بولين كيرغومار رائدة “صفوف الروضة”

شارع باسمها

هنري زغيب*

منذ القرن التاسع عشر راحت تعمل على تأْسيس “صفوف للروضة” في فرنسا، وقبلها لم يكن وجودٌ لهذه الصفوف. من هنا اشتهرت في زمانها وفي التاريخ التربوي أَنها رائدة “صفوف الروضة” في فرنسا.

إِنها بولين كيرغومار (1838-1925) وإِنها طريقتُها في التربية مرتكزة على اللعب والدرس معًا، وفق قواعد سأَسرد بعضها  في هذا المقال.

في أُسرة تربوية

ولدت بولين نهار الثلثاء 24 نيسان/أَبريل في بوردو (مدينة كبرى جنوبي غرب فرنسا)، في أُسرة مثقفة ذات علاقة بالشأْن العلمي والتربوي. فهي نسيبة إِيليزيه رُكلُوReclus  (1830-1905) العالِم الجغرافي صاحب الكتابات التأْسيسية في هذا الميدان، وهي نسيبة زيلين رُكْلُو (1802-1887) مدرِّسة ومديرة مدرسة، وجاك رُكلُو (1796-1882) القسيس العالِم الذي أَمضت لديه بولين سنتَين خصيبتَين من سنيّ مراهقتها. ومن تلك الأُسرة التي كانت تعدُّ 14 ولدًا، اشتهر مربُّون وتربويون وصحافيون ومهندسون وأَطباء.

انتسبت بولين باكرًا إِلى مدرسة زيلين للبنات، وتلقَّنت دروسًا متخصصة في معظمها للإِناث، كالخياطة والتطريز، إِلى تعلُّم لغات كان رائجًا تدريسُها عصرئذٍ كاللاتينية والإنكليزية، كما تلقَّت تربية خاصة تنحو صوب تطبيق التعليم ميدانيًّا فلا تبقى في الحيِّز النظري.

في الثامنة عشرة نالت شهادة التمكين التي تخوّلُها التدريس، فانتقلت مباشرةً إِلى هذه المهنة السامية، لدى مَدرسة خاصة في باريس حيث التقت بالشاعر والصحافي جول كيرغومار (1822-1901) واسمه الشعري غوستاف جو بِنمارك، فتزوجتْهُ سنة 1863 وحملَت اسمه مهنيًّا.

طابع تذكاري باسمها

دروس الأَشياء

كانت بولين معاصرةً ماري كاربانتييه (1815-1878) رائدةَ التعليم قبل الابتدائي في فرنسا. وكان القانون الفرنسي، منذ 1833، أَرغم المدارس على إِنشاء صفوف للصغار بين سنتين وست سنوات، من أَولاد الفئات الشعبية، وخصوصًا في قاعات الحضانة التي تضم أَولاد النساء العاملات.

ولأَن تطبيق ذاك القانون وسَّع عددَ تلك الصفوف الخاصة برياض حضانة الأطفال، وكانت ماري كاربانتيه مسؤُولة عنها، راحت تنشئُ منذ منتصف ثلاثينات القرن نهجًا تربويًّا مبنيًّا على تدريس ما سمَّتها “دروس الأَشياء”، أَضمرَت أَن تعممه على صفوف الروضة للصغار المبتدئين قبل المرحلة الابتدائية.

كتاب عنها

مبادئها التربوية

هكذا بولين، مستلهمةً نهج ماري التربوي، راحت تنشئ صفوفًا مماثلة لحضانة الأَطفال، في بيئات اجتماعية متوسطة تعمل فيها على التدريس والتربية والتوجيه وتنمية الأَطفال على مبادئ سليمة. وجعلَت كل ذلك قائمًا على مبادئ اللعب والرياضة والدرس معًا، توازيًا مع “دروس الأَشياء” التي حدَّدتْها (في كتابها الشهير “صفوف الروضة في المدارس”)كالآتي: “يبدأُ الطفل بالتعلُّم منذ سريره الأَول لدى والدَيه، بعينيه التائقتين إِلى تعلُّم كلِّ ما حوله، وبيدَيه التائقتين إِلى لَمْس كلِّ ما تبلغانه، وبأَنفه التائق إِلى شَمِّ كلِّ ما يَصله، وبأُذنيه التائقتين إِلى سماع كلِّ صوت حوله، وبفمه التائق إِلى تذوُّق كلِّ ما يصله، تتوالى الأَشياء حوله فتتوالى دروس الأَشياء وتتعدَّد ثم يختلط بعضها ببعض فتتَّصل من دون تمييز. لذا تجب مساعدته على استتيعاب ما هو يحب ويرغب في بلوغه. من هنا يُترَك الخيار للطفل صباحًا أَن يحمل معه إِلى صف الروضة ما يحبه هو، فنكون أَنشأْنا روضة للأَطفال محبَّبة لهم، يتحركون فيها من دون إِرغامهم على الجلوس في مقاعدهم الثابتة، ويخرجون إِلى الحديقة من دون إِرغامهم على التسمُّر في قاعة الصف، ومن هنا إِتاحة فرصة للأَطفال أَن “يكتشفوا” في ظروف دافئة مؤَاتية وسائغة، وأَن يفرحوا بما يكتشفون. ولذا على المعلِّمة أَن تتوقع عشرات الأَسئلة تنهمر عليها”.

أَول مفتشة تربوية

إِلى جانب التعليم والتربية، ضمَّت بولين إِلى اهتماماتها مهمة النشر، فكانت مديرة مجلة “صديق الطفولة” المتخصصة بصفوف الحضانة في المدارس. ومن كثرة اهتمامها بحماية الأَطفال، أَصبحت سنة 1879 المندوبة العامة في مفتشية قاعات “صفوف الروضة”. وسنة 1881 بدأَت تَظهَر تباعًا صفوف الروضة في المدارس، تتولَّاها مُدرِّسات متخصصات بشأْن الأَطفال بدءًا من عمر السنتين حتى السادسة. ولذلك وزيرُ التربية والفنون الجميلة جول فيرّي (1832-1893) عيَّنَها أَول مفتشة عامة في صفوف الحضانة، وبقيَت في هذه المسؤُولية حتى 1917.

مدرسة باسمها

الرائدة

من أَبرز ما حقَّقَتْه خلال فترة مسؤُوليتها: إِبراز توعية الطفل على ما يحب، عبر اللعب والرياضة، واكتشاف حواسه ووظائفها، والقيام بأُمور صغيرة تمهيدًا لِما سيقوم به لاحقًا.

لهذه الأُمور جالت في كل فرنسا مفتِّشةً ومُحاضِرةً وكاتبةً عشرات المقالات والدراسات والكتب تربوية وتاريخية حول الطفل والتربية والقيام بحملات اجتماعية لحماية الطفولة، وخصوصًا حمايتهم من الفقر، وكذلك من أَجل حقوق المرأَة في عصرها، وكانت تلك خطوة سبَّاقة رائدة.

سنة 1887 أَسسَتْ “الاتحاد الفرنسي لإِنقاذ الطفولة”، عاملةً مع مؤَسسات وجمعيات تعمل على حماية الأَولاد المهدَّدين في حرَم أُسَرهم أَو في المجتمع عمومًا، من المخاطر الخلقية والجسدية. وتم اعتماد الاتحاد رسميًّا سنة 1891.

توفيَت بولين سنة 1925 في جزيرة “سان موريس” عن 86 سنة، واليوم في فرنسا، تكريمًا لذكراها، تحمل مئات المؤَسسات المدرسية اسمها تكريمًا لذكراها ووفاء لريادتها السبَّاقة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى