اليونسكو ذاكرة العالم (1 من 2)

جمال هياكل بعلبك

هنري زغيب*

تتعدَّد تعريفات التراث، وتبقى أَبلغَها كلمةٌ واحدة: الذاكرة. وكما في فقدانها انهيارُ الشخص فالشخصية فالكيان، كذا في فقدانها انهيارُ ماضي الأُمم وتاليًا جسر تقدُّمها في كيان التاريخ.

تتولّى منظمة اليونسكو هذه المهمةَ الجلّى منذ اعتمادها سنة 1989 توصية “الحفاظ على التراث التقليدي والشعبي في البلدان وصونه من الاندثار”. ومن هنا إِطلاقُها سنة 2001 شرعة “الإِعلان العالمي للتنوُّع الثقافي”، متعهَّدةً دُربةَ التمييز بين التراث الثقافي التاريخي والأَثري المادي والطبيعي (معالِم، أَماكن، محفوظات مادية قديمة، …) والتراث الثقافي غير المادي. وهي رأَت إِلى هذا الأَخير أَنه “قالبُ التنوُّع الثقافي وضامنُ الإِنماء المستدام”، فاعتَمدَتْه جناحًا مستقلًّا في اهتماماتها، وأَقرَّت له شرعةً خاصة خلال الدورة الثانية والثلاثين (19 أَيلول/سـﭙـتمبر – 17 تشرين الأَول/أُكتوبر) من جمعيتها العمومية سنة 2003 لدى مقرها الرئيس (ف ﭘـاريس) بموافقة 167 دولة.

جلال قلعة جبيل

شخصية مستقلّة

هكذا باتت لـ”التراث الثقافي غير المادي” شخصيةٌ مستقلَّة ذات إِطار واسع ومضامينَ متعددة، في لائحة تتزايد كل عام مسجِّلةً أَسماءَ وتواريخ ومعالم وتظاهراتٍ وأَعلامًا ومناسباتٍ، لـحفظ الإِرث وسْعَ آفاقه اللامحدودة، من الإِبداعي – كالاحتفال السنوي بــ”يوم العروس” احتفاءً باستذكار وفاة جلال الدين الرومي (1207- 1273) في مدينة قونية التركية (جنوبي الأَناضول) – إِلى الاحتفال بيوم المآكل التقليدية أَو الأَزياء الشعبية في عدد من بلدان العالم.

هياكل رومانية في صُور

التعريف أُمميًّا

ما “التراث الثقافي غير المادي”؟

تعرِّف به منظمة اليونسكو أَنه “مجموع التقاليد الشفوية والعادات والتعابير والمرويات والأَزجال والحكايات والفنون الشعبية والممارسات والطقوس والأَحداث والاحتفالات الاجتماعية والـمَعارف والـمَدارك والتعامل مع الطبيعة والمحيط ومزاولة الحِرَفيات اليدوية التقليدية، وسائر الظواهر الشفوية المتوارَثة من الأَجيال السابقة إِلى الأَجيال الحالية”.

وتعتبر اليونسكو أَن التراث الثقافي غير المادي “عاملٌ أَوَّلُ في تماسُك التنوُّع الثقافي وتحصينه من تنامي العولمة”. وترى أَن “نشْر مظاهره على المجتمعات المختلفة في العالم، عاملٌ ضروريٌّ للحوار الثقافي بين المجتمعات، يشجِّع احترامَ مجتمعٍ أَنماطَ الحياة في المجتمعات الأُخرى”، وأَن ظاهرة هذا التراث الثقافي “تلغي الفوارق بين الشعوب، بكونها تراثًا لامادّيًّا لأَكثرَ من شعب في أَكثرَ من دولة”. وتخلص اليونسكو إِلى أَن “أَهميته ليست في مجرَّد مظاهره وتظاهراته، بل في غنى معارفَ ومداركَ ينقلها جيلٌ إِلى التالي، في عملية متوارَثة ذات قيمة اجتماعية واقتصادية لدى دول في طور النمو كما لدى الدول النامية”.

سحر وادي قاديشا

لبنان والتراث المادي

غنِمَ لبنان من هذا التراث المادي لدى اليونسكو، منذ دخلَت خمسة مواقع فيه سنة 1984 على لائحة التراث العالمي (عنجر، بعلبك، بيبلوس، صور، وادي قاديشا). ومن التراث العالمي الشفوي انضمَّ الزجل اللبناني سنة 2014 إِلى لائحة “تُراثِ البشريَّة الثقافيّ غيرِ الماديّ” فدخل الزجل ذاكرةَ العالَم، أَوَّلَ عنصرٍ لبنانيٍّ يَدخُل هذه “اللائحة” العالـميّة تراثًا لبنانيًا عريقًا.         وتُضيف اليونسكو سنويًّا مجموعة جديدة لظواهر ثقافية غير مادية في دول مختلفة من العالم، مع انعقاد “اللجنة الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي”، فتضاف إِلى لائحة العام السابق ظواهر جديدة غير مادية.

* التتمة في الجزء التالي من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى