفغانستان نقطة ارتكازٍ لصراعٍ جيوسياسي على السلطة لم تستطع حتى القوّة العظمى الوحيدة في ذلك الوقت حلّه.

إن الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الأميركي سوف يملأه جيران أفغانستان القريبون والبعيدون. هذه هي الطريقة التي يُعمَلُ بها دائماً. ستتدخّل روسيا والصين آجلاً أم عاجلاً. تحتاج طالبان إلى الاعتراف إذا أرادت البقاء على قيد الحياة. ليس من الواضح كيف ستَحكُم دولة كانت في حالة حرب طوال العقود الأربعة الماضية مع انقسامات طائفية وقبلية وعرقية عميقة. هل ستتقاسم السلطة مع منافسين محليين أم ستعود إلى الحكم الاستبدادي المُتزمّت والمُتشَدِّد الذي كان سائداً في الماضي عندما كانت في السلطة؟ وماذا عن تنظيم “القاعدة” والجماعات الإرهابية الأخرى التي عاودت الظهور وإعادة تجميع نفسها تحت حماية طالبان؟ ماذا يعني ذلك للغرب والمنطقة؟ ماذا عن الديموقراطية الوليدة وحقوق المرأة وحقوق الإنسان وحرية التعبير؟ التوقّعات ليست جيدة ومستقبل البلاد يبدو قاتماً.

ثم هناك ردُّ الفعلِ الإيديولوجي في الداخل، في الولايات المتحدة. يُمثّل سقوطُ كابول نهايةً رمزية لما يقرب من عقدين من رؤية المُحافظين الجُدد للعالم، ودور أميركا الذي تمّ تكريسه في شعار السياسة الخارجية في عهد جورج دبليو بوش الإبن. لقد وصلت الأيديولوجية التدخّلية التي دفع بها رموز المحافظين الجدد في عهد بوش إلى نهايتها أخيراً. لقد اسُتنفِدَت الولايات المتحدة وأصبح الشرق الأوسط مصدرَ إزعاجٍ جيوسياسي، وعائقاً، وليس مجالاً سلمياً للنفوذ الأميركي.

هل تُشيرُ الكارثة الأفغانية إلى احتضانٍ بطيءٍ للإنعزالية الإنتقائية لواشنطن؟ يُمكن أن تُسرّع من التحوّل إلى جنوب شرق آسيا الأكثر استقراراً، وإلى منطقة حيوية من الناحية الاستراتيجية مثل أميركا الجنوبية والوسطى، وإلى علاقة أكثر راحة وإنصافاً مع الاتحاد الأوروبي.

إن التخلّي الأميركي عن أفغانستان يبعثُ رسالةً مقلقة إلى حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين بأجنداتهم المتضاربة، والأهم من ذلك إلى خصومهم التقليديين؛ إيران وتركيا وروسيا. وبدون تدخّل أميركي مباشر في المنطقة، يجب أن يشعر حلفاء أميركا بالقلق. هناك شيءٌ واحد مُؤكّد وهو أن تداعيات رحيل الولايات المتحدة من أفغانستان ستظل محسوسة لسنواتٍ في منطقة لا تزال مُتقلّبة ومُقلقة وقلقة، لكنها لا تزال على القدر عينه من الأهمية لجيرانها المباشرين مثل أوروبا وروسيا لأنها تُحارب عقيدة دينية متطرفة وانقسامات طائفية وعرقية، وتبحث بشكلٍ يائس عن الديموقراطية والمساواة.

  • أسامة الشريف هو صحافي ومٌحلّل سياسي مُقيم في عمّان، الأردن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @OsamaAlSharif3

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى