لماذا يخسر الأسد ؟
يحقق المتمرّدون السوريون مكاسب كبيرة، فيما القوى الأجنبية تزيد من تأييدها ودعمها لهم وتعمل مع المقاتلين الإسلاميين. لكن، مع ذلك، لا يبدو أن النظام على وشك السقوط من دون قتال.
دمشق – محمد الحلبي
بعد ما يقرب من العامين على إتخاذهم موقفاً دفاعياً، بدأ المتمرِّدون في سوريا إحراز تقدم كبير في شمال البلاد. في غضون ستة أسابيع، سيطرت تحالفات منهم على مدينة إدلب، وفازت بسلسلة من الإنتصارات الإستراتيجية الرئيسية في أماكن أخرى من المحافظة. وفي مواجهة هذه المعارضة “المنتعشة” يبدو الجيش السوري والميليشيات الداعمة له في أضعف مستوى لهما منذ أوائل العام 2013.
مع ذلك، في حين أن الكثير من التعليقات اللاحقة أشار إلى أن هذا التحوّل العسكري على الأرض يعلن عن بداية النهاية لنظام الرئيس بشار الأسد، فإننا نعتقد بأن الأمر ما زال بعيداً جداً من ذلك. في الواقع، كان رد فعل النظام على الخسائر الهائلة في الشمال بالقيام وتنفيذ مئات الغارات الجوية، والقصف بالبراميل المتفجّرة، وهجمات الكلور في ريف إدلب وحماة وحلب، كما أطلق هجمات برية في شرق دمشق، وفي مناطق من حمص، وفي الجبال المحيطة بالزبداني قرب الحدود اللبنانية. وفي الوقت عينه، يبدو الآن أن هجوماً مشتركاً كبيراً للنظام و”حزب الله” في جبال القلمون بات وشيكاً أيضاً.
ما الذي يحدث الآن في سوريا؟
أمالت الأحداث الأخيرة بوضوح دفّة المعايير السيكولوجية مرة أخرى إلى صالح المعارضة: لقد وضعت الخسائر في إدلب والمحافظة الجنوبية درعا ضغوطاً كبيرة على الأسد، الذي أصبح يعاني من نقص شديد في القوات العسكرية العاملة الذي يبدو أكثر وضوحاً يوماً بعد يوم. إن الإحباط والسخط وحتى حالات الإحتجاج آخذة في الإرتفاع في جميع أنحاء المناطق التي يقطنها أشد المتحمّسين الداعمين للأسد على الساحل السوري – بعضها الآن يواجه هجوماً مباشراً. ويتمدد “حزب الله” رقيقاً، وحتى القوات الايرانية بدأت تنسحب إلى المناطق السورية التي تعتبرها الأكثر أهمية لبقاء النظام.
الواقع أن نظام الأسد لم يعد عسكرياً قادراً على شن عمليات ناجحة نهائية خارج أراضيه الأكثر أهمية بالنسبة إليه، في حين أن قدرته على الدفاع ضد هجوم مُنَسّق من المعارضة تبدو الآن أمراً مشكوكاً فيه في أحسن الأحوال. ويبدو النظام أيضاً أضعف ديبلوماسياً، حيث أن روسيا لم تعد متشبثة ببقائه في المدى الطويل، وصارت الآن أكثر إنفتاحاً على فكرة إدارة التغيير والإنتقال التي من شأنها ضمان أفضل الفرص للإستقرار في مرحلة ما بعد سقوط النظام. وفي الوقت عينه، إن تقارب إيران الواضح مع الولايات المتحدة ومشاركتها المتوقّعة في محادثات جنيف بدعوة من مبعوث الأمم المتحدة الخاص ستيفان دي ميستورا قد فتح الباب، على أقل تقدير، لمناقشات التوصل إلى حل تفاوضي في سوريا.
ومع ذلك، فإن الديبلوماسية وحدها من غير المرجح أن توفّر مساراً للخروج من الصراع في بلاد الشام. حتى مع وجود إجتماعات ومحادثات دولية واسعة النطاق خلف الأبواب المغلقة لإطلاق مبادرة ديبلوماسية كبرى جديدة للحل في سوريا، فسوف يكون الضغط العسكري داخل البلاد في نهاية المطاف هو الذي سيحدّد ما إذا كانت مثل هذه المبادرة لديها أي فرصة للنجاح.
إستراتيجية كبرى
لقد كشفت إنتصارات المعارضة الأخيرة في إدلب تخطيطاً إستراتيجياً أكبر بكثير مما كان واضحاً من قبل. الواقع إن نجاحات المتمرِّدين الأخيرة في إدلب كانت نتيجة إستراتيجية كبرى على مدى ثمانية أشهر للسيطرة على المحافظة بأكملها، وتحويلها إلى المجال الأساسي لنطاق سيطرة المعارضة.
الهجوم على مدينة إدلب، على سبيل المثال، أُطلق في 24 آذار (مارس) – لكنه في الواقع تم التخطيط له منذ شتاء 2014، وكان في حد ذاته مرتبطاً إرتباطاً وثيقاً بالهجوم الناجح والمخطط له منذ فترة طويلة الذي أدى إلى الإستيلاء على معسكري وادي الضيف والحامدية خارج مدينة معرّة النعمان في منتصف كانون الاول (ديسمبر) 2014. وفي أعقاب الإستيلاء على مدينة إدلب، شنّ المتمردون هجوماً سريعاً على بلدة جسر الشغور، قادته في المقام الأول قوى المعارضة من محافظة اللاذقية المجاورة، في حين أن قواتاً من عملية مدينة إدلب إنتشرت إلى الخارج حيث سيطرت على مواقع عسكرية أساسية للنظام في المسطوما، والقرميد، وأريحا.
بالنظر إلى التعقيدات والإختلافات الهائلة لفصائل التمرد في شمال سوريا، فإن تحقيق المعارضة مكاسب في إدلب بالتالي يُمثِّل إنجازاً رائعاً. لكن التخطيط وحده لم يضمن الإنتصارات: لقد أظهرت العمليات مستوى أفضل كثيراً في مجال التنسيق بين الفصائل المتناحرة، والذي إمتدّ من ألوية “الجيش السوري الحر” المدعومة من الولايات المتحدة، الى الإسلاميين السوريين المعتدلين والمحافظين، إلى جبهة “النصرة” المرتبطة بتنظيم “القاعدة” وعدد من الفصائل الجهادية المستقلة. على الرغم من أن هذا الأمر لم تعترف به المجموعات المتورّطة – بينما صوّرت غالبية التغطية الإعلامية الهجمات على إدلب بأنها “جهادية” أو قادها تنظيم “جبهة النصرة” – كان الواقع على الأرض بأن الهجوم الأخير ضم ّالعديد من الجماعات التي لديها إيديولوجيات مختلفة جداً.
لم تلعب ألوية “الجيش السوري الحر” سوى دور ثانوي في التقدم إلى إدلب نفسها، ولكنها لعبت دوراً حاسماً في منع تعزيزات النظام من الذهاب للدفاع عن المدينة. وعلاوة على ذلك، كان دورها في الإستيلاء على جسر الشغور أكثر أهمية، وهي تنشط بالمثل في أمكنة أخرى حتى يومنا هذا.
إن إشتراك ألوية “الجيش السوري الحر”، في الواقع، يكشف كيف تغيّر رأي داعمي ومؤيدي هذا الجيش في ما يتعلق بالتنسيق مع الإسلاميين. لقد أكد عدد من قادته المعنيين في قيادة عمليات إدلب الأخيرة ل”أسواق العرب” على أن غرفة العمليات التي تقودها الولايات المتحدة في جنوب تركيا، التي تنسّق تقديم دعم الأسلحة الفتّاكة وغير الفتّاكة لجماعات المعارضة المتحالفة مع واشنطن التي “تم فحصها”، كان لها دور أساسي في تسهيل مشاركتهم في العملية من أوائل نيسان (إبريل) فصاعداً. وغرفة العمليات تلك- جنباً إلى جنب مع أخرى في الأردن، والتي تغطي جنوب سوريا – يبدو أيضاً أنها زادت بشكل كبير مستوى المساعدة وتقديم المعلومات الإستخباراتية للجماعات التي “تم فحصها” في الأسابيع الأخيرة.
في حين أن هذه الغرف للعمليات المتعددة الجنسيات طالبت سابقاً بأن على المستفيدين من المساعدات العسكرية التوقف وعدم التنسيق المباشر مع جماعات مثل “جبهة النصرة”، فإن الديناميات الأخيرة في إدلب يبدو أنها قد أثبتت شيئاً مختلفاً. ليس فقط أن شحنات الأسلحة قد زاد إلى ما يسمى ب “الجماعات التي تمّ فحصها”، لكن غرفة العمليات شجّعت على وجه التحديد توثيق التعاون مع الإسلاميين الذين يقودون العمليات في الخطوط الأمامية.
إن التفسير الأكثر ترجيحاً لهذا التحرّك هو الضغط من التحالف الإقليمي الحديث الذي يضم تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر؛ فيما تبحث الولايات المتحدة أيضاً بدورها عن طرق لإثبات إستمرار إنحيازها إلى حلفائها التقليديين في الخليج السني، وسط سياق أوسع من التقارب مع إيران.
كما تعزّز التنسيق المُكتشَف حديثاً بين المتمرّدين بإعتماد الحملة على قادة إدلب. أحمد العلوان، يوسف قطب، وحسام أبو بكر هم قادة المتمردين المحليين الذين لعبوا دورا بارزاً في الإستيلاء على مدينة إدلب. وفي الوقت عينه، كان القائد الرئيسي في جسر الشغور أياد الشعّار – وهو قائد كتائب “أحرار الشام” الذي يتمتع بإحترام كبير داخل المعارضة ككل. وينحدر الشعّار من جسر الشغور، لكنه ترك سوريا مع والديه قبل 37 عاماً خلال بدايات الإنتفاضة التي قادتها جماعة “الإخوان المسلمين” في سوريا. على الرغم من مكانته بإعتباره مقاتلاً مخضرماً أفغانياً وأحد الأعضاء المؤسسين لكتائب “أحرار الشام”، فإن عودته إلى مسقط رأسه للمرة الأولى منذ رحيله قد إحتفلت بها مختلف أطياف المعارضة.
وقد أثبتت الإرتباطات المحلية بأنها عامل موحد قيِّم في سوريا حتى الآن – وخصوصاً في الأماكن التي تكون فيها الهوية المناطقية قوية، مثل حمص وإدلب وحلب. على الرغم من أن العديد من القادة البارزين في عمليات إدلب الأخيرة كانوا من الإسلاميين بطريقة أو بأخرى، فجذورهم في مجتمع المحافظة يبدو أنها لم تشجّع المنافسات والإختلافات الإيديولوجية التي ظهرت في أماكن أخرى من البلاد. ومع عدم إغفال الإختلافات الحقيقية الموجودة، مثلاً، بين “جبهة النصرة” والفرقة 13 التابعة ل”الجيش السوري الحر”، فإن حقيقة أنها لم تؤثر سلبياً على التقدم في الأراضي التي كان يسيطر عليها النظام هي إشارة إلى أن الإرتباطات المحلية كانت عاملاً موحّداً قوياً.
نضج المعارضة العسكري
يبدو أن الخلافات الدولية والإيديولوجية قد نُحِّيت جانباً، على الأقل مؤقتاً، لصالح ضمان نجاح المعارضة السورية في ساحة المعركة على نحو أفضل. وعلاوة على ذلك، كشف الهجوم الأخير مستوى من النضج العسكري نادراً ما أظهرته المعارضة. وحقيقة أن هذا الأمر أنتج هذه النتائج الإيجابية وهزّ ثقة النظام بشكل واضح فإنه كان مصدراً كبيراً لرفع ثقة المعارضة بنفسها.
ولكن هل يمكن هذا أن يستمر؟
على الرغم من تحسّن التعاون في ميدان المعركة، فإن السوريين ما زالوا يشكّون بشكل عميق بأهداف “جبهة النصرة” في سوريا، كما أن الفصائل التي تدعمها الولايات المتحدة لا تزال تشارك بحذر مع الإسلاميين. بطبيعة الحال، إن الخطاب العام ليس دائماً مؤشراً دقيقاً إلى العمل في ساحة المعركة: في جنوب سوريا، على سبيل المثال، إن الفصائل التي تعهّدت بالنأي بنفسها عن المتطرفين مثل “جبهة النصرة” في منتصف نيسان (إبريل) شوهدت بعد أيام لاحقة تتعاون مع المجموعة المتطرفة في درعا.
الواقع أن أحد العوامل الذي وحَّد جميع الأطراف حتى الآن كان التصميم والعزم على إقامة حكم مدني فعّال ومستدام في الأراضي المحرَّرة. مع ذلك، إن قصف النظام الكثيف والعشوائي وإستخدامه المواد الكيميائية في هجمات متعددة قد جعل تحقيق هذا الهدف مستحيلاً تقريباً. إذا ظلت ديناميكية القمع الوحشي على وتيرتها فإن الآثار المتوقعة الوحيدة هي أن المتطرفين سوف يستغلون الفراغ. وبعبارة أخرى، إن تنظيم “القاعدة” سيفوز من طريق “جبهة النصرة”.
ولهذا السبب تحديداً سهّلت تركيا علناً جمع إثنتين معاً من أكبر الجماعات المتمردة في سوريا، كتائب “أحرار الشام” و”جيش الإسلام”. مع إتفاق ضمني مع المملكة العربية السعودية وقيادتها الجديدة، فإن اليد القوية لتركيا في تشجيع وحدة “الإسلاميين” في شمال سوريا، لم تعنِ فقط إنتاج جبهة أكثر فعالية ضد نظام الأسد، ولكن أيضاً جمع قاعدة إسلامية سورية واسعة لتحقيق التوازن ضد إستمرار صعود تنظيم “القاعدة” المتمثل ب”جبهة النصرة”. وهذا بالتالي سيوفّر حاجزاً حتى أكثر صلابة في الدفاع ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، إذا نفذ تهديده وعاد يوماً إلى شمال غرب سوريا.
إنضمّت إلى كلٍّ من “أحرار الشام” و”جيش الإسلام” فصائل متمرّدة أخرى إضافية في الأسابيع الأخيرة، غالبيتها وحدات إسلامية غير محافظة كثيراً. وفي الآونة الأخيرة، إنتشرت شائعات بأن “فيلق الشام” التابع لنهج جماعة “الإخوان المسلمين” سوف يندمج قريباً مع “أحرار الشام”، لكن قيادة “فيلق الشام” قد أعلنت عن عدم صحة هذه التقارير. وعلى الرغم من أن إندماج “جيش الإسلام” و”أحرار الشام” ما زال يبدو بعيد المنال، فإن قواتهما مجتمعة تمثل 40,000 على الاقل من المقاتلين – مع بعض التقديرات الأخيرة التي توحي بأن قواتهما يمكن أن تصل إلى 70،000.
العقبات المتوقعة
كما تبدو الأمور اليوم، فإن تنامي الدعم من الولايات المتحدة والسعودية إلى فصائل “الجيش السوري الحر” المعتدلة ومساعدة تركيا وقطر للإسلاميين يبدوان مكمِّلين أحدهما للآخر، بدلاً من القيام به في شكل تنافسي كما كان الحال في الماضي. ومع ذلك، فإن العديد من العقبات قد تعترض هذه الإستراتيجية على الطريق – ليس أقلها تصرفات “جبهة النصرة”، التي أثبتت حتى الآن موهبة مثيرة لمعالجة دينامية المعارضة السورية لصالحها.
من ناحية أخرى، يهدّد تنظيم “الدولة الإسلامية” أيضاً بإفشال سلسلة نجاحات المعارضة التي تحققت في الآونة الأخيرة. منذ أواخر 2014، إستطاع التنظيم الجهادي المتطرف التسلل بهدوء إلى مناطق جديدة وضم حلفاء محليين لتوسيع إنتشاره تدريجاً. حتى الآن، فإن هذه الإستراتيجية – التي إستخدمها إلى أعلى درجة وتأثير بعد وصوله الى سوريا في أوائل العام 2013 – قد أدت إلى إندلاع أعمال قتال في مناسبات متعددة في جميع أنحاء البلاد، من درعا والقنيطرة في الجنوب، إلى العاصمة دمشق، و ريف حماه الغربي. مثل هذه السياسة التوسعية تهدد بخطر إعادة فتح الإنقسامات الإيديولوجية داخل المعارضة السورية الأوسع التي جرى تنحيتها وتجاوزها في الوقت الحالي.
إن الديناميات الجديدة في سوريا تمثّل لحظة حرجة بالنسبة إلى المجتمع الدولي. إن الشعور بالوحدة المُكتشَف حديثاً بين المتمردين هو تطور إيجابي في الكفاح ضد النظام – ولكن في غياب أي بديل أفضل من التعاون مع تنظيم “القاعدة”، فإن ذلك سيسهّل تفوّق التنظيم الجهادي المتطرف وتوسيع نفوذه. إذا أراد الغرب إيجاد حل أفضل، يجب عليه توسيع وتكثيف مشاركته مع الجماعات المتمردة في سوريا وتوسيع تقديم مساعدته بشكل أكبر لمجموعات أوسع مقبولة. وينبغي أيضاً أن يبذل كل الجهود اللازمة لضمان أن الأراضي المحرَّرة حديثاً في سوريا الشمالية ستستفيد من إقامة وتأسيس حكم تمثيلي ومدني. إن منع إستخدام النظام للقوة الجوية العشوائية أمر بالغ الأهمية في هذا الصدد.
نظراً إلى الحجم الهائل لتعقيدات الحراك السوري، فإن التعامل معه على نحو فعال ليس سهلاً ولا يخلو من المخاطر. ومع ذلك، فإن التعامل معه بشكل متقطِّع وإحدى يديك وراء ظهرك هو وسيلة أكيدة لإعطاء فرص لعدوّك لكي ينمو بشكل أكبر وأكثر خطورة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.