عالمٌ يَتَفَكَّك: صراعُ القوى الكُبرى ونهايةُ وَهمِ النظام الدولي (1 من 4)
عامٌ يرحَلُ والعالمُ يدخُلُ مرحلةَ إعادة تشكُّل قاسية، يتراجَع فيها مفهوم “المجتمع الدولي” لمصلحةِ صراعٍ مفتوح بين قوى كبرى تُعيدُ تعريفَ النفوذ والحدود وأدوات القوة. في هذا المشهد المتحوّل، لم تَعُد القواعد الحاكمة للنظام الدولي ثابتة، بل باتت المصالحُ وموازين القوة هي المُحدِّدَ الأساسي لمسار السياسة العالمية.

الدكتور سعود المولى*
يُعيد التحوُّل الاستراتيجي الذي نشهده في عالم اليوم تنظيمَ مجال العلاقات الدولية بشكلٍ جذري. فمفهوم “المجتمع الدولي”، الذي كان قائمًا على القانون الدولي والمنظّمات التي انبثقت عن الحرب العالمية الثانية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها)، وإن كانَ محلَّ جدلٍ أحيانًا، فقد أصبح الآن مُتقادِمًا نظرًا للاختلافات العميقة بين الدول، وبين الشعوب، من حيث المصالح والنماذج، وحتى المصير المشترك. في هذا السياق من إعادة التشكيل الجيوسياسي العميق، تبرز مجموعة من القوى الكبرى:
أولًا، الاحتكار الثُنائي الصيني-الأميركي، حيث تنخرط القوة العظمى السابقة ومنافستها الصينية، في منافسةٍ تجارية قد تتصاعَدُ إلى مواجهةٍ عسكرية غدًا؛
ثانيًا، روسيا، القوة العظمى السابقة التي ضعفت بشدة، والتي ترغب في “البقاء ضمن نادي الكبار”؛
وأخيرًا، أوروبا، أي الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، وهي مجموعةٌ من القوى المتوسّطة الضعيفة، والتي، على الرُغم من غياب دولة موحَّدة، تمتلك مزايا مُعَيَّنة للمشاركة في ديناميكيات القوة وتسعى إلى إيجاد مكانتها.
يختلف ميزان القوى بين هذه الكتل الأربع تبعًا للمعيار المُعتَمَد. فمن منظور التجارة، تعتمد أوروبا على الصين، والولايات المتحدة على أوروبا. أما من الناحية الديموغرافية، فتتفوَّقُ الصين بفارقٍ كبير، بينما تتجاوز أوروبا القوَّتين الأخريين. وفي مجال القوات المسلحة، تهيمن الولايات المتحدة بوضوح.
وعلى الرُغم من امتلاك الكتل الأربع جميعها أسلحة نووية، إلّا أنَّ روسيا والولايات المتحدة تحافظان على تفوُّقٍ ملحوظ. علاوةً على ذلك، تُصدِّرُ كتلتان الطاقة (الولايات المتحدة وروسيا)، بينما تستهلكُ كتلتان أخريان كميّاتٍ هائلة منها (أوروبا والصين). وتشهدُ هذه القوى توتُّرات في ما بينها، باستثناء روسيا والصين. والجدير بالذكر أنَّ أوروبا تُواجِهُ توتّرات على جميع جبهاتها (الشرقية والجنوبية والغربية والشمالية).
ما هي طبيعة العلاقات بين هذه الكتل الأربع؟
الولايات المتحدة: لم يتردَّد دونالد ترامب في زعزعة النظام القائم في السياسة الخارجية. ونظرًا لأنَّ النظامَ الدولي الذي ساهمت الولايات المتحدة في بنائه لم يَعُد يخدم مصالحها، فقد خالف ترامب توافُق الحزبين الجمهوري والديموقراطي وقرّرَ الانضمام إلى المعسكر المُراجع (الصين وروسيا). وهو يتجه بذلك نحو رؤيةٍ عالمية قائمة على مناطق النفوذ والتواطؤ بين القوى العظمى. ويُعَدُّ موقع أوروبا في هذه الرؤية محوريًا: فهل تنظرُ إليها واشنطن على أنها تقعُ ضمن منطقة نفوذ الولايات المتحدة أو روسيا؟ أم تُعتَبَرُ قوةً ذات منطقة نفوذٍ خاصة بها؟
روسيا: يسعى الرئيس فلاديمير بوتين إلى إعادة بناء نظام عالمي جديد بما يسميه “الأغلبية العالمية”، ويعتزم وضع روسيا على رأس نظام أوروبي جديد. وبالتالي، فإنَّ القضية الحقيقية في الصراع الأوكراني ليست مسألة أرض، بل تفكيك قواعد الأمن الأوروبي القديمة، وتحديدًا انهيار حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ومن المرجح أن تتعزّزَ العلاقات بين الصين وروسيا عسكريًا، فإلى جانب المصلحة المشتركة في تهميش الغرب، تحتاج الصين إلى الدعم الروسي ومخرجات الدروس المستفادة من حربها في أوكرانيا.
الصين: شكّل وصول شي جين بينغ إلى السلطة في نهاية العام 2012 نقطةَ تحوُّلٍ نحو صين إمبراطورية وتوسُّعية. شي جين بينغ إمبراطور ذو رؤية. قبل وصوله، كانت القرارات تُتَّخَذ بقيادةٍ جماعية. أما اليوم، فهو يُسيطر على كلِّ شيء، وهدفه طويل الأمد: القضاء على النفوذ الأميركي في آسيا.
التعاون بين الصين وروسيا قوي ومستمر، لا سيما في مجال التلاعُب والتضليل وتحريف المعلومات، الأمر الذي يُشكّلُ خطرًا على الديموقراطيات عمومًا. ويمتدّ هذا التعاون أيضًا إلى المجال العسكري، كما يتضح من وجود ثلاثة أقمار اصطناعية عسكرية صينية في سماء غرب أوكرانيا خلال عملية 6-7 تشرين الأول (أكتوبر) 2025، التي أطلقت خلالها روسيا 300 طائرة مسيّرة وصاروخ.
أما أوروبا، ذات الرأسين، فهي تتألف من دولٍ مستقلة، مرتبطة -في معظمها- ضمنَ مشروعٍ سياسي طموح ومعقَّد وغير مكتمل. ففي مواجهة الولايات المتحدة المتقلّبة، والصين عديمة الضمير، وروسيا العدوانية (وفي مواجهة جيران جنوبيين يطالبون بمصالح مختلفة)، يتوجّب على الأوروبيين أن يُدركوا أنهم قد يختفون ككيانٍ مستقل. يمتلك الاتحاد الأوروبي جميع مقوّمات القوة العظمى، ولكنه يعجز عن توظيفها بفعالية. تكمن فرادة الاتحاد الأوروبي وقوته في نفوذه المعياري والتنظيمي (التأثر بمعاييره وقيمه وفرضها على فضاءات أخرى، لا سيما من خلال سياساته المتعلّقة بالجوار والتجارة، عبر دمج قواعده في النظام الدولي)، ولكنه الآن في موقف ضعف.
من منظور الدول الأعضاء، يُنظرُ إلى الاتحاد الأوروبي في المقام الأول على أنه مُضخِّم للقوة، لا سيما بالنسبة إلى الدول الصغيرة. تميل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى التركيز على الاستفادة من النظام التنظيمي للاتحاد قبل محاولة جعله فاعلًا جيوسياسيًا. ومع ذلك، يشعر الجميع بالحاجة إلى مثل هذه الخطوة، حتى الدول غير الأعضاء تُوطِّد علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي استنادًا إلى المصالح المشتركة، من خلال شراكات الأمن والدفاع أو سياسة الطاقة.
الصين اليوم
تبني الصين ما يُرجَّح أن يكون أضخم نظام للطاقة الكهرومائية في العالم، في مشروع بالغ التعقيد تحيط به درجة عالية من التكتّم الرسمي. يُنفَّذ المشروع في منطقةٍ نائية ومُعرَّضة للنشاط الزلزالي في إقليم التبت، وعلى مقربةٍ من حدودٍ متنازع عليها مع الهند، ما يضفي عليه أبعادًا جيوسياسية وبيئية حساسة. وتشيرُ الإعلانات الحكومية إلى خططٍ لنقل عدد من القرى الواقعة في محيط المشروع، فيما أظهرت مقاطع متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي أنَّ عمليات تهجير فعليّة لسكان بعض القرى قد بدأت بالفعل.
ووفقًا للمعطيات المتاحة، مدعومة بتقييمات فنية صادرة عن مركز ستيمسون للأبحاث، يُرجَّح أن يتكوّن المشروع من نظام سدود متكامل يشمل على الأقل سدَّين على طول نهر يارلونغ سانغبو، إضافةً إلى شبكةٍ من محطات الطاقة الكهرومائية المُشيَّدة داخل أنفاق محفورة عبر الجبال والوديان. ويهدفُ هذا التصميم إلى استغلال الانخفاض الحاد في مستوى النهر، بما يتيح توليد نحو 300 مليار كيلوواط ساعة من الكهرباء سنويًا، أي ما يعادل تقريبًا إجمالي الاستهلاك السنوي للمملكة المتحدة. ويرى خبراء أنَّ هذا المشروع، إذا اكتمل وفق المُخطَّط له، قد يُشكّل إنجازًا هندسيًا غير مسبوق. وفي هذا السياق، وصف برَيان إيلر، مدير برنامج الطاقة والمياه والاستدامة في مركز ستيمسون، النظام المزمع بأنه “الأكثر تطوُّرًا وابتكارًا الذي شهده الكوكب”، مُحذِّرًا في الوقت نفسه من أنه قد يكون “الأكثر خطورة وربما الأكثر فتكًا” بالنظر إلى موقعه وتعقيداته.
تُدرِجُ بكين هذا المشروع ضمن أولوياتها الوطنية الكبرى، وقد وصفه رئيس الوزراء لي تشيانغ بـ”مشروع القرن” خلال زيارته إلى التبت لحضور مراسم وضع حجر الأساس في تموز (يوليو) الماضي. غير أنَّ المشروع يُثيرُ مخاوف جدّية في دول المصب، ولا سيما الهند وبنغلاديش، بشأن التغيُّرات المُحتَمَلة في تدفُّقِ النهر، وما قد يترتب عليها من أضرارٍ بيئية واقتصادية تطال ملايين السكان المعتمدين على مياهه.
ورُغمَ هذه التحذيرات، ترفض الصين الانتقادات المُوَجَّهة للمشروع، مؤكّدةً أنها أمضت عقودًا في دراسة الجوانب الهندسية والبيئية، وأنَّ سلامة النظام وحماية البيئة كانتا في صلب التخطيط له. ومن الواضح أنَّ بكين تنظر إلى هذا المشروع بوصفه ركيزةً أساسية لتحقيق أهدافها المناخية، فضلًا عن ضمان إمدادات كهرباء هائلة تدعم تنافسها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، لا سيما في مجالات التكنولوجيا المتقدّمة والذكاء الاصطناعي.
في منحى آخر، هيمنت الطائرات المُسيّرة صينية الصنع على فضاء الولايات المتحدة لسنوات، حيث يستخدمها مالكوها من القطاع الخاص، وأقسام الشرطة، ورجال الإطفاء في جميع أنحاء البلاد. لكن حكمًا جديدًا صدر عن لجنة الاتصالات الفيدرالية سيجعل من المستحيل على المستهلكين الأميركيين شراء الجيل المقبل من هذه الطائرات. وقد أعربت شركة “DJI” الصينية، التي تستحوذ على نحو 70% من السوق العالمية، عن خيبة أملها إزاء القواعد الجديدة التي تُحظّرُ استيراد وبيع جميع طرازات الطائرات المسيّرة الجديدة والمعدات الحيوية المصنعة من قبل شركات أجنبية. وقال متحدث باسم “DJI” لشبكة “سي أن أن” (CNN) إنه “لم يتم الكشف عن أيِّ معلومات بشأن البيانات التي استندت إليها السلطة التنفيذية الأميركية في اتخاذ قرارها”.
من ناحية أخرى، أدانت بكين بشدة احتجاز الولايات المتحدة لناقلات نفط قرب فنزويلا، واصفةً إياه بأنه “انتهاكٌ صارخ للقانون الدولي”، وأكدت لكاراكاس معارضتها “لجميع أشكال الأحادية والتسلط”. تأتي هذه التصريحات في ظل تصعيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضغوطه على نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، مُعلنًا “حصارًا شاملًا وكاملًا” على ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات المُتَّجِهة من وإلى فنزويلا. وتستهدف هذه الخطوة الأميركية مصالح بكين، إذ تُعدُّ الصين أكبر مستورد للنفط الخام الفنزويلي، وشريكًا ديبلوماسيًا وثيقًا لمادورو. وقد تُورِّط هذه الخطوة أيضًا شركة صينية، حيث إنَّ إحدى السفن التي اعترضتها الولايات المتحدة مملوكة لشركة مسجَّلة في هونغ كونغ.
في سياقٍ مُتَّصِل، وقّعت شركة “تيك توك” اتفاقية مدعومة من إدارة ترامب لفصل أصولها الأميركية وإنشاء كيان جديد مع مجموعة من المستثمرين، معظمهم أميركيون، وذلك وفقًا لمذكّرة أرسلها الرئيس التنفيذي شو تشو إلى الموظفين الأسبوع الماضي. يبدو أنَّ هذه الخطوة تُقرّبنا خطوةً نحو حلِّ لغزٍ دام سنواتٍ طويلة، ظلّ فيه مستقبل التطبيق الصيني في أميركا غامضًا وسط مخاوف متزايدة بشأن الأمن القومي الأميركي حيال التكنولوجيا الصينية.
رؤية ترامب للعالم: وثيقة الاستراتيجية القومية
أصدرَ البيت الأبيض استراتيجيته للأمن القومي، وهي وثيقةٌ تُصدرها كل إدارة رئاسية أميركية لتوضيح أولويات سياستها الخارجية. يُلزَمُ الكونغرس قانونًا بنشر هذه الوثائق، وعادةً ما تُعِدّها لجنة. ومع ذلك، فهي تحمل توقيع الرئيس، وتُمثّل عادةً خُلاصةً لكيفية رؤية القائد العام الحالي للعالم.
هذه الوثيقة الأخيرة ليست استثناءً. بل ربما أكثر من أيِّ استراتيجية سابقة للأمن القومي، فهي تعكس تركيزًا على آراء الرئيس الحالي وأنشطته. فهي تُرَوِّجُ للإنجازات المفترضة لإدارة ترامب بطريقةٍ تُناسب خطابًا انتخابيًا. وفي نقاطٍ عديدة، تُغدِقُ الوثيقة الثناء على دونالد ترامب لقلبه المفاهيم السائدة رأسًا على عقب، ووضعه السياسة الخارجية الأميركية على مسارٍ جديد. فما هي رؤية ترامب للعالم؟
تبرز في هذه الوثيقة ثلاثة محاور. المحورُ الأوّل هو أنَّ ترامب، خلافًا لبعض الادعاءات، ليس انعزاليًا. فهو لا يُريدُ إبعاد الولايات المتحدة عن التشابكات الخارجية تمامًا. لو كان كذلك، لما كان من المنطقي التباهي بوساطته في ثماني اتفاقيات سلام أو الإضرار بالبرنامج النووي الإيراني. وكما هو الحال في وثائق استراتيجية الأمن القومي التقليدية، لا تزال الوثيقة الأخيرة تُصوّر الولايات المتحدة على أنها مسؤولة عن السلام والازدهار العالميين. ولكن ضمن هذا النطاق الواسع، تتضمّن الوثيقة مجموعةً جديدة من الأولويات، أبرزها التركيز على نصف الكرة الغربي. فبينما حددت الإدارات الأخيرة احتواء الصين كأولوية رئيسة لها، يتعهّد ترامب بـ”استعادة التفوُّق الأميركي في نصف الكرة الغربي”. ومع ذلك، فإنَّ “التهديدات” الملموسة الوحيدة التي تُحدّدها الوثيقة على أنها ناشئة في المنطقة هي عصابات المخدرات وتدفقات المهاجرين غير النظاميين. ومن وجهة نظر الإدارات السابقة، يبدو هذا الأمر غير منطقي. فعادةً ما انصبَّ اهتمامُ السياسة الخارجية الأميركية بشكلٍ رئيس على التهديدات الأمنية الخطيرة، وخصوصًا من روسيا والصين. وكانت المخدّرات والمهاجرون أقل أهمية من الأسلحة النووية وحاملات الطائرات.
ينظرُ ترامب للأمور بشكلٍ مختلف. من وجهة نظره، يُشكّل المُدمنون على المخدرات الخطرون والمهاجرون، الذين سبق أن اتهمهم بـ”تسميم دماء” الولايات المتحدة، تهديدات مباشرة أكثر بكثير للشعب الأميركي. إنَّ وَضعَ “أميركا أوَّلًا”، على حدِّ تعبير ترامب المُفَضَّل لوصف سياسته الخارجية، يعني التركيز عليهم. لكن هذا لا يعني أنَّ ترامب انعزالي. فحماية الشعب الأميركي، حتى بالطريقة التي يفهمها ترامب، تعني اتباع سياسة خارجية فعّالة.
المحور الثاني للوثيقة هو موقفها من “الحضارة”. ففيها، عاد ترامب إلى جانب أساسي من خطابه السياسي – وهو أنَّ “الحضارة الغربية” تتعرَّضُ لهجومٍ من مزيجٍ من المهاجرين العدائيين والليبراليين الضعفاء والانحطاط الثقافي. ترامب يرى نفسه قائدًا لمقاومة هذه القوى في الولايات المتحدة، ويريد من الآخرين أن يحذوا حذوه. في فقراتٍ أحدثت صدمةً في أوساط المؤسسة السياسية الأوروبية، تُهاجِمُ استراتيجية الأمن القومي الحكومات الأوروبية بزعم ترحيبها بعددٍ كبيرٍ من المهاجرين، واضطهادها الأحزاب السياسية اليمينية المتطرّفة، وخيانة تراث الغرب الحضاري. مرةً أخرى، هذه ليست كلمات انعزالية، بل هي كلماتُ شخصٍ يعتبر نفسه حاميًا لحضارةٍ مُحددةٍ عرقيًا وثقافيًا تشمل كلًا من الولايات المتحدة وأوروبا. الخصوصية هنا لافتةٌ للنظر. فبينما عبّرت استراتيجيات الأمن القومي الأميركية السابقة عن رغبة واشنطن في نشر الديموقراطية الليبرالية في جميع أنحاء العالم، تقول وثيقة ترامب إنَّ هذا هدفٌ بعيد المنال. بدلًا من ذلك، يبدو أنه مهتمٌّ في المقام الأول بمصير الأوروبيين البيض – وبتشكيل ديموقراطيتهم وقيمهم بما يتوافق مع ديموقراطيته وقيمه.
حذّرت استراتيجية الأمن القومي من أنَّ العديدَ من الدول تُخاطر بأن تُصبح “غير أوروبية” بسبب الهجرة، مُضيفةً أنه إذا “استمرّت الاتجاهات الحالية، فستُصبح القارة غير قابلةٍ للتمييز في غضون 20 عامًا أو أقل”. هذا موقفٌ يرى بعض المراقبين أنه يُحاكي “نظرية الاستبدال العظيم” العنصرية (بالفرنسية: le grand remplacement) وهي نظرية مؤامرة يمينية، تقول بأنَّ السكان الفرنسيين المسيحيين البيض، والسكان الأوروبيين المسيحيين البيض عمومًا، يجري استبدالهم بشكل منتظم بغير الأوروبيين، خصوصًا السكان العرب، البربر، الشرق أوسطين والشمال أفريقيين والأفريقيين من جنوب الصحراء، من خلال الهجرة الجماعية والنمو السكاني. وهي بالتالي تربط وجود المسلمين في فرنسا بخطرٍ مُحتَمل، وبتدمير الثقافة والحضارة الفرنسيتين. وقد وصف البيت الأبيض هذه المقارنة بأنها “هراءٌ مُطلق”.
الموضوع الثالث والأخير الذي يبرز من الوثيقة هو تركيزها الاقتصادي المُكثف. تتعلق أكثر أجزاء الوثيقة تفصيلًا بإدارة شؤون الدولة الاقتصادية – كيفية إعادة الصناعات إلى الولايات المتحدة، وإعادة تشكيل النظام التجاري العالمي، وتجنيد حلفاء الولايات المتحدة في مهمة احتواء الصعود الاقتصادي للصين. في المقابل، تحظى قضايا الأمن الإقليمي باهتمامٍ أقل بكثير. بالكاد ذُكرت طموحات روسيا في أوروبا كمشكلةٍ للولايات المتحدة، ولم تُخصص لتايوان سوى فقرةٍ واحدة. وهذا ما جعل الكرملين يقول إن الاستراتيجية الجديدة “متوافقةٌ إلى حدٍّ كبير” مع رؤيته.
نادرًا ما يكون للولايات المتحدة استراتيجية للأمن القومي تتسم بطابع المعاملات التجارية. ففي مناقشتها لأسباب دعم الولايات المتحدة لتايوان، لم تستشهد الوثيقة إلّا بصناعة أشباه الموصلات (semiconductor industry) وموقع الجزيرة الاستراتيجي؛ ولم تُذكر كلمة واحدة عن القيمة الجوهرية للديموقراطية التايوانية أو مبدَإِ عدم الاعتداء في القانون الدولي. الانطباع الذي يتركه هذا هو أنَّ ترامب، في السياسة الخارجية، يُعطي الأولوية للاقتصاد على القيم. فهو لا ينظر إلى قادة مثل شي جين بينغ الصيني وفلاديمير بوتين الروسي كديكتاتورَين عنيدَين يريدان الهيمنة الإقليمية، بل كشريكَي أعمال محتملين. ويبدو أنه يعتقد أنَّ تركيز السياسة الخارجية يجب أن ينصبَّ على تعظيم الأرباح. بالنسبة إلى حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا، يثير هذا سؤالًا غير مُريح: ماذا لو تبيَّن أنَّ الشيء المربح الذي يجب فعله هو التخلّي عنهم وإبرام صفقة كبرى مع روسيا أو الصين؟ هذا ما قد يستخلصونه من هذه الوثيقة على كل حال.
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي لبناني متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.