الحل المحتمل للمشاكل الإجتماعية في العالم العربي
بقلم غسان حاصباني*
تتنقل اليد العاملة ضمن منطقة الشرق الأوسط بحرية عالية نسبياً لكن حركة التجارة ضمن المنطقة ما زالت من الأدنى مقارنة بالمناطق الأخرى في العالم مثل آسيا وأوروبا.
وفي حين يتجه العالم الى تكافل أعلى على المستوى الإقتصادي ضمن المناطق والقارات المختلفة، وتفكك أكبر على المستوى السياسي والإيديولوجي، يبقى بعض شعوب منطقة الشرق الأوسط يحلم بوحدة لم تتحقق لا إيديولوجياً ولا إجتماعياً ولا سياسياً، فهل يمكن أن تتحقق إقتصاديّاً ولو بأدنى المعايير؟
بعد فشل محاولات توحيد الدول على المستوى السياسي خصوصاً تحت النهج الإشتراكي–الإجتماعي والحكم التوتاليتاري كما حدث في الإتحاد السوفياتي وأوروبا سابقًا خلال وبعد الحربين العالميتين، والمنطقة العربية خلال مرحلة عبد الناصر، دخل العالم مرحلة العولمة والتكافل الإقتصادي بين الدول لتشكيل مجموعات أسواق تتفاعل وتتعاون لتزيد من قدرتها التنافسية، وتتكامل في نقاط القوة دون الإنتقاص من سيادة أية دولة مشاركة بإقتصار الإتحاد على الشق الإقتصادي وليس العسكري أو السياسي أو حتى الإجتماعي. فبحلول العام 1997 كانت أكثر من 50% من العمليات التجارية تحصل ضمن مجموعات تجارية متكافلة. وبرزت بين مرحلة الستينات من القرن الماضي وبدايات الألفية الثانية مجموعات ضخمة مثل السوق الأوروبية المشتركة، والإتحاد الافريقي، والمجموعة الإقتصادية اليورو–آسيوية، ومجلس التعاون الخليجي، وإتحاد دول جنوب شرق آسيا، و“نافتا” منطقة التجارة الحرة في أميركا الشمالية وغيرها.
وتتفاوت صلابة وعمق هذه الإتحادات من منطقة الى أخرى، حيث يصل بعضها الى مستوى الإتحاد السياسي مثلما حصل في السوق الأوروبية المشتركة حين تطورت الى الإتحاد الأوروبي. أما البعض الآخر فيقتصر فقط على إتفاقيات جمركية وتجارية. وتنقسم أنواع الإتحادات او المجموعات الى تسع مراحل أساسية وهي: التجارة الحرة، توحيد الجمارك والسوق والعملة، السفر والتنقل من دون تأشيرات، إلغاء الحدود، تنسيق أو توحيد السياسة والدفاع. ويمكن للإتحادات إختيار مدى تخلّي كل دولة فيها عن مستوى السيادة لصالح المجموعة للحصول على أسواق أكبر وكلفة أقل وصولًا الى أمن مشترك. والإتحاد الأوروبي كان الأقرب إلى تحقيق الإتحاد الكامل لولا الإنتكاسة الإقتصادية الأخيرة التي أعادت إحياء الحركات الوطنية والإنفصالية في بلدان الإتحاد مما قد يؤخر تحقيق الوحدة الدفاعية والسياسية. وفي الوقت عينه، بدأت ملامح الإنفصال تظهر حتى داخل حدود بعض الدول مما يدل على إحتمال نشوء إتحاد أوروبي للمقاطعات أو حتى المدن، يغلب فيه الطابع الإقتصادي على الطابع السياسي.
والإحباط الذي ساد الشرق الأوسط بعد فشل محاولات الوحدة العربية السابقة لا يجب أن يمنع العمل على التعاون الإقتصادي الموسّع، رغم المخاوف والإختلافات السياسية التي تسود المنطقة.
فنرى اليوم في منطقة الشرق الأوسط أن حركة اليد العاملة من بلدان المتوسط والمشرق الى بلدان الخليج عالية حيث تزيد تحويلات العمال السنوية من دول الخليج الى بلادهم في لبنان والاردن وسوريا ومصر عن عائدات تصدير البضائع من هذه الدول الى الخليج.
وضمن مؤتمر نظمته مؤسسة “فايننشال تايمز” في الأردن، ذكر إيفان نيماك، ممثل البنك الدولي أن حركة التجارة ضمن منطقة الشرق الأوسط تعادل 8/1 من الحركة في أوروبا وثلث الحركة في جنوب شرق آسيا. ومن اللافت أن أكثر من ثلثي الحركة التجارية لدول الشرق الأوسط تحصل مع الدول الصناعية. نسبة الحركة التجارية بين دول المنطقة تشكل 6 الى %7 فقط من حركة الإستيراد والتصدير الإجمالية لهذه الدول، مما يجعلها معتمدة بشكل شبه كلي على الدول المنتجة الكبرى مستوردة السلع والمنتجات بكلفة عالية. حتى ولو إستثنينا الدول الغربية الكبرى من لائحة الموردين، فالحركة التجارية بين دول المنطقة مع أوروبا الشرقية ودول الإتحاد السوفياتي السابقة وآسيا تفوق علاقاتها التجارية مع بعضها البعض.
ويعود هذا النقص الى عوامل عدة منها أن الوضع السياسي في المنطقة غير مستقر مما يعوق العمل الإقتصادي. إضافة الى وجود سياسات في بعض الدول لحماية الأسواق المحلية على حساب الإستيراد بكلفة أقل إضافة الى المخاوف المتعلقة بالسيادة حيث تختلط مفاهيم قيام المعاهدات التجارية والضريبية مع توحيد العملة أو السياسة او الدفاع.
لطالما كانت السيادة مصدر قلق إزاء إنشاء الاتحادات خصوصاً اذا كانت على المستوى السياسي والدفاعي أو حتى العملة والحدود. لكن التعاون على المستوى التجاري والجمركي قد يفتح آفاقًا كبيرة تحفز على الإنتاج والصناعة حيث تخلق أسواقًاً أكبر وتقلّص من الكلفة على المستهلك بسبب ضريبة الإستيراد المنخفضة. وفي منطقة الشرق الأوسط مجالات كثيرة للتكامل وتحقيق حرية أكبر لتوزيع القيمة الإقتصادية. وتنقسم المنطقة الى مجموعات عدة يمكنها أن تكمل بعضها البعض تحت منظومة إقتصادية واحدة تترفع عن الخلافات السياسية. فدول الخليج غنية بالموارد الطبيعية للطاقة بينما دول مثل مصر وسوريا ولبنان والمغرب غنية بأراضيها الزراعية واليد العاملة المنخفضة الكلفة، لكنها تفتقر الى الإستثمارات. ولدى لبنان والأردن فائض في اليد العاملة المحترفة والمتخصصة، إضافة الى موارد المياه في لبنان. أما دول مثل الجزائر والعراق فهي تؤمن أسواقًا كبيرة للدول الأخرى كما تحتوي أيضًا على مصادر للطاقة.
التكافل الإقتصادي في منطقة الشرق الأوسط سيساعد دول المنطقة على الإستفادة من حجم أكبر للسوق وإستخدام أكثر فعالية للقدرات الموجودة من دون الإنتقاص من سيادة الدول الأعضاء. وقد يقرّب هذا التكافل الإقتصادي وجهات النظر السياسية ويخفّض من حدة التوترات وإحتمال بروز دول فاشلة في المنطقة جرّاء إهتزازات إقتصادية وإجتماعية.
عندما أحرق بوعزيزي نفسه في ساحة عامة في تونس لم يكن يطالب إلّا بحرية البيع والشراء، وأن يقوم بعمله من دون الحاجة إلى دفع الرشوة أو الخوف من أن تحتجز بضائعه بشكل عشوائي. فكان بوعزيزي شهيدًا من أجل الحرية الإقتصادية قبل السياسية التي لم يهتم بها يوما، بحسب أقربائه. ولذلك، فالدول التي تخاف على وضعها السياسي من جرّاء دخول إتحاد إقتصادي، عليها إعادة النظر لأن الإنهيار الإجتماعي والسياسي يبدأ من الإقتصاد الفاشل.
-
مفكر وخبير إقتصادي وإستراتيجي
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.