الفرنكوفونيا إلى انحسار؟!

عبدالله نعمان*

اللغة الفرنسية في خطر!

كلُّ ما له علاقة بها يشي بأَنها آيلةٌ إِلى أَن تمسي لغة ميتة، حيال زحف تدريجي عليها من لغة هجينة هي “الفْرَنْكْليزيَّة” (الفرنسية الممزوجة بالإِنكليزية) وهي تتقدم صوبها في ثقة وشبه اجتياح. وحتى الكنديون الفرنكوفونيون يجدون صعوبة في التصدي لهذا الزحف لكنهم ما زالوا يتمسكون بأَطراف لغة باريس.

فرنسا اليوم تتهيَّـأُ، وبكلفة باهظة، لتأْسيس مختبر للفرنكوفونيا في القصر ذاته الذي شهد غروب اللاتينية وشروق لغة شاتوبريان. فبعد أَيام، في الأَول من تشرين الثاني/نوفمبر، سيدشِّن الرئيس الفرنسي “المدينة الدولية للفرنكوفونيا” في قصر فيليه كوتريه (Villers-Cotterêts) وهو من القرن السادس عشر (بدأ بناؤُه سنة 1530 وانتهى سنة 1556) على عهد الملك فرنسوا الأَول.

ولا يحتاج إيمانويل ماكرون الكثير ليُظهر ميله إلى هيبة السلاطين، مع أَنه يسعى إِلى الاستغفار على هفوات له كثيفة، منها تعيينُه على رأْس المنظمة الدولية للفرنكوفونيا وزيرة من رَوَاندا كانت تنشر في بلادها الإِنكليزية على حساب الفرنسية، وهي التي تم انتخابها فإِعادة انتخابها بإِجماع الدول الفرنكوفونية؟

وما يفاقم هزال الفرنكوفونيا حيال الأمرَكَة، رخاوة باريس لا في السياسة الخارجية فقط بل في الشؤون الاقتصادية وأَخيرًا الثقافية. ذلك أن العَولَمَة تفرض ذلك.

قرونًا طويلة تلقَّحت اللغة الفرنسية بمفردات عربية وألمانية وإسبانية وإيطالية وإنكليزية، كما من قبلُ دخلت إليها مفردات يونانية ولاتينية وعبرية. واللافت أن مستخدمي الفرنسية اليوم تضاعفوا خمس مرات، والنتاج الأدبي بالفرنسية يسطع اليوم خارج فرنسا. فالكتّاب الفرنكوفونيون حاليًا من مهاجري اللغة. وأكثر: هي ذي الأكاديميا الفرنسية، حارسة الهيكل، بات بين أعضائها الأحياء الخمسة والثلاثين عشرة أعضاء غير فرنسيين. وأكثر بعد: هي ذي منذ سنتين عاجزة عن ملء مقاعد خمسة أعضاء متوفين.

اللافت المؤسف أيضًا، إسهام أركان الجمهورية ومؤسساتها في هذه الـمَقْتَلَة. ففي تقرير صادر عن الأكاديميا الفرنسية وردت تجاوزاتٌ تناقض قانون 4 آب/أغسطس 1994 الذي شدّد على استعمال الفرنسية في مؤسسات التعليم والعمل والتبادلات التجارية  والخدمات العامة، ما يوطّد اللغة في مفاصل المجتمع.

ولكن الحاصل أن الانصياع للإنكلوساكسونيين يتنامى حتى يكاد أن يجعل فرنسا ناحيةً أو ضاحية تخضع لأوامر سيدٍ مخوَّلٍ أَجنبي. وإِخال الجنرال ديغول يهتز غيظًا في قبره، هو الذي سنة 1962 واجه مَطالع الانحدار السريع بأمره وزيرَ دفاعه بيار مسمير أن يسهر في مؤسسات الدولة على “تجنُّب استعمال مكثف للتعابير الأنكلوساسونية حيثما يمكن استعمال التعابير الفرنسية، ما يعني في كل مجال”.

وأخيرًا، صدر عن الكاتب الروماني إميل سِيُوران الفرنكوفوني النتاج هذا الأسى: “اليوم، والفرنسية في انحطاط، يحزنني أن ألاحظ عدم اكتراث الفرنسيين له، فيما أنا، سليل البلقان، أعزّي نفسي لرؤيتي إياها تغرق، وسأغرق معها وليس من يعزيني”.

حتى الأمس القريب كانت للثقافة أولوية تشع على السياسة وكل ما عداها.

اليوم، هي العولمة تشع، وتبقى الكلمة الأخيرة لأمبرطورية الدولار.

  • عبدالله نعمان هو ديبلوماسي سابق وكاتب لبناني مُقيم في باريس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى