الفَسَاد يَطعَنُ الليرة اللبنانية ويُسقِطها عن عَرشِها

يُشكّل انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي وكل العملات الأجنبية إحدى النتائج الطبيعية للأزمات الاقتصادية والمالية التي يعيشها لبنان منذ عقود والتي انفجرت خلال العام الماضي مُنذرةً بأوضاعٍ معيشية كارثية خلال السنوات المقبلة.

المصرف المركزي: هل مارس دوره لحماية الليرة اللبنانية كما يجب؟

بقلم الدكتور هيكل الراعي*

يُجمعُ المراقبون على أن انهيار العملة اللبنانية تسارع بفعل نزاعات وصراعات داخلية وإقليمية ودولية كان لبنان إحدى ساحاتها. ولكن، لماذا انهارت الليرة اللبنانية بهذا الشكل الدراماتيكي؟ وهل من أمل في إجراءاتٍ توقف هذا الانهيار وتُعيد للبنانيين بعض القدرات الشرائية لمداخيلهم؟

لنبدأ القصة من أوّلها:

النقود الذهبية والورقية

كانت المجتمعات البدائية تعتمد أسلوب الاكتفاء الذاتي لتأمين حاجاتها، فتكتفي الأُسرة بما تنتج. ولم تكن هناك حاجة لتبادل المُنتَجات بين الأُسر. وعندما زاد الإنتاج عن استهلاك الأفراد، وظهر طلبٌ على الفائض من الإنتاج من قبل أفراد آخرين، بدأت عمليات التبادل بالمقايضة.

في البداية استخدمت سلع ومنتجات مختلفة في عمليات المقايضة ومن بينها المعادن على اختلافها (النحاس، البرونز، الفضة، الذهب) ثم حُصِرَت في المعادن النفيسة والنادرة كالذهب والفضة. إستمرّت النقود المعدنية في أساس التداول لفترة طويلة من الزمن. وعلى أثر زيادة حجم المبادلات التجارية بين الناس، أصبح حمل ونقل واستعمال النقود المعدنية، وخصوصاً الذهبية، مشكلة مُزعجة ومصدر خطر في بعض الأحيان، مما دفع إلى ظهور النقود الورقية على أيدي الصاغة في بداية الأمر حيث كان التجار يلجأون إليهم لإيداع ما يملكون من الذهب مقابل إيصالات. ومع الوقت أصبح الإيصال المُعطى، مقابل إيداع كمية من الذهب أو الفضة، يُستعمَل لتسديد ثمن شراء سلع أو تسديد ديون، مما يستتبع الانتقال الفعلي للنقد المعدني المودع لدى الصائغ أو المصرفي إلى مالك الإيصال.

وبعدما اتسع نطاق التعامل بالإيصالات ثم بالأوراق المصرفية، حدثت إفلاسات ومشاكل ونزاعات، ما أدّى إلى تدخّل الدول، عبر المصارف المركزية التي أنشأتها، لتنظيم عملية تداول الذهب، وتحديد حجم الأوراق المتداولة، وقامت بالإشراف على “المصارف” الأمر الذي أدى إلى زيادة الثقة بالأوراق المصرفية.

ومع تطور العلاقات الدولية وبسبب الأزمات والحروب استعملت الحكومات قسماً من الذهب المُخزَّن في البنوك المركزية لشراء الأسلحة، وهذا ما جعل كميات الذهب غير كافية لتغطية الأوراق النقدية المتداولة، وأدّى بالتالي إلى تخفيض نسبة تغطية الأوراق المصرفية بالمعدن الثمين، إلى أن تبنّت كل الحكومات ما يسمى بـ”النقد الرمزي أو الإئتماني” الذي يصدره مصرف مركزي، ويتم تداوله بشكل إلزامي بحكم القانون، أي أن حامله لا يستطيع طلب إبداله بالمعدن الثمين. فالنقد الورقي المتداول حالياً في كل المجتمعات هو نقدٌ رمزي، بمعنى أن قيمته السلعية في حد ذاتها لا تساوي شيئاً، وهو غير قابل للإبدال بمعدن ثمين، وتستند قيمته النقدية إلى قوة القانون والقبول العام له كوسيط في المبادلات.

سيطرة الدولار على أسواق العملات

كما أشرنا سابقاُ فإن أهم أنواع المعادن التي استُخدِمت في سك الوحدات النقدية كانت الفضة ثم الذهب. وقد ارتبطت القيمة الإقتصادية للنقود بالقيمة الإقتصادية للمعدن (الذهب) الذي توافق المجتمع على اتّخاذه مقياساً للقِيَمِ الإقتصادية. في هذا النظام هناك علاقة ثابتة بين قيمة وحدة النقود وقيمة مقدار ثابت من الذهب بحيث تتعادل القوة الشرائية لوحدة النقود مع القوة الشرائية للذهب. وبقي هذا النظام معمولاً به في بلدان كثيرة حتى الحرب العالمية الأولى، حيث بدأت بالتخلي عنه. بعد ذلك إختفت القطع الذهبية من التداول وأصبحت النقود الورقية هي النقود القانونية. وقد حاولت غالبية الحكومات حصر نطاق التعامل بالذهب ومنع اكتنازه بهدف الإحتفاظ به كإحتياطي للمدفوعات الخارجية.

وترافقت التطورات المذكورة أعلاه مع انخفاضِ الإنتاج العالمي من الذهب أمام حجم الطلب المتزايد عليه، واستحواذ الولايات المتحدة وفرنسا على القسم الأكبر من الذهب في العالم (اختلال توزيع الاحتياطات الذهبية بين الدول)، وتوسّع الحكومات في الاصدار النقدي من دون توفير الإحتياطات الذهبية كغطاءٍ للعملات المُصدَّرة، واتباع الدول الصناعية الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا سياسة الحماية التجارية من خلال القيود الجمركية والسياسة الضريبية، والازدياد المستمر لأسعار السلع والخدمات بسبب هيمنة الاحتكارات الصناعية من جهة وارتفاع الأجور تحت ضغط النقابات العمالية من جهة أخرى.
كل هذه التطورات أدّت الى وضع اتفاقية “بريتون وودز” سنة 1944 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي كرّست نظام ” أساس القطع الذهبي ” مُتضمّنةً العناصر التالية:

  • تحدّد كل دولة سعر عملتها الوطنية تجاه عملة أساسية هي الدولار الأميركي؛
  • يُحدَّد للدولار سعرٌ ثابت تجاه الذهب هو 35 دولاراً للأونصة الواحدة؛
  • على كل دولة أن تُحافظ على ثبات سعر عملتها تجاه العملات الأخرى، وعدم السماح بتقلبات تتعدّى 1% أعلى أو أدنى من السعر الثابت المُسجّل لدى صندوق النقد الدولي؛
  • إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لمساعدة الدول على المحافظة على ثبات سعر العملة الوطنية لكلٍّ منها.

كان نظام “بريتون وودز” مستقراً نتيجة استقرار الدولار الأميركي. لكن ظهور قوى إقتصادية عالمية، كاليابان وألمانيا، مُنافسةً للإقتصاد الأميركي، وفي ظل العجز المتفاقم في ميزان المدفوعات الأميركي، وتعرّض الدولار لأزمات نقدية، واشتداد الطلب على تحويله إلى الذهب أو إلى عملات أخرى قوية، قررت الولايات المتحدة في 15آب (أغسطس) 1971 ومن طرف واحد إيقاف تحويل الدولار إلى الذهب وفقاً للإتفاقية السابقة الذكر، تاركة لقوة الإقتصاد تغطية العملة.

كما أن غالبية الدول، وبسبب التفاوت في معدلات نموّها، عانت من محاولات الحفاظ على أسعار عملاتها الوطنية، فبدأت تنسحب تدريجا من نظام ” بريتون وودز” الواحدة تلوى الأخرى، منتقلة إلى تبنّي نظام القطع العائم الذي يحدّد فيه سعر العملة الوطنية إستناداً إلى قانون العرض والطلب، أي إستناداً إلى قوة الإقتصاد الوطني على المستويين الداخلي والدولي.

وفي العام 1976 تم التوقيع على “إتفاقية جامايكا” التي ألغت رسمياً إتفاقية “بريتون وودز”، وأصبح سائداً بشكل كامل نظام القطع العائم على الصعيد الدولي، بحيث فقد الذهب نهائياً وظيفته النقدية وتحوّل إلى سلعة عادية كغيره من المعادن والسلع. هكذا أصبحت العلاقات الإقتصادية الدولية هي المرآة التي تعكس تدفق العملات من وإلى الدول، مما أدى إلى إنشاء أسواق صرف أو أسواق قطع في عواصم الدول الإقتصادية الكبرى.

الليرة اللبنانية والمخزون الذهبي

قبيل قيام دولة لبنان الكبير اتّخذ المُفوّض السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو القرار الرقم 129 بتاريخ 31 آذار (مارس) 1920 الذي نصّ على استحداثِ عملة جديدة هي الليرة السورية، ومنح امتياز إصدارها لمصرف تجاري فرنسي اسمه “البنك السوري”. وقد نصّت المادة الثانية من القرار المذكور على التالي: “أساس العملة هو الليرة السورية مقسومة إلى مئة غرش سوري. (…) إن أوراق بنك سوريا تدفع لحاملها لدى الاطلاع شيكاً على باريس بمعدل عشرين سنتيماً عن كل قرش سوري”. وقد منع المفوض السامي عبر سلسلة من القرارات وبشكل تدريجي استخدام أي عملة غير العملة الورقية التي أصدرها “البنك السوري”.
وفي 23 كانون الثاني (يناير) 1924 تم توقيع اتفاقية جديدة بين هذا البنك والدولة اللبنانية، بحيث جرى تبديل تسمية البنك كي تصبح “بنك سوريا ولبنان الكبير” مع منحه صراحة امتياز إصدار النقد الورقي لفترة 15 سنة وجرى أيضاً تعديل العملة لتصبح الليرة اللبنانية السورية بدل الليرة السورية.

وقبيل انتهاء هذا الامتياز دخلت الدولة اللبنانية في عهد رئيس الجمهورية إميل إده بمفاوضات مع البنك، بحيث تم التوقيع على اتفاقية جديدة في 29 أيار (مايو) 1937 نصّت على تمديد الامتياز لمدة 25 سنة. وبما أن لبنان وقّع منفرداً هذه الاتفاقية بدون سوريا، فقد أعلنت المادة الثانية من الاتفاقية استحداث عملة جديدة هي الليرة اللبنانية. وهكذا أبصرت الليرة اللبنانية النور من الناحية القانونية وقد شدّدت هذه المادة على “أن العملة اللبنانية (…) هي العملة القانونية الوحيدة في لبنان ووحدة النقد هي الليرة اللبنانية وهي تعادل عشرين فرنكاً فرنسوياً وتُقسّم إلى ماية قرش”. مع الإشارة إلى أن الفرنك الفرنسي جرى تثبيته رسمياً كي يوازي مقداراً مُعَيَّناً من الذهب بموجب قانون 25 حزيران (يونيو) 1928.

وبعد استقلال لبنان والقطيعة الاقتصادية مع سوريا صدر قانون في 24 أيار (مايو) 1949 حدَد قيمة الليرة اللبنانية ب 405,512 مليغراماً من الذهب الخالص، وهو المعدل المُصرَح به لصندوق النقد الدولي. وقامت الدولة بشراء الذهب من السوق المحلية. ثم صدر المرسوم الرقم 15105 بتاريخ 27 أيار (مايو) 1949 الذي نصّت مادته الثانية على التالي: “إن الذهب – مسكوكاً كان أو سبائك ذهبية – الداخل في التغطية يجب أن يُقَيَّد دائماً في حساب يُدعى “ذهب التغطية” بالسعر الرسمي الرائج الذي يجب أن يعادل وزن الليرة اللبنانية بالذهب الخالص كما قبله صندوق النقد الدولي”. وقد وصلت كمية الذهب التي استطاع لبنان جمعها على مراحل إلى تسعة ملايين و 222 ألف أونصة تُقدّر قيمتها بالسعر الرائج اليوم بحوالي 18 مليار دولار أميركي.

ثم جاء قانون النقد والتسليف الذي صدر سنة 1963 الذي تم بموجبه تأسيس مصرف لبنان ومنحه حق إصدار الليرة اللبنانية. وخلافاً لقانون 1949 الذي حدّد قيمة الليرة بوزن مُحدّد من الذهب، منح وزير المالية صلاحية تحديد سعر رسمي انتقالي لليرة على أن يكون أقرب ما يمكن من سعر الدولار في السوق الحرة في بيروت. وبالفعل أصدر وزير المالية القرار رقم 4800 بتاريخ 30/12/1964 الذي نصت مادته الأولى على تحديد السعر الانتقالي القانوني لليرة اللبنانية نسبة إلى الدولار الأميركي بمعدل ثلاث ليرات لبنانية وثمانية قروش لكل دولار أميركي.

وفي سنة 1973 بعدما كانت الحكومة الأميركية قررت التوقف عن ربط قيمة الدولار الأميركي بالذهب إتّخذ مجلس الوزراء اللبناني في 21 آذار (مارس) 1973 قراراً بتكليف وزير المالية تحديد سعر انتقالي جديد، وبالفعل أصدر وزير المالية القرار الرقم 883 في 28 آذار (مارس) 1973 بحيث نصّ على أن الضرائب والرسوم التي تستوفيها الدولة وسائر مصالح القطاع العام عن المبالغ المحررة بالعملات الأجنبية تُحسَب على أساس متوسط أسعار القطع الفعلية في سوق بيروت التي تكون قد تحققت خلال الفترة المتراوحة ما بين الخامس والعشرين من كل شهر والخامس والعشرين من الشهر الذي يليه.

وهكذا يتبين لنا أن مصرف لبنان لا يحق له من تلقاء نفسه تحديد سعر صرف رسمي لليرة اللبنانية، هذا فضلاً عن اعتماده لأكثر من سعر صرف من دون وجود أيّ معيارٍ موضوعي أو نص قانوني يُجيز له ذلك.

الحرب الأهلية تدمَر الليرة

عشية الحرب الأهلية التي شهدها لبنان بين 1975 و1990 كان الدولار الأميركي يساوي 2,3 ليرة لبنانية. وكانت العملة اللبنانية من العملات القوية عالمياً. فالاحتياط الذهبي الذي أشرنا إليه سابقاً حمى الليرة اللبنانية، كما إن الأوضاع الأقتصادية كانت لا تزال جيدة بعد الفورة والنهضة اللتين شهدتهما البلاد خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي وذلك بفعل عوامل كثيرة أبرزها: تطور قطاع الخدمات، وخصوصاً في المجالات المصرفية والصحية والتعليمية، الذي أصبح ذا سمعة مميزة جعلت من لبنان مصرف العالم العربي ومستشفاه وجامعته؛ الفورة المالية التي شهدتها دول الخليج العربي نتيجة ارتفاع عائدات النفط؛ وتدفق الرساميل والخبرات إلى لبنان من الدول العربية التي شهدت إنقلابات عسكرية رداً على نكبة فلسطين.

لكن الحروب التي اندلعت منذ العام 1975 كانت مُدمّرة للنسيج الاجتماعي وللأقتصاد الوطني وكانت الليرة اللبنانية من أبرز ضحاياها. لقد ادت هذه الحروب التي شهدها لبنان والتي امتدت إلى العام 1990، والتي دارت بين المسيحيين والمسلمين وبين المسيحيين والمسيحيين وبين المسلمين والمسلمين وبين لبنانيين وفلسطينيين وبين لبنانيين والقوات السورية وبين لبنانيين وجيش العدو الاسرائيلي، الى سقوط حوالي 160 ألف قتيل و150 الف جريح وستة آلاف معوّق و17 الف مفقود و 483 قتيلاً بين القوات الدولية لحفظ السلام، و32 ضحية من الجسم الديبلوماسي الاجنبي. كما اضطر حوالي 827 ألف لبناني الى ترك منازلهم (670 الف مسيحي و157الف مسلم)، كما هاجر حوالي 895 الف لبناني بينهم الآلاف من الكوادر المتخصصة (أطباء، مهندسون، اساتذة جامعيون، محامون…) إضافةً الى كل ذلك تمّ تدمير عشرات القرى والمصانع، وقُدِّرت الخسائر الإقتصادية الأولية بحوالي 10 مليارات دولار أميركي.

خلال هذه الحروب سيطرت الميليشيات على مرافق الدولة، وقامت بأعمال الجباية والإنفاق في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، بينما كانت الخزينة العامة تدفع رواتب الموظفين والجنود وتؤمن بعض الخدمات من دون أن تحصل على المداخيل الضرورية. واستفادت الميليشيات والمنظمات الفلسطينية من الأموال التي كانت تتدفق على لبنان لتمويل الحرب ومن عائدات تهريب المخدرات والممنوعات فراكم زعماؤها و”أبطالها” الثروات على حساب دماء الأبرياء. هذه الأموال خلقت بحبوحة مُصطَنعة بحيث استطاعت الليرة المحافظة على قوتها تجاه الدولار الأميركي فتراوح سعرها بين 2,73 ليرة في العام 1976 و18,10 ليرة في العام 1985. وفي العام 1988، ومع تباشير ظهور توافق سياسي تُرجِمَ في ما بعد باتفاق الطائف، تراجعت التحويلات لتمويل الحرب مما أفقد السوق اللبنانية كمية من العملات الأجنبية، وهذا أدى بدوره إلى انهيار الليرة تجاه الدولار الأميركي الذي وصل سعره في العام 1988 إلى 529 ليرة لبنانية، ثم إلى 928 ليرة لبنانية في العام 1991، وصولاً إلى حوالي 3000 ليرة لبنانية قبل أن تتدخل السلطات المالية لتثبيت سعر صرف الليرة ولتُحدّد سعره بين 1500 و1515ليرة لبنانية. هذا السعر استمر حتى نهاية العام 2019.

كلفة إعادة الإعمار

إن المُجتمعات التي تشهد الحروب تدفع أثماناً غالية. واللبنانيون دفعوا كلفة بشرية ومادية غالية جداً خلال الحرب وتحمّلوا أعباءً ضخمة لإعادة إعمار ما تهدّم ووصل ما انقطع بين المكوّنات اللبنانية. كان على اللبنانيين أن يدفعوا فواتير عمليات القتل والتدمير والتهجير والنهب والسرقة التي مارستها الميليشيات الطائفية، التي استفادت من تفكّك الدولة المركزية لتسطو على مداخيلها ومواردها ويُحقّق زعماؤها بفضل ذلك ثروات هائلة. حصل لبنان على مساعدات من الدول الشقيقة والصديقة وعلى هباتٍ وقروضٍ بفوائد مُتدنّية للمساعدة على إعادة الإعمار. ورُغم الإنجازات والمشاريع التي تحقّقت فإن القسم الأكبر من هذه الأموال تَعرَض لنهبٍ منظّم من قبل الصناديق والمجالس والهيئات والإدارات تحت شعار استيعاب الميليشيات في الدولة وتضميد جراح الحروب المختلفة. قيادات الميليشيات التي تقاتلت خلال الحرب دخلت مع أزلامها إلى مختلف مؤسسات الدولة، وتقاسمت السلطة والمنافع والمُكتسبات في ما بينها. كانت الحكومات تستدين من الداخل والخارج عبر سندات الخزينة لإعادة الإعمار ولتنفيذ المشاريع، وكانت الزعامات السياسية والطائفية تمارس النهب والهدر والفساد، وكأن لبنان لم يعش حرباً مُدمّرة. وإذا كانت دول العالم تستدين لإقامة المشاريع الأستثمارية التي تُساهم في النمو الاقتصادي والاجتماعي وتزيد فرص العمل وتؤمن العدالة الاجتماعية، فإن استدانة الحكومات اللبنانية تميّزت في قسمٍ كبيرٍ منها بالتبذير والهدر والانفاق غير المُجدي.

وأمام المصاعب والمشاكل الإقتصادية والإجتماعية التي ظهرت، بادرت الحكومات المُتعاقبة بعد الطائف إلى اعتماد سياسة دعم سلع وخدمات مما سمح لفئات مُعَيَّنة مواجهة الأعباء المعيشية المختلفة، ولكن بالمقابل كان هذا الدعم أداة نهب وسرقة بيد حفنة من السياسيين وكبار التجار وأصحاب المصارف. فما هي السلع والخدمات التي دُعِمَت؟ ومَن استفاد من هذا الدعم؟

أبرز السلع التي تمّ دعمها كانت الليرة اللبنانية، وهي سلعة تُعادل كل السلع. وقد كلّف دعم سعر صرف الليرة تجاه العملات الأخرى الخزينة اللبنانية مبالغ طائلة، وأدّى إلى تراكم الدين العام الذي وصل إلى مئة مليار دولار. فمَن استفاد من دعم الليرة؟ لا يخفى على أحد أن كل الطبقات والفئات الإجتماعية استفادت من دعم سعر صرف الليرة. وإذا كان الفقراء والشرائح المُنتمية إلى الطبقة الوسطى استفادوا، ولو بشكل محدود، من هذا الدعم (شراء السيارات، الخدم في المنازل، السفر للسياحة) نتيجة رفع القدرة الشرائية للرواتب والأجور، فإن الأكثر استفادة من دعم الليرة كان الأثرياء وأصحاب المصارف الذين بادروا إلى توظيف ثرواتهم والودائع الموجودة في مصارفهم في سندات الخزينة مقابل الفوائد المرتفعة والخيالية.

إن دعم الليرة الذي بدأ مطلع تسعينات القرن الفائت واستمر إلى نهاية العام ٢٠١٩ كلّف الخزينة العامة مبالغ كبيرة جداً وشكّل أحد أسباب الإنهيار النقدي الذي نعيشه. فالعملة في كل دول العالم، ومنذ انهيار اتفاقية “بريتون وودز” في أواسط الستينات الفائتة، ترتبط باقتصاد الدولة وتعكس قوته أو ضعفه، أما في لبنان فقد حافظت الليرة على سعرها تجاه العملات الأجنبية، رُغم تراجع النمو الإقتصادي وتعثّر غالبية القطاعات الإنتاجية، وذلك بسبب التدخّل الدائم لمصرف لبنان مُستعيناً بعائدات الإكتتاب في سندات الخزينة.

إن تثبيت سعر صرف الليرة كان قراراً خاطئاً ومُناقضاً للمنطق الاقتصادي. وإذا كان قرار تضخم الدين العام تتحمّل مسؤوليته الحكومات المتعاقبة، فإن الخطيئة أو الجريمة التي ارتكبها مصرف لبنان وحاكمه كانت في عدم ممارسة دوره الرقابي الصارم على المصارف التجارية وفي تشجيع هذه المصارف على تمويل هدر وفساد الطبقة السياسية. فودائع الناس في هذه المصارف هي أموالٌ خاصة، كُلفت المصارف بإدارتها بطريقة ذكية وحكيمة مما يؤمّن مداخيل للمُودعين على شكل فوائد، ولأصحاب المصارف على شكل أرباح. هذا التكليف من المُودعين للمصارف قام على الأمانة والثقة. كانت المصارف تتشدّد في تسليف الأموال للمُقترضين وتُخضعهم لدراسات الجدوى الإقتصادية لكل مشروع، قبل الموافقة على طلباتهم. والمشكلة أن أصحاب المصارف استغلّوا هذه الثقة الغالية التي مُنحت لهم وقاموا بتوظيف أموال المُودعين في شركات ومؤسسات خاسرة أو إقراضها إلى دولة مُفلسة او معرّضة للإفلاس، مُقابل أرباحٍ وعوائد مُرتفعة ومُغرية حصلوا عليها وقاموا، وبغمضة عين، بإخراجها من لبنان إلى حسابات محمية في مصارف دولية. وعندما جاء المُودعون إلى المصارف التي وثقوا بها لاسترداد بعض أموالهم وجدوا صناديقها فارغة وخاوية، وأصحابها يذرفون دموع التماسيح. هكذا تم تدمير القطاع المصرفي في لبنان على يد أصحاب المصارف وأعضاء مجالس إدارتها وكبار مدرائها، ومن الصعب جداً أن يستعيد هذا القطاع نشاطه بعد فقدان ثقة المُودعين به.

السلعة الثانية التي تمّ دعمها والتي كلّفت الخزينة مبالغ تُقدَّر بحوالي 40 مليار دولار أميركي هي الكهرباء. هذا القطاع المُتعثّر كان موضوع تجاذب وصراع وتحدٍ بين القوى السياسية. أُنفِقَت هذه المليارات ولم تتأمّن الكهرباء للبنانيين، فأين ذهبت؟ ومن استفاد منها؟ منذ أواسط التسعينات الفائتة قررت الحكومة دعم الكهرباء بحيث تحمّلت الفارق بين كلفة إنتاج الكيلواط المرتفعة وكلفة مبيعه المُتدَنّية. كما أجبرت الخزينة على تحمّل العجز المالي الكبير الذي عانته مؤسسة كهرباء لبنان. ونتج ذلك عن الإرتفاع العالمي في أسعار النفط، وعن التوظيف العشوائي لمحاسيب السياسيين وأزلامهم في هذه المؤسسة، وعن ضعفٍ في الجباية وهدرٍ فني مُرتفع. وقد استفادت من أسعار مبيع الكهرباء المُنخفضة، وغير المتناسبة مع كلفة الإنتاج، كل مكوّنات المجتمع اللبناني، وبشكل خاص بعض المناطق والمؤسسات وحفنة من الشخصيات السياسية التي كانت تسرق الكهرباء أو تمتنع عن تسديد الفواتير المُتَوَجّبة عليها.

الإنهيار المُفجع

بين دعم مُصطَنع وغير طبيعي لسعر الليرة اللبنانية تجاه العملات الأجنبية وبين دعمٍ للكهرباء وبين توزيعٍ للمشاريع والعطاءات والمكافآت على المحاسيب والأزلام وبين نفقات غير استثمارية وزيادات عشوائية وغير مدروسة على الرواتب والأجور (تعديل سلسلة الرواتب الأخيرة في القطاع العام بلغت كلفتها حوالي 1000 مليار ليرة لبنانية دون أن تتأمن مداخيل لتغطيتها) كان من الطبيعي أن يصل الدين العام إلى حوالي 90 مليار دولار أميركي أو ما يعادل 160% من الدخل القومي، الذي قُدر في العام 2018 بحوالي 54 مليار دولار. وجاءت العقوبات الدولية والحصار وجائحة كورونا لتُسقط ورقة التين وتزيل الأغطية والأغشية عن الواقع الاقتصادي والمالي المزري الذي يعيشه لبنان ولتكشف الوضع على حقيقته حيث بدأت السفينة بالغرق فسارع السياسيون وأصحاب المصارف إلى تهريب أموالهم وما تبقى في صناديق المصارف إلى ملاذات آمنة في الخارج، تاركين اللبنانيين في مواجهة أزمة معيشية خانقة بعدما تراجعت القوة الشرائية لمداخيلهم بنسبة 80% نتيجة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية ووصولها إلى ما يزيد على 10 آلاف ليرة مقابل الدولار وبعد أن تبخرت ودائعهم من المصارف.

ما الحل؟

يُخطىء كثيراً من يظن أنه من السهل معالجة حالة الانهيار المالي والاقتصادي والمعيشي التي يعيشها لبنان أو يحلم بالعودة إلى ما يشبه الأوضاع التي كانت سائدة في العام 2019. هناك تغييرات وأنماط معيشية وسلوكيات جديدة بدأت تظهر وتتبلور سوف تطبع حياة اللبنانيين في الأشهر والسنوات المقبلة. أما بالنسبة إلى إمكانية الخروج من قعر الأزمات المسيطرة على لبنان يمكن القول أنه لا بد من مجموعة من الإجراءات والخطوات المتناسقة والحكيمة والصعبة ومنها:
أ – تسوية دولية لأزمات المنطقة التي أصبحت متداخلة ومتشابكة تشترك فيها القوى الكبرى والقوى الإقليمية الفاعلة. هذه التسوية ستقوم على مقايضات وعلى توزع مناطق النفوذ والثروات. وساحة الصراع الأضعف والأكثر تفككاً ستدفع الثمن الأغلى على شكل توطين اللاجئين والنازحين وفرض القيود على استثمار الثروات الطبيعية. فهل سيقدر لبنان على تحمل ما سيُفرَض عليه؟
ب – معالجة الأزمة السياسية القائمة حالياً عبر الإجابة عن سؤالٍ محوري وأساسي: هل لا تزال الجماعات والطوائف اللبنانية راغبة ومُصمّمة على العيش مع بعضها على هذه البقعة من الأرض، أم أنها ستقع في أهواء مشاريع التقسيم والتفتيت التي بدأت تطل برأسها على عدد من دول المنطقة. وإذا قررت هذه الجماعات العيش معاً فوفق أي نظام؟ وهل لا يزال نظام الطائف صالحاً أم يجب تعديله وتطويره؟ وما مصير سلاح “المقاومة” وهل من توافق ممكن على استراتيجية دفاعية؟ وهل ستجري الانتخابات النيابية والرئاسية في مواعيدها في العام المقبل؟ الإجابة عن هذه الأسئلة يبقى ضرورياً لمعرفة آفاق المستقبل سواء تشكلت حكومة جديدة أم تعذر ذلك.
ج – تشخيص دقيق للمشاكل الاقتصادية والمالية التي يعيشها لبنان، عبر التدقيق الجنائي الذي يجب أن تشارك فيه إدارات رسمية لبنانية وهيئات ومؤسسات دولية، وذلك بهدف الإجابة عن الأسئلة التالية: لماذا تراكم الدين العام إلى هذا الحد ومَن المسؤول عن ذلك؟ ما هي المشاريع التي تمَّ الإنفاق عليها وتمَّ تنفيذها؟ ما هي المبالغ التي أنفقتها الهيئات والصناديق والمجالس وأين؟ وغيرها من الأسئلة. ولكن هل يمكن أن تسمح العصابة السياسية – المصرفية بالكشف عن كل سرقاتها ونهبها وارتكاباتها؟
د – وضع خطة موضوعية واضحة وشاملة للإصلاح الاقتصادي والمالي والأداري، لعرضها على المؤسسات الدولية وعلى الدول المُقرضة والمانحة، في إطار طلب الدعم والمساعدة. فالدول المؤهلة لمساعدة لبنان لن تُفرّط بأموال دافعي الضرائب لديها في عمليات دعم لدولة يعشش الفساد والهدر والنهب والسرقة فيها.
ه – إعداد لائحة بالمصادر الداخلية لتمويل تسديد الديون المتراكمة على الدولة اللبنانية والمُقدّرة بحوالي 90 مليار دولار. ففي ظل جائحة كورونا وما رافقها من كساد اقتصادي عالمي، لن تقدم أي دولة أو مؤسسة دولية على إغداق الأموال على اللبنانيين. والقروض التي يمكن أن تعطى، ستكون وفق شروط قاسية جداً. أما أبرز هذه المصادر الداخلية فهي : بيع المخزون الذهبي الذي يوازي حوالي 18 مليار دولار، وبيع قسم من المؤسسات والعقارات التي تملكها الدولة، واسترداد الأموال التي سرقتها ونهبتها العصابة السياسية والمصرفية.
وأخيراً على اللبنانيين أن يعوا أن الليرة لن تعود إلى ما كانت عليه، وأنه لن يبادر أحد إلى إنقاذهم وتحريرهم من أزماتهم إذا لم يبادروا هم إلى تحرير أنفسهم من أوهام عاشوا عليها لفترة طويلة، وإلى الاقتناع أن العالم تغيَر وأن عليهم أن يتغيروا في كل نواحي حياتهم. وأول بوادر التغيير التخلص من رموز وزعماء ومافيات وأحزاب النهب والفساد بأسرع وقت ممكن.

  • الدكتور هيكل الراعي هو باحث وأستاذ جامعي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى