في ذكرى النَكبة: أيُّ دُروس

الدكتور ناصيف حتّي*

في مُنتصَفِ هذا الشهر، تكون مرّت سبعةُ عقودٍ ونصفٍ من الزمن على قيامِ دولة إسرائيل (١٤ ايار/مايو) وذكرى النكبة (١٥أيار/مايو) في لحظةٍ حاملةٍ لتحوّلاتٍ كبيرة وخطيرة من حيث تداعياتها المُحتَمَلة وكيفيّة التعامل مع هذه التداعيات من قبل كافة الأطراف المَعنيّة. تراجعت القضية الفلسطينية عن جَدوَلِ الأولوِيّات الإقليمية لاعتباراتٍ تتعلّقُ بالتطوّرات الصراعية المُعَقّدة بأسبابها، وبتعدّدِ أطرافها والتشابك بينها في إطارِ مصالح اللاعبين المَعنيين والمُنخَرِطين بأشكالٍ مُختلفة في هذه الصراعات. صراعاتٌ زادت من حدّة السخونة في المنطقة، الأمرُ الذي جعل القضية الفلسطينية بمثابةِ القضية المَنسيّة. ولا نُشيرُ إلى مخاطر ذلك من مُنطَلَقٍ مَبدئي أو تضامني هويّاتي أو قانوني دولي فحسب، بل بسبب التداعيات المُختلفة بأوقاتها وبخطورتها على الأمن والاستقرار في المنطقة، كونها قضية جاذبة للتدخّل والتعبئة والتوظيف باسمِ إيديولوجياتٍ هويّاتية أو سياسية كبرى قادرة أن يوظّفها كافة المشاركين في “لعبة الأمم” في الإقليم.

ما يُساعدُ على هذا الاتجاه أيضًا سياسة حكومة اليمين الديني الأصولي المتطرّف في إسرائيل. سياسةٌ تقومُ على تديين الصراع يُعبَّرُ عنها بشكلٍ واضحٍ وحاسمٍ، سواء على مستوى الخطاب أو في الممارسة على الأرض، في إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة. سياسةٌ تقومُ على تهويد الأرض عبر حركةٍ استيطانية ناشطة أسقطت الكثير من القيود التي كانت قائمة نتيجةَ تفاهماتٍ أو اتفاقاتٍ سابقة للحفاظ على الوضع القائم على الأقل، وبهدف عدم نسفِ أُسُسِ السلام الذي يُفتَرَضُ أن يتحقّق يومًا. سياسةٌ استيطانية أيضًا تَهدُفُ إلى خلق كافة الظروف الطاردة للشعب الفلسطيني من أرضه. والجدير بالذكر أنَّ عملية السلام التي انطلقت في مؤتمر مدريد منذ عقود ثلاثة وأكثر صارت في حالةِ موتٍ سريري منذ عقدين من الزمن على الأقل.

سياسةُ الحكومة الحالية جاءت لتُعزّز بشكلٍ ناشط وقوي وحاسم نظام التمييز العنصري ضد فلسطينيي الداخل وضد فلسطينيي الأراضي المحتلة، إلى جانب أنّها أيضًا أحدثت في خطابها العقائدي الديني الأصولي شَرخًا في المجتمع اليهودي والمؤسسة السياسية اليهودية في إسرائيل، خصوصًا في مجالِ إعادة تنظيم السلطات وموقف ورؤية الأصولية الدينية في ذلك. إنَّ هدفَ هذه السياسة شديدُ الوضوح إلّا لِمَن لا يُريدُ أن يرى: الهدفُ هو إقامة دولة إسرائيل الكبرى في الجغرافيا والتاريخ والسياسة من البحر الى النهر. ونقوم الاستراتيجيةُ هنا على تعزيزِ سياسة الأمر الواقع ثم قوننته بشكلٍ تدريجي. ولا تكفي التحذيرات الدولية الكلامية من مخاطر هذه السياسة على مستقبل السلام في المنطقة، طالما أنها تبقي بدون أيِّ فعلٍ سياسيٍّ رادعٍ لتلك الاستراتيجية القائمة على تعزيز الاحتلال وشرعيته داخليًا، طالما الخارج يكتفي بالتحذير أو التنبيه أو الإدانة في أقصى حَدّ.

كثيرون يعتبرون أنَّ حَلَّ الدولتين اللتين تعيشان جنبًا إلى جنبٍ قد سقط نهائيًا من خلال العمل الناشط والهادف إلى إلغاء كافة المقوّمات الأساسية الضرورية لهذا الحل. وبالتالي حسب هذه القراءة صرنا أمام حلّين لا ثالث لهما. الأوّل يقوم على تكريس دولة إسرائيل الكبرى ذات النظام العنصري، الذي يُذَكّر بالنظام الذي كان قائمًا في  جنوب أفريقيا في الماضي. الأمرُ الذي سيؤدّي، بعكس ما يعتقده أصحاب هذا النظام، إلى حربٍ أهلية مستمرة، وتحديدًا من خلالِ انطلاقِ انتفاضةٍ فلسطينيةٍ ثالثة مُختلفة في حجمها وامتدادها الجغرافي وطبيعتها عن الانتفاضتين السابقتين. فلا إسرائيل قادرة أن تفرضَ الاستقرار والتطبيع وبالتالي إقامة سلمها حسب هذه الاستراتيجية من جهة، ولا الشعب الفلسطيني قادرٌ وحده من جهةٍ أخرى أن يفرضَ على إسرائيل التراجعَ كلّيًا عن أهدافِ هذه السياسة وإسقاطها كخيارٍ قائم. فنحنُ أمامَ ما يُعرَف ب”النزاع الاجتماعي الممتد” القابل للتصعيد والتخفيض في حدّته، ولكن ليس للحلّ حسبما هو مطروح.

الحلُّ الثاني هو الدولة الواحدة أيضًا بين البحر والنهر، ولكنه نقيضٌ للحلّ الأول إذ يقومُ على مفاهيم المُواطَنة والمساواة وحقوق الإنسان والتي هي بالتالي نقيضٌ لدولة إسرائيل وللفلسفة التي قامت عليها. وقد طرحه البعض في الماضي وعاد آخرون لطرحه حاليًا. ولكن يبقى ذلك الحل رُغمَ جاذبيته الأخلاقية والقيميّة والسياسية أمرٌ مُستَبعَد كلّيًا من مُنطلقٍ واقعيٍّ جدًا إذا ما نظرنا إلى شروط قيامه: شروطٌ تُمثّلُ نقيضًا كليًا لفلسفة قيام دولة إسرائيل .

إنَّ أولى الشروط الواقعية للتوصّل إلى التسوية الشاملة والعادلة والدائمة، حسب قرارات الأُمم المتحدة ذات الصلة والمواقف الدولية المؤيّدة لتلك التسوية، ولدعم هذا الخيار الصعب وشبه المستحيل ولكنه الوحيد المُمكن لتحقيق السلام الفعلي، تستدعي العمل على التصدّي لهذه السياسة الإسرائيلية الناشطة ووقفها. وهذا ليس بالأمر السهل بالطبع، لكنه يبقى بالأمرِ المُمكن والضروري إذا ما توفّرت النيّة والإرادة عند الفاعلين على الصعيد الدولي، والمَعنيين بتحقيق الاستقرار الفعلي في المنطقة الذي هو لمصلحة الجميع. وتبقى هناك مسؤولية عربية أساسية للمبادرة والتنسيق مع الأطراف الدولية الفاعلة والمَعنية، بُغية الدفع بهذا الاتجاه.

فلا يكفي الإنتقاد أو التحذير من مخاطر السياسة الإسرائيلية وتداعياتها بل يجب العمل على ردع  هذه السياسة قبل فوات الأوان. إنها سياسةٌ تؤدي إلى خلقِ مزيدٍ من عناصر التوتر والصراعات في شرقٍ أوسط يعيش كافة أنواع الصراعات والتوتّرات والحروب التي تُغذّي وتتغذّى على بعضها البعض كما نذكر دائمًا.

فهل يستفيد المعنيون من دروسِ وعِبَرِ التاريخ البعيد والقريب في هذا الصدد للتحرّك الأكثر من ضروري لوقف هذه السياسة وإعادة إحياءٍ فعلي ولو بشكلٍ تدرّجي لعملية السلام في المنطقة؟ سؤالٌ لا بدَّ من الإجابة عنه قبل فوات الأوان.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى