من رقم الكتاب إِلى الكتاب الرقمي

هنري زغيب*

في حديثٍ هاتفي مع صديق العمر الأَديب عبدالله نعمان في باريس، أَخبرَني عن مشاهدَتِه مفاجأَةً لدى زيارته أَمس “مكتبةَ القديسة جنفياف” في قلب العاصمة الفرنسية. وجنفياف (420-502) كانت راعيةَ غنمٍ بسيطةً، وترهْبَنَت وباتت قديسةً تواصلَت شفَويًا بالواسطة مع سمعان العمودي (389-459) قرب حلب، وهي “شفيعة باريس” ومنقذتُها سنة 451.

المكتبة، ويعود تأْسيسها إِلى سنة 1851، هي من أَكبر المكتبات العامة في فرنسا. تضمُّ اليوم نحو مليون ونصف مليون كتاب، فيها جناحٌ خاص لأَفلام الفيديو الثقافية، وجناح كبير خاص للمكتبة الرقمية يضم 6500 وثيقة أَصلية و4000 كتابٍ رقمي، و87 قاعدةً رقمية تتيح الدخول إِلى ما في موجوداتها الرقمية من كنوز الفكر وجواهر الآداب والفنون.

المفاجأَة التي عاينَها صديقي عبدالله نعمان في المكتبة أَنه عند البحث عن مؤَلَّفاته – وهي كثيرةٌ بالعربية والفرنسية – وجدَ في جناح المكتبة الرقمية كتابَه الفرنسي الضخْم “لبنان: تاريخُ أُمةٍ لم تكتمل” (Le Liban – Histoire d’une nation inachevée) وهو كان صدَر سنة 2015 لدى منشورات Glyphe في ثلاثة أَجزاء كبرى من 2200 صفحة مدقَّقة وموثَّقة حتى لهو من أَبرز ما صدَرَ في العالَم عن لبنان في السنوات العشر الأَخيرة.

الشاهدُ هنا ليس الكتابَ في ذاته – وطبعتُه الورقية تكاد تنفُد من المكتبات في فرنسا وفي العالَم -، بل الشاهدُ أَن يتحوَّلَ كاملًا 2200 صفحةٍ رقميةٍ يطلبُها رواد المكتبة، ويقرأُونها في زيارات متتالية، مزوَّدين ببطاقةٍ خاصةٍ تتيح لهم دخول المكتبة مجَّانًا، ويجدِّدونها مجانًا كلما انقضَت مُهلَتُها.

شاهدٌ آخَر: دخولُ العصر الرقمي. فبعدما عاندَ كثيرون ضدَّ القراءَة على شاشةِ الهاتف الخَلَوي الصغيرة، أَو شاشةِ اللوح الذكي الأَكبر قليلًا، أَو شاشةِ الكومبيوتر ثابتًا أَو محمولًا، دخل معظمُهم العصرَ الرقمي، واعتادوا قراءَة الجريدة أَو الكتاب على الشاشة بدل حمْله بالكفَّين أَو حمْلها باليدين. وهذه ظاهرة صحية تجتاح مَن ما زالوا حتى اليوم يعاندون ويتحجَّجون بحبِّهم شعورَ حفيفِ ورق الجريدة وتقليبِ صفحات الكتاب يدويًّا.

أَعرف أَنْ عندنا في المكتبات الجامعية جناحٌ خاص بالوثائق الرقمية، ولا أَعرف إِنْ كان في مكتباتنا العامة هذا الجناح. وإِن كان موجودًا فبادرةٌ ممتازة، شرطَ أَن يضُمَّ هذا الجناحُ الرقمي كمًّا وافرًا من أَدبنا اللبناني، شعرًا وروايةً وقصصًا وأَبحاثًا، وخصوصًا تلك الكتب النافدة وَرَقيًّا من زمان، لأُدباء لبنان وشعرائه الذين، بنَفاد كتُبهم الورقية، ينفُدُ الحديثُ عنهم فيَنْزَوُون في الذاكرة البعيدة، فيما كُتُب الآداب الأَجنبية تزداد رقميًّا فيبقى مؤَلِّفوها أَحياءَ في نتاجهم بعد نَفاده وَرَقيًّا.

وبعد إِمكان شراء الكتب إِلكترونيًّا لدى معظم مكتباتنا التجارية، يَجمُلُ بمكتباتنا العامة أَن تنقُل رقميًّا أَدبَنا اللبناني كي يدخُلَ روَّادُها بابين: بابَ المكتبة الخارجي وبابَ العصر الداخلي، وينتقلوا من البحث عن رقْم الكتاب على الرفّ فيقرأُوه ورقيًّا، إِلى الكتاب الرقمي فيقرأُوه على الشاشة التي باتت اليوم صفحةَ العصر وهويتَه ومساحتَه العالَمية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى