لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (8): ذَرائعُ الحَرب

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

كما إنَّ لكُلِّ حركةٍ في العالم أسبابها، فللحروبِ أيضًا مُسَبّباتها التي تكونُ في أحيانٍ كثيرةٍ مُفتَعَلة، وتُشكّلُ ذريعةً للفِعلِ أو للحَرب، ولا يعني هذا عدم وجودِ أسبابٍ جوهريةٍ تُبَرِّرُها، أو تُطلِقُ دينامِيَّتها.

إنَّ الأسبابَ المُباشرة هي هذه: في الحربِ الإسبانية، مثلًا، لم يكن فوزُ الجمهوريين الشيوعيين والاشتراكيين في انتخابات 1936 هو سببَ الحَرب الفعلي، إنّما هو السبب المباشر. أمّا السبب الفعلي فهو وجود القوى اليسارية ذاتها، مما أَطلَقَ عجلةَ الصراعِ الطبقي، مع الإقطاعِ الزراعي، ومع الكنيسة الكاثوليكية الداعمة للطبقات العُليا والمدعومة منها.

ومن أسبابها الحقيقية أيضًا التحوّلات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، الناشئة في الإقليم المُجاور لإسبانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، مثل الفاشية الإيطالية بقيادة موسوليني، والنازية الهتلرية في ألمانيا، وصراعهما مع “الشيوعية الستالينية” ومع “الانكلوسكسونية” التي كانت، وما زالت، تُهَيمِنُ على العالم بقيادة بريطانيا ثم الولايات المتحدة.

وكذلك الأمرُ بالنسبةِ إلى الحربِ الأهلية اللبنانية. فالهجومُ الكتائبي على بوسطة عين الرمانة ليس هو السببَ الفعلي للحرب، لكنّه السببُ المُباشِر، أو الفتيل الذي أطلقَ الحربَ من عقالها. أمّا الأسبابُ الفعلية وغير المُباشِرة في اندلاع الحرب فهي عديدةٌ ومُتَشَعِّبة، أبرزها، بالنسبةِ إلى شريحةٍ تأسيسية واسعة من اللبنانيين، التهديد الوجودي للبنان بفعل وجود الكفاح الفلسطيني المُسَلَّح، وانتشاره على كاملِ الأراضي اللبنانية، خلافًا حتى للاتفاقية المعقودة مع الدولة اللبنانية، والمعروفة باسم “اتفاقية القاهرة”، التي سمحت بوجود السلاح الفلسطيني في مناطق جنوبية مُحَدَّدة ومُحاذية لفلسطين المُحتَلّة.

لكنَّ الأمرَ لم يَقتَصِر على هذا التجاوزِ الخطير، بل تعدَّاهُ إلى أمرَين كلُّ واحدٍ منهما يؤدّي إلى الصراع الأهلي. الأوّل، هو امتدادُ انتشارِ السلاحِ الفلسطيني إلى أيدي جماعاتٍ لبنانية في مُختَلَفِ المحافظات، وإلى أيدي جماعاتٍ وافدةٍ إلى لبنان من الخارج بحجّةِ دَعمِ الثورة الفلسطينية. والثاني، استقواءُ تجمّعاتٍ لبنانية بالثورة الفلسطينية لقَلبِ الموازين الداخلية التاريخية، وأبرزها “الحركة الوطنية” بقيادة الزعيم الدرزي الاشتراكي كمال جنبلاط.

والجديرُ بالذِكرِ هنا، على سَبيلِ المُقارنة، أنَّ “الحركة الوطنية اللبنانية” كانت أطلقت برنامجًا إصلاحيًا لتغييرِ الأوضاع القائمة في لبنان آنذاك، يُشبِهُ برنامجَ القوى الجمهورية الاشتراكية في إسبانيا، الذي حظي بدَعمِ الأحزاب الشيوعية في الدول المجاورة، ودعم الاتحاد السوفياتي نفسه بصورةٍ علنية. وهناكَ ما يدلُّ أيضًا على دَعمِ موسكو للحركة الوطنية اللبنانية وقائدها كمال جنبلاط الذي كان يحملُ أرفعَ وسامٍ سوفياتي في ذلك الوقت وهو “وسام لينين”.

وكُنتُ ذكرتُ في كتاب سيرتي الذاتية “علامات الدرب”، الصادر مطلع العام 2013، أنَّ صديقًا للرئيس اللبناني الراحل الياس سركيس أبلغني أنَّ المُسَلَّحين الفلسطينيين في الجنوب اللبناني كانوا يُطلِقونَ الصواريخ باتجاهِ فلسطين المحتلة من جوارِ المدن والقرى الآهلة، ظنًاً منهم أنَّ ذلكَ يَردَعُ إسرائيل عن ضربِ تلك البلدات خشية ردود الفعل الإعلامية حول العالم. لكن ذلك لم يَردَع إسرائيل عن توجيهِ ضربةٍ قاسيةٍ إلى مدينة النبطية وجوارها، فقام الرئيس الياس سركيس باستدعاء ياسر عرفات قائد الثورة الفلسطينية طالبًا منه أنْ يُوقِفَ مثل هذه التكتيكات، لا سيما أنَّ في الجنوب مناطقَ جبلية وأوديةً كثيرة غير آهلة يُمكنه التحرّك فيها ومنها بحرية، فأجابه عرفات، حسب الرواية، “النبطية ليست أحسن من حيفا”. فردَّ عليه الرئيس سركيس بقوله له: “يعني إذا راحت حيفا، فهل من الضروري ان تروح النبطية. نعم، انا بصفتي رئيسًا للبنان، مؤتمنًا على وحدة أراضيه، أقول لك أنَّ النبطية عندي أغلى من حيفا”.

المشكلة هنا أنَّ الثورةَ الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات استهترت بحقوقِ وأنظمةِ الدولِ المُحيطة بفلسطين المحتلة، لا سيما منها لبنان الذي كان الوحيد الذي قدَّم لها قواعدَ ثابتة على الأرض.

وربّما كان ذلك الاستهتارُ المدمِّرُ حالةً نفسانية وصفها الشاعر الأردني مصطفى وهبه التل (المعروف بلقبه “عرار”) بقوله:

“إنَّ الذي تُسبى مواطنه    تَحِلُّ له السبيَّة”.

أي إنَّ الذي يَفقُدُ وطنه لا يُبالي بفقدانِ الآخرين لأوطانهم.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى