فُرَصُ العطاءِ الاجتماعي الاستراتيجي هائلة؛ هذا ما تحتاجُ الشركاتُ إلى القيامِ به

دكتور إيلي أبوعون وموللي غالاغر*

تُشيرُ دراساتٌ مختلفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أنَّ ما يقرب من ثمانية أو تسعة من أصل 10 أشخاص في دول مجلس التعاون الخليجي يُقدّمون تبرعات، أكثر من النصف تبرّعاتٌ عفوية وثلثها يذهب إلى الجمعيات الخيرية بدلًا من الاستثمار في مبادراتٍ اجتماعية. هذا يشيرُ إلى أنه على الرُغمِ من كونه صادقًا وسخيًّا، إلّا أنَّ العطاءَ الاجتماعي في المنطقة، سواء من قبل الأفراد أو المؤسسات أو الشركات، غالبًا ما يفتقرُ إلى الاستراتيجية والعُمق والفعالية.

الجذورُ الثقافية لمَفهوم العطاء الاجتماعي في المنطقة قديمة وعميقة. قِيَمُ الكَرَم والضيافة والرحمة محورية وجُزءٌ من نسيجِ المجتمعات في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يُمكِنُ لأيِّ زائرٍ أو ضيفٍ أن يختبرها بسهولة. على سبيل المثال، ينصُّ أحدُ الأعراف البدوية أن يتمَّ التعاملُ مع أيِّ زائر، غريبًا أو أجنبيًا وحتى لو كانت الزيارة غير مُعلَنة، كأحد أفراد العائلة وإظهار أقصى درجات الضيافة، ومنها توفير المأوى والطعام والماء والملابس بدون سؤالٍ حتى اليوم الثالث من إقامته.

وبعيدًا من مفهومِ الكَرَم والضيافة، تؤكد الأديان السماوية الثلاثة السائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على فريضة التضامن الاجتماعي لتعزيز رفاهية الإنسان من خلال تشجيع -وأحيانًا إلزام- المؤمنين والمؤمنات المساهمة بجُزءٍ من الدخل لتحقيق الصالح العام عبر آلياتٍ ووسائل مختلفة كالعشور في اليهودية وبعض الطوائف المسيحية إلى نظائره في الإسلام ( الزكاة، الخمس، الصدقة)، أو مفهوم الأوقاف الخيرية.

مما لا شَكَّ فيه أنَّ نموَ قطاعِ العطاء الاجتماعي تأثّرَ سلبًا بالنزاعات التي سادت في المنطقة لعقودٍ طويلة مثل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني أو الحرب الإيرانية-العراقية، أو وضع العراق بعد العام 2003، وكذلك الحروب الأهلية في اليمن ولبنان وسوريا وليبيا والسودان وغيرها. ومع تزايد حدّة العنف في المنطقة، برزت الحاجة إلى دعمِ الجهود الإغاثية، فاتجه معظم المتبرّعين والمتبرّعات إلى تلبيةِ الحاجات الملحّة كتوفير الغذاء والمأوى والخدمات الطبية، والدعم النفسي والاجتماعي للفئات المُهمَّشة أو المتأثرة بالنزاعات مثل النساء والأطفال واللاجئين والنازحين وغيرهم.

إذًا، حالت هذه النزاعات والسياسات القمعية في أكثر من بلد من تحوّلِ قطاع العطاء الاجتماعي من المقاربة الخيرية (ردّ الفعل) إلى مُقاربةٍ استراتيجية واستباقية، خصوصًا مع استمرار شَيطنة بعض مَن تبرّع لصالح مبادراتِ تغييرٍ اجتماعي حيث تعرّضوا للتشهير والاستهداف من قبل الحكومات، ما عمَّق الخوفُ من التحوّلِ إلى كبشِ فداءٍ في جوٍّ من الاستقطاب السياسي المتزايد. أخيرًا وليس آخرًا، فإنَّ العقوبات الغربية على بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل سوريا، تجعل الأمر معقّدًا للغاية وأحيانًا من المستحيل تقريبًا تعبئة الموارد للعطاء الاجتماعي حتى عندما تكون الأهداف إغاثية بحتة مثلما حصل في أعقاب زلزال شباط (فبراير) 2023 في تركيا وسوريا.

على الرُغمِ من الفوضى في المنطقة والتحدّياتِ المُرتَبِطة بحالةِ عدم الاستقرار، إلّا أنَّ هناك العديدَ من الفُرصِ يُمكنُ لقطاعِ العطاءِ الاجتماعي أن يقتنصها للمساهمة بوضع المنطقة على مسارِ التعافي من خلال تجاوز الخوف واستبدال الحرص المستميت بلعبِ دورٍ محوَري في بناءِ أرضيّةٍ للاستقرار والتنمية، مما سيدرّ أرباحًا على جميع اللاعبين أوّلهم قطاع الأعمال.

ذَكَرَ تقريرُ عَدَم المساواة العالمي لعام 2022 أنَّ مُعدّلَ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (في عدم المساواة) هو الأعلى في العالم. يُعزّزُ هذا التفاوت الاقتصادي وارتفاع مستويات البطالة بين الشباب شعورًا باليأس والإذلال، ما يجعلُ المنطقة عرضةً بشكلٍ خاص لتفاقم الحركات الاحتجاجية واحتمال عدم الاستقرار. ويُذكَرُ هنا أنَّ الاضطرابات الناتجة عن الاحتجاجات ذات الخلفية الاقتصادية أو الاجتماعية غير محصورة في البلدان التي تشهد حاليًا نزاعاتٍ عسكرية، بل يمكن أن تطال معظم دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حيث يستمر تآكل العقود الاجتماعية بسبب القمع والفساد وعدم الكفاءة. يتزايد شعور الشباب بالإحباط بسبب غياب مسارات الحراك الاجتماعي الصاعد، الأمر الذي يدفعهم إلى الهجرة غير النظامية والعنف والجريمة والتطرّف. هذه العوامل، بدورها، تُفاقِمُ الهشاشة  وتخلق دوراتٍ مفرغة تُديمُ عدم المساواة.

لذا, من الواضح أنَّ البناءَ على الجذور الثقافية للعطاء الاجتماعي من أجلِ تصويبِ وجهته وتعزيز فعاليته وبُعدِه الاستراتيجي سوفَ يكون له اثر كبير في الهشاشة وعدم الاستقرار في المنطقة، وبالتالي يساهم في تحسين بيئة الأعمال، ويضفي سلاسةً أكبر على العمليات التجارية ويزيد من ربحيتها.

على سبيل المثال، بالإضافة إلى توفير الاحتياجات الأساسية الفورية مثل الغذاء والمياه والمأوى وغيرها، يمكن لقطاع العطاء الاجتماعي أيضًا الاستثمار في مبادراتٍ تهدفُ إلى تحوّلٍ حقيقي في سلّم القِيَمِ وأخلاقيات الأعمال الخاصة والعامة، بما في ذلك من خلال دعم المنظمات المحلية العاملة على تدعيم التماسك الاجتماعي، وترشيد الحكم المحلي وتوفير آليات وأدوات لحل النزاعات على مختلف المستويات. كذلك، يمكن لقطاع العطاء الاجتماعي أن يساهِمَ جديًا في استقرار المنطقة من خلال الانخراط في تطوير البنى التحتية وتعزيز الفُرَص الاقتصادية للفئات المهمّشة عبر تحفيز الإدماج المالي وريادة الأعمال والمشاريع التي تهدف إلى سدِّ فجوة المهارات، ما يُعزّزُ النمو الاقتصادي الشامل والحراك الاجتماعي الصاعد.

ينبغي على الجهات المنخرطة في العطاء الاجتماعي، أفرادًا كانوا أو عائلات أو شركات، السعي إلى عدم الاكتفاء بالأعمال الخيرية المباشرة، بل تحديد سلّم أولويات يعتمد على بياناتٍ وحقائق وأرقام للتأكّد من أن تبرّعاتهم لها بُعدٌ استراتيجي تحوّلي وأن يكون أثرها كبيرًا وظاهرًا وقابلًا للقياس.

هناك اعتقادٌ سائدٌ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أنَّ العطاءَ الاجتماعي الذي يقوم به القطاع الخاص هو شكلٌ من أشكالِ العلاقات العامة، يهدفُ إلى تلميع صورة الشركة، والتعامل بشكلٍ إيجابي مع مشاعر وحماسة الموظفين والموظفات. إلّا أنَّ السؤالَ الرئيس الذي تحتاجُ الشركات العاملة في المنطقة أن تطرحه هو ما إذا كان بإمكانها السعي الى زيادة قيمة وأثر تبرعاتها، بما في ذلك على عناصر الهشاشة وكيف يمكن لهذا أن يعزز بالفعل الميزة التنافسية للشركات، ويُحسّن الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ويزيد من هوامش الربح. على سبيل المثال، سيؤدي الاستثمار الاستراتيجي في قطاع التعليم، في المدى المتوسط إلى الطويل، إلى تقليل الاعتماد على توظيف أشخاص من الدول الغربية وبالتالي تقليل كلفة الرواتب والأجور.

رُغمَ أنَّ بعض برامج المسؤولية الاجتماعية لكبرى المجموعات التجارية الأجنبية تشملُ إستثماراتٍ إجتماعية،  إلّا أنَّ الباقي من القطاع الخاص يحاول تجنّب التداعيات المحتملة من حكومات المنطقة من خلال استبعاد دعمِ أيِّ مبادرةٍ لمعالجةِ قضيةٍ سياسية أو اجتماعية حسّاسة. إلّا أنه يوجد نماذج ناجحة عن شراكةٍ بين القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني و/ أو مع الحكومة نفسها بغية التأكد من مباركة السلطات للمشروع.

مما لا شك فيه أنَّ تصويبَ قطاعِ العطاء الاجتماعي باتجاهٍ استراتيجي وتعزيزَ مرونته للتعامل مع النزاعات المتعدّدة في المنطقة واستدامته وقدرته على التأثير في عوامل التوتّر والهشاشة على المستوى المحلي والوطني والإقليمي، سوف يجعل من المنطقة مكانًا أفضل لاحتضانِ قطاعِ أعمالٍ رياديٍّ ومُزدهرٍ ومُحصّنٍ لامتصاصِ الصدمات السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية، والحدّ من الخسائر في بعض الحالات.

  • الدكتور إيلي أبو عون هو أستاذٌ محاضر في جامعة القديس يوسف في بيروت
  • موللي غالاغر هي أخصّائية برامج في معهد الولايات المتحدة للسلام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى