هل تُنَشِّطُ حربُ أوكرانيا القانون الإنساني الدولي؟

لا شك أن السلوك الروسي في أوكرانيا سيكون له بعض الانعكاسات السلبية على السلم والأمن الدوليين. ولكن كما جادلت المؤرخة مارغريت ماكميلان مرارًا، يمكن للحرب أن تُحدِثَ الدمارَ والتحوّلَ في الوقت عينه.

مجلس الأمن الدولي: خطوة أولى جرت أخيرًا لتحسين أدائه في ما يخص حق النقض.

إيريكا غاستون*

يُمثِّلُ غزو روسيا لأوكرانيا وسلوكها أثناء الحرب تهديدًا خطيرًا ليس فقط للدولة الأوكرانية وسكانها، ولكن أيضًا للمبادئ والقيود الإنسانية التي تُشكِلُ حجر الأساس للنظام الدولي الحديث. هناكَ مَخاطرٌ جدّية من أن تؤدّي الحرب الروسية إلى إضعافِ المؤسسات والأعراف الدولية بطُرُقٍ تُقلّلُ من قدرتها على الحفاظ على السلام، ومنع إلحاق الأذى بالمدنيين، والتعامل مع التحديات الجماعية المُتعلّقة بالسلام والأمن في المستقبل. ولكن، هذا الوضع لا يجب أن يكون هكذا. لا يزال من المُمكن للنظام الدولي أن يَخرُجَ من هذه الأزمة ليس فقط كما هو، ولكن أقوى مما كان عليه قبل الحرب في أوكرانيا.

بلا شك، ستكون للغزو الروسي لأوكرانيا تداعياتٌ سلبية على النظامِ الدولي لتنظيم الصراعات الذي ظل صامدًا منذ العام 1945. دولةٌ عضو دائم في مجلس الأمن الدولي – واحدة من الدول الخمس التي تتحمّل مسؤولية أساسية في الحفاظ على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة – انتهكت بشكلٍ صارخٍ أحد المبادئ الأساسية للميثاق. وبذلك، تكون روسيا قوّضت المبدأ الأساسي الذي يقضي بأن تمتنع الدول عن استخدام القوة وأعمال العدوان ضد دولة أخرى، وهزّت مصداقية مجلس الأمن بصفته الهيئة المُكَلَّفة بالإشراف على مثل هذه المبادئ.

ومن المرجح أيضًا أن يُقوّض سلوك روسيا احترام المبادئ الأساسية للقانون الإنساني الدولي. في حين كان هناك اهتمامٌ كبير بملاحقة مزاعم جرائم الحرب ضد روسيا أو قواتها من خلال المحاكم الدولية والمحاكم الوطنية والآليات القانونية الأخرى، فإن هذا النوع من الأحكام الرسمية لا يحدث عمومًا إلّا في عدد قليل من القضايا، وقد لا يحدث على الإطلاق في حالة روسيا.

بالنسبة إلى الجُزءِ الأكبر، تم تصميم المعاهدات والمبادئ الإنسانية بحيث تكون ذاتية التنفيذ، مع مسؤولية المُعاقَبة أو المُقاضاة على الانتهاكات تقع في المقام الأول على عاتق الأطراف المتحاربة نفسها. في حين أنه قد يبدو من السذاجة السماح للدول بمُراقبة نفسها، إلّا أن الحقيقة هي أن النظام الدولي يفتقر إلى قوة شرطة عالمية أو نظامٍ قضائي عالمي يُمكنهما تولّي هذه المهمة. في ضوء ذلك، يعمل القانون الدولي الإنساني من خلال مُطالبة الدول ليس فقط بردع الجرائم من خلال الملاحقة القضائية، ولكن أيضًا باتخاذ خطواتٍ لمنع حدوثِ انتهاكاتٍ في المقام الأول. ويشمل ذلك التزامات الدول بتعليم قواتها العسكرية بانتظام الحدود القانونية، وتدريبها على السلوك المناسب، وإنشاء أنظمة للقيادة والسيطرة والانضباط لإعادة فرض وتنفيذ تلك الدروس.

وقد عمل مثل هذا التدريب والإنفاذ الداخلي على الحدّ من الانتهاكات بشكلٍ أكبر بكثير، على سبيل المثال، من التهديد البعيد جدًا للأفراد الذين يمثلون أمام المحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، فإن وسيلة الإنفاذ هذه تعتمد على استمرار قبول الأطراف المتحاربة. عندما تفشل دولة – وليست أي دولة، بل قوة عظمى ساعدت على صياغة قوانين الحرب منذ القرن التاسع عشر- في الحفاظ على هذه القواعد بوقاحة، فإنها تُضعِفُ النظام ككل.

في أوكرانيا، ليس حجمُ الانتهاكات المزعومة وعددُها فقط اللذان يُثيران القلق، ولكن أيضًا ما يوحي به فشل روسيا في غرس حتى الحد الأدنى من معايير السلوك بين قوّاتها. يبدو أن بعض جرائم الحرب المزعومة –على سبيل المثال، الاستخدام المتكرر والعشوائي للقصف لمدفعي والصاروخي على المناطق المدنية بالإضافة إلى منع عمليات الإخلاء وتكتيكات الحصار والتجويع القسري في أماكن مثل ماريوبول– كانت نتيجةً لاختيارٍ مُتعَمَّدٍ ومُنحَطٍّ لاستخدام وسائل “خلع القفازات” من العنف. لكن حوادث أخرى – مثل الإعدام بإجراءات موجزة في بوتشا وبوروديانكا، والاغتصاب والعنف ضد المدنيين في المناطق الأخرى التي تسيطر عليها روسيا أو السرقة والنهب على نطاق واسع لممتلكات المدنيين – تشير إلى عاملٍ مختلف في العمل. يأتي هذا النوع من الوحشية الخارجة عن القانون من ثقافةٍ عسكرية تؤيد القسوة، وتُشيرُ إلى أن روسيا قد فشلت في غرس حتى المعايير الإنسانية الأساسية أو القيادة والسيطرة في جيشها.

نتيجةً لهذه التجاوزات، هناك خطرٌ حقيقي من أن يخرج النظام الدولي من هذه الأزمة بأساسٍ أكثر اهتزازًا من حيث مبادئه الأساسية المُتَمَثِّلة في الحفاظ على السلام وحماية الحقوق الأساسية واحترام الإنسانية. ومع ذلك، يمكن أن تكون الحرب حافزًا بقدر ما هي عدوانية. في حين أن أحداث الأسابيع القليلة الماضية كانت مروعة، فقد ولّدت أيضًا مستوى من الاهتمام والتضامن الدوليين يمكن أن يسمح بعملٍ غير مسبوق – وفي الواقع، لقد حدث ذلك بالفعل.

على سبيل المثال، كانت هناك منذ سنواتٍ نداءات عاجلة لإصلاح مجلس الأمن، حيث أن استخدام حقّ النقض الذي يرقى إليه الشك من قبل أعضائه الدائمين أوقف باستمرار التدخّلات المهمة في مجال السلام والأمن وكذلك أنواعًا أخرى من العمل الجماعي. كان هناك نشاطٌ على هذه الجبهة في الشهر الفائت أكثر مما كان عليه في العقود العديدة الماضية. بعد فشل مجلس الأمن في إدانة الغزو الروسي بالإجماع، تبنّت الجمعية العامة القضية، ومارست قرار الاتحاد من أجل السلام لأول مرة منذ العام 1997، مع تصويت 141 دولة في الجمعية لإدانة الغزو.

ثم طُرِدَت روسيا من مجلس أوروبا ومن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؛ كان هذا الأخير حدث سابقًا مرة واحدة فقط، مع طرد ليبيا في العام 2011. وقبل أسبوعين فقط، تم تمرير إجراءٍ من شأنه أن يُوَفِّرَ الشفافية في حق النقض (الفيتو) وعدم إتخاذ أي قرار في مجلس الأمن. من الآن فصاعدًا، كلما استخدم عضوٌ دائم حق النقض، سيُحال هذا القرار على الفور إلى الجمعية العامة لاستعراضه ومناقشته. ستظل استنتاجات الجمعية غير مُلزِمة، لكن هذه العملية ستُدخِل ضوابط وتوازنات وضغط المراجعة العامة على القوى العظمى، وهو الشيء الذي كان غائبًا إلى حدٍّ كبير حتى الآن عن نظام الأمم المتحدة.

ولّدَت الأحداث في أوكرانيا أيضًا اهتمامًا أكبر للنداءات طويلة الأمد للمُساءلة وحماية المدنيين في زمن الحرب. في السنوات القليلة الماضية، أُثيرَت مخاوف ليس فقط بشأن سلوك روسيا في أماكن مثل سوريا أو الساحل، ولكن أيضًا بشأن سلوك الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة. على الرغم من التركيز الأخير على استخدام روسيا العشوائي للذخائر العنقودية في أوكرانيا، فقد واجهت أميركا بدورها الانتقادات نفسها لاستخدامها الذخائر العنقودية في حوالي 15 دولة أخرى، وإن كان ذلك منذ العام 2009. بالإضافة، وإن لم يكن على قدم المساواة مع السلوك غير المنضبط والوحشي للقوات الروسية في أوكرانيا، كانت هناك دعوات منذ أمد طويل تُطالبُ الولايات المتحدة ببذل المزيد لمعالجة الثغرات القانونية التي تؤدي إلى إلحاق ضرر بالمدنيين على نطاق واسع، ولضمان تحقيقات أكثر صرامة ومحاكمة الجنود عند حدوث أي انتهاكات.

كان حجم الفظائع التي حدثت في أوكرانيا بمثابة دعوة واضحة بشأن قضايا مثل هذه، وربما كان بالفعل حافزًا لاتخاذ إجراء الآن. إن الدول التي اعتبرت أو تعاملت منذ فترة طويلة مع المحاكم والهيئات القضائية الدولية على أنها غير نزيهة ومشتبه بها، أبدت أخيرًا بالفعل اهتمامًا أكبر بدعم هذه السبل لتحقيق العدالة. كان هناك دعمٌ أكبر لتوثيق جرائم الحرب على مستوى العالم، وفي الولايات المتحدة، يدرس الكونغرس مشروع قانون جديدًا قد يُعالج مخاوف المُساءلة والأضرار المدنية في العمليات العسكرية الأميركية. على الرغم من أن هذا كان قيد الإعداد قبل الحرب في أوكرانيا، إلّا أن تسليط الضوء على الضرر الذي يلحق بالمدنيين في الوقت الحالي يزيد من فرصة المضي قدمًا في هذه الإجراءات وتنفيذها بجدية.

لا يزال هناك الكثير مما يجب المضي فيه والعمل عليه على كلتا الجبهتين، ولكن هناك أيضًا دافعًا مُحتَمَلًا للقيام بذلك. إن موازنة الآثار السيئة لانتهاكات روسيا لن تتطلّب فقط اتخاذ إجراءات ضد روسيا على وجه التحديد، بل تتطلب خطوات استباقية من جانب جميع الدول لمعالجة سجلّاتها الخاصة ودعم أنظمة المُساءلة ككل.

تخيّل لو كانت انتهاكات روسيا ستحثّ جميع الأطراف على احترام اتفاقات جنيف لأخذ حماية المدنيين بجدية أكبر؟ أو لنأخذ مثالًا آخر، تخيّل ما إذا كانت الإدانات الواسعة لهجمات الذخائر العنقودية الروسية دفعت المزيد من الدول إلى التوقيع على الاتفاقية الدولية بشأن الذخائر العنقودية؟ أو تخيَّل ما إذا كان الإجراء الجديد لحق النقض في مجلس الأمن هو بداية حركة أكبر بكثير لإطلاق الإمكانات الكاملة للأمم المتحدة، وتحديد مسارات بديلة للعمل الجماعي بشأن القضايا التي طالما عرقلها مثل هذا الفيتو، على سبيل المثال، بشأن تغير المناخ؟

لا شك أن السلوك الروسي في أوكرانيا سيكون له بعض الانعكاسات السلبية على السلم والأمن الدوليين. ولكن كما جادلت المؤرخة مارغريت ماكميلان مرارًا، يمكن للحرب أن تُحدِثَ الدمارَ والتحوّلَ في الوقت عينه. لقد كانت آفة الحرب هي التي دفعت في البداية إلى إنشاء الأمم المتحدة ونظام القواعد والمعاهدات والمبادئ التي لدينا اليوم. تسببت الحرب في أوكرانيا في دمار ومعاناة رهيبة، لكنها أيضًا حفّزت مستوى من الطاقة والاهتمام والإرادة السياسية التي يمكن أن تؤدي إلى مسارات جديدة للحفاظ على السلام، وربما إلى نظام دولي أكثر مسؤولية وأكثر إنصافًا وأكثر مُهيَّأ للعمل الجماعي من العمل الحالي.

  • إيريكا غاستون هي كبيرة مستشاري السياسات في مركز جامعة الأمم المتحدة لبحوث السياسات وباحثة غير مقيمة في كل من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ومعهد السياسة العامة العالمية. هي محامية دولية ومحللة نزاعات لديها خبرة خاصة في الشرق الأوسط وأفغانستان. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @ericagaston.
  • كُتِبَ هذا المقال بالانكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى