ماذا تعني “الواقعية الجديدة” في الشرق الأوسط بالنسبة إلى روسيا؟
قد تكون قمة دونالد ترامب في مصر قد أحبطت محاولات الكرملين لجمع قادة الشرق الأوسط في موسكو، لكن دول المنطقة أصبحت أقل اقتناعًا بقدرتها على الاعتماد على الغرب، وهو ما يدفعها حتمًا نحو عقد صفقات مع روسيا.

نيكيتا سماجين*
تبدو القمة التي عُقدت الأسبوع الفائت في منتجع شرم الشيخ المصري وكأنها انتصارٌ ساحق للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فقد التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بممثلين عن ثلاثين دولة، وجاء الإعلان الذي وُقّع هناك لإنهاء الحرب في غزة في تناقُضٍ واضح مع فشل محاولات الكرملين في عقد قمته الخاصة مع الدول العربية في موسكو في الوقت نفسه تقريبًا.
ومع ذلك، فإنَّ وراء هذا المشهد الظاهري الذي يُظهِرُ نجاح إدارة ترامب وفشل روسيا تكمن حقيقة أكثر تعقيدًا. فقد شهد الشرق الأوسط خلال العامين الماضيين تحوّلات عميقة خلقت حالةً من عدم اليقين والانقسام، وهي تحوّلات ستُحاول موسكو استغلالها لصالحها.
أحد الأحداث المفصلية جاء في أواخر العام 2024 مع انهيار حكم عائلة الأسد في سوريا، التي سيطرت على البلاد لأكثر من نصف قرن. السلطات الجديدة في دمشق موالية لتركيا، مما جعل أنقرة واحدة من القوى الأساسية في المنطقة.
وفي تحوّل لا يقلُّ أهمية، تراجعت مكانة إيران في المنطقة بشكل كبير، بسبب الحرب الإسرائيلية ضد “حماس” في غزة، والهجمات على الحوثيين في اليمن، وهزيمة الجناح العسكري ل”حزب الله” في لبنان، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، ناهيك عن القصف الإسرائيلي داخل إيران نفسها في صيف ذلك العام.
الشرق الأوسط يتغيَّر أيضًا تحت تأثير النهج الإسرائيلي الجديد الأكثر تشدُّدًا، الذي بدأ بعد هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. فقد أصبح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عازمًا على القضاء على أعداء إسرائيل المحيطين بها، مما أثار قلقًا واسعًا في معظم دول المنطقة. وبلغت هذه المخاوف ذروتها بعد الغارة الإسرائيلية على قادة “حماس” في قطر في أيلول (سبتمبر)، والتي أدانتها دول الخليج بالإجماع.
وقد أدت تداعيات هذه التغيرات إلى تغيير نظرة الغرب للمنطقة. فانتقاد أفعال إسرائيل أدى إلى موجة من اعتراف عدد من الدول الأوروبية الكبرى رسميًا بدولة فلسطين، وحتى إلى فرض عقوبات أوروبية محددة على أفراد إسرائيليين. ونتيجة لذلك، بدأ القادة الإسرائيليون يدركون أن علاقاتهم مع الغرب قد تبقى متوترة لفترة طويلة. وحتى لو نُفِّذ اتفاق السلام في غزة بالكامل، فستظل إسرائيل تخوض صراعات في لبنان وسوريا، ومع إيران.
هذه التغيرات الجذرية تُعيد رسم خطوط الانقسام وتزرع شعورًا بعدم اليقين في معظم دول المنطقة. فدول الخليج لم تعد متأكدة مما إذا كان بإمكانها الاعتماد على الحماية الأميركية، والساسة الإسرائيليون باتوا يشكّون في متانة علاقاتهم مع الغرب، وإيران فقدت ثقتها بالضمانات الدولية وبدأت تعتقد أن السلاح النووي وحده يمكن أن يضمن أمنها.
هذا الغموض يدفع الدول إلى تبنّي أقصى درجات البراغماتية على أساس أن “لا أحد سيساعدنا سوى أنفسنا”. وهذا المبدأ يتوافق تمامًا مع رؤية روسيا للنظام العالمي المثالي، خصوصًا بعد أن أصبح الشرق الأوسط محورًا رئيسًا في سياستها الخارجية عقب عزلتها عن الغرب.
أولًا وقبل كل شيء، تساعد هذه البراغماتية روسيا على التخفيف من تأثير العقوبات الغربية. فإذا كانت السياسة الأميركية تتقلب مع كل رئيس جديد، مما يجعل ضماناتها الأمنية غير موثوقة، فإن دول الشرق الأوسط لا تجد سببًا وجيهًا للالتزام بالقيود الغربية. فتركيا والإمارات العربية المتحدة مثلًا تُظهران تردُّدًا شديدًا في الالتزام بالعقوبات ضد روسيا، ولا تقدمان أي تنازلات إلّا تحت ضغط كبير. وكلما تراجعت الثقة بالغرب، زادت الرغبة في التعامل التجاري مع من يوفر الربح والمنفعة.
كما تصب حالة عدم الاستقرار الأمني في مصلحة موسكو، كما يتضح من التحوُّل في موقف الحكومة السورية الجديدة تجاه روسيا. فبعد ستة أشهر من سقوط النظام القديم، ركز الإسلاميون السوريون—الذين قصفهم الروس لما يقرب من عقد—على بناء علاقات مع تركيا ودول الخليج والغرب، الذي رفع العقوبات الرئيسة عن دمشق، لترد الأخيرة بطرد روسيا من اقتصادها والتضييق على قواعدها العسكرية في البلاد.
لكن عدم الاستقرار الداخلي والهجمات الإسرائيلية المتكررة أقنعا القيادة السورية الجديدة بأنها بحاجة مؤقتة إلى موسكو كقوة موازنة لإسرائيل. وربما يكون هذا التحالف مؤقتًا، لكنه يفتح لموسكو نافذة جديدة للتغلغل.
وقد تتكرّر مثل هذه السيناريوهات مستقبلًا إذا فشلت الولايات المتحدة في تبديد مخاوف المنطقة من تصرّفات إسرائيل. فقبل بضع سنوات، كانت صفقة تركيا لشراء منظومة الصواريخ الروسية “أس-400” ( S-400) رُغم اعتراض واشنطن حدثًا كبيرًا. واليوم، قد تتكرر مثل هذه الصفقات مجددًا، خصوصًا إذا توقفت الحرب في أوكرانيا.
ورُغمَ الحرب وتراجع صادرات السلاح، لا تزال روسيا تبيع الأسلحة للجزائر، وتُقدّم خدماتها العسكرية لتركيا، وتخطط لتسليم طائرات لإيران. ومع توسع مجمعها الصناعي العسكري، ستسعى موسكو إلى الحفاظ على معدلات الإنتاج وفرص العمل، والأسواق الشرق أوسطية ستكون مفيدة جدًا في هذا السياق.
كما تفتح الفوضى في الشرق الأوسط الباب أمام روسيا لتجنيد مقاتلين ذوي خبرة كمرتزقة، خصوصًا من الدول الفقيرة في المنطقة. فالمجنّدون الروس ينشطون هناك بالفعل، والعرض الروسي البالغ 2500 إلى 3000 دولار شهريًا يمثل إغراءً كبيرًا في مناطق يُعتبر فيها راتب 300 إلى 500 دولار جيدًا.
بالطبع، لا يمكن لروسيا أن تطمح إلى قيادة الشرق الأوسط في هذه “الواقعية الجديدة”، فهي تفتقر إلى الموارد المالية والبشرية والثقافية اللازمة لذلك، لكنها تحاول التعويض عن ذلك عبر التحرك الحاسم والمباشر. فهي أقل تحفّظًا من الصين، وتعرض نفسها علنًا بوصفها “الطرف المناهض للغرب”.
ولا تزال انتقاداتها لمعايير الغرب المزدوجة محور سياستها في الشرق الأوسط. وهذا الموقف يُمكّنها من إيجاد أرضية مشتركة مع الدول المسلمة الغاضبة من أفعال إسرائيل في غزة، ومع إسرائيل نفسها التي تشعر بخيبة أمل من المواقف الأوروبية والاعتراف بفلسطين.
العرض الروسي بسيط وواضح: “نعم، نحن واقعيون ساخرون ولا نرفع شعارات القِيَم، لكن إن تخاصمتم مع الغرب، فنحن مستعدون لمدّ اليد”. والمكافأة الإضافية أنَّ موسكو تضمن اللجوء لقادتها المقرّبين وعائلاتهم، كما فعلت مع الأسد. وفي منطقة يغلب عليها الطابع السلطوي، قد يكون هذا الضمان عاملًا حاسمًا.
ومع ذلك، فإنَّ حالة عدم اليقين واستمرار الحروب قد تُهدد مشاريع موسكو نفسها في الشرق الأوسط. فلا أحد يعلم ما سيؤول إليه مصير خطط الكرملين الضخمة في إيران، التي كان يُعوَّل عليها لإنشاء جسر لوجيستي إلى الخليج ومركز غاز إقليمي. ومع دخول إيران في حالة حرب فعلية مع إسرائيل، أصبحت هذه المشاريع في مهب الريح.
ومع كل هذه التحديات، لم تصبح روسيا منبوذة في الشرق الأوسط، ولن تصبح كذلك. فحتى وإن أحبطت قمة ترامب في مصر محاولة الكرملين جمع قادة المنطقة في موسكو، فإنَّ ذلك يبقى حدثًا رمزيًا لا يُغيّر كثيرًا في الواقع. فدول الشرق الأوسط أصبحت أقل إيمانًا بموثوقية الغرب، وهو ما يدفعها بشكل متزايد نحو روسيا.
- نيكيتا سماجين هو خبير في السياسات الداخلية والخارجية الإيرانية، وفي الإسلام السياسي، وفي سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط. مؤلف كتاب “إيران للجميع: مفارقات الحياة في نظام استبدادي تحت العقوبات”.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.