بينَ الجُوعِ ومُدَّخَرات الذهب: قراءةٌ في مُفارَقَةِ الثراءِ المَعدَني والفقرِ البشري

البروفِسور بيار الخوري*

تحوَّلَ ارتفاعُ الذهب خلال العامين الماضيين بشكلٍ لافت من مجرّدِ أصلٍ مالي إلى عاملٍ ذي تأثيرٍ اجتماعي واضح. فقد لامسَ سعر الأونصة الأسبوع المنصرم مستوى 4,047 دولارًا، مُسَجِّلًا قفزة تتجاوز 50% منذ بداية العام 2025. وجاء هذا الإرتفاع مدعومًا بإقبال البنوك المركزية عليه وتنامي دور الذهب كملاذٍ آمن في فترات الدَّيْن المرتفع وعدم اليقين العالمي.

ويُقدِّرُ البنك الدولي أنَّ أسعارَ الذهب في 2025 سترتفع بنحو 35% على أساسٍ سنوي، وأن تدورَ عند مستويات تفوق متوسط الفترة بين 2015 و2019 بنحو 150%، ما يعني أننا أمامَ مستوى سعرٍ “جديد” يمسُّ حياة الأُسَر لا موجة عابرة.

سلوكُ الأُسَر تأقلمَ بسرعةٍ مع صدمةِ الأسعار. بيانات مجلس الذهب العالمي تُظهرُ أنَّ الاستثمارَ في الذهب سجّلَ في 2024 أعلى مستوى في أربع سنوات عند 1,180 طنًّا، وأنَّ الطلب على السبائك والعملات بلغ نحو 1,186 طنًّا، وبقي مرتفعًا في 2025 مع 325 طنًّا في الربع الأول، أي أعلى بـ15% من متوسّط خمسة أعوام، فيما قفزت قيمة الطلب في الرُبعِ الثاني من 2025 إلى مستوى قياسي يبلغ 132 مليار دولار.

هذه الأرقام تعكسُ انتقالًا متزايدًا من الادِّخار النقدي إلى الادِّخار المعدني عبر الليرات والأونصات والسبائك الصغيرة. في أسواقٍ شعبية الادخار بالذهب، مثل تركيا ومصر والبرازيل، ظلّ استثمارُ الأفراد في السبائك والعملات “مرتفعًا تاريخيًا” رُغمَ ارتفاع الفائدة المحلية. كما سجّلت الصين ثاني أعلى رُبعٍ في استثمار الأفراد بالذهب. تقديرٌ منطقي بالاستناد إلى هذه السلاسل أنَّ التحويلَ الجُزئي لمُدَّخرات الأُسَر إلى الذهب يشملُ شريحةً واسعة من ذوي الدخل المتوسط والدنيا من فئات المداخيل العليا في الاقتصادات المتأثرة بالتضخّم، بينما يبقى “التحويل واسع النطاق” محصورًا في شرائح أقل تمتلكُ مُدَّخرات واسعة وقابلة للتنويع. يصعبُ إحصاءُ حيازة الذهب بدقّة لغيابِ مسوحاتٍ أُسَرِيّة عالمية مُفصّلة.

التضخُّم العالمي يبقى الخطر المباشر على الفقراء. فبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، من المتوقّع أن يتراجعَ معدّل التضخم الأساسي (headline) عالميًا إلى 4.5% في 2025، لكنه سيبقى أعلى بكثير في الاقتصادات النامية مُقارنةً بالدول المُتقدِّمة التي تقترب من أهدافها، وتُشيرُ قاعدة بيانات الصندوق إلى أنَّ التضخُّم سيبلغ نحو 2.5% في الاقتصادات المُتقدِّمة مقابل نحو 5.5% في الدول النامية في 2025، ما يعني تآكلًا أسرع في القوة الشرائية لدى محدودي الدخل حيث تتراجع الأجور الاسمية أمام أسعار الغذاء والخدمات. في هذا المناخ، يصبح الذهب “مخزن قيمة” للأُسَر التي تستطيع الوصول إليه، بينما تبقى الأُسَرُ الأكثر ضعفًا خارج اللعبة بسبب ضعف الفوائض النقدية وصغر المدّخرات وعدم القدرة على تحمّل فروقات البيع – الشراء (السبريد) والعمولات.

مؤشّرات الفقر والجوع ترسمُ الخلفية الاجتماعية للأزمة وتكشف عن جانبٍ إنساني قاتم في المشهد الاقتصادي العالمي. فوفق تقرير حالة الأمن الغذائي في العالم لعام 2025 الصادر عن وكالات الأمم المتحدة، يُقدَّرُ عدد مَن واجهوا الجوع في 2024 بنحو 673 مليون شخص أي 8.3% من سكان العالم، مع تفاقم الظاهرة في أفريقيا وغرب آسيا. كما ارتفعَ عدد مَن يُعانون من انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد إلى نحو 2.3 مليارَي شخص، بزيادة قدرها 336 مليونًا من 2019.

أما تقرير برنامج الأغذية العالمي عن أزمات الغذاء لعام 2025 فيشيرُ إلى أنَّ أكثر من 295 مليون إنسان في 53 بلدًا عانوا من مستويات جوعٍ حادة خلال 2024. هذه الأرقام تتفاقم عندما ترتفع أسعار الذهب، إذ أنَّ الادِّخار المعدني “يشفط” سيولةً من الطلب الاستهلاكي المحلي لدى الشرائح القادرة ويتركُ الشرائح الأفقر مكشوفةً بلا أدواتِ تحوُّط ولا شبكات أمان فعّالة.

المخاطر على محدودي الدخل من التحوُّل إلى الذهب مُتعدّدة. السيولة مُنخفِضة عند الحاجة الطارئة إذ يضطرُّ البائع الصغير لتحمّل خصم إعادة الشراء وفروق ال”سبريد” خصوصًا في العملات المحلية الضعيفة. التقلُّب العالي مع كلِّ موجة أخبار نقدية أو جيوسياسية قد يفرض خسائر على من يدخل متأخِّرًا. المخاطر التشغيلية تشمل الغش والعيارات غير المطابقة ورسوم الحفظ والأمان. التحوّل الجماعي إلى الذهب داخل أحياء فقيرة قد يضغطُ على الطلب على الغذاء والخدمات الأساسية ويرفع أسعارها نسبيًا في المدى القصير إذا ترافق مع شحّ المعروض المحلي.

الصورة الكلية تشير إلى مسارَين مُتوازيَين. من يمتلك فائضًا ادِّخاريًا يجد في الذهب وسيلة دفاعٍ فعّالة ضد التآكل النقدي في عامٍ شهد قفزات سعرية تاريخية. مَن يعيشُ على دخلٍ يومي لا يستطيع الدخول إلى هذه “المظلّة” فيتلقى صدمة الأسعار كاملة على مائدته ويقتطع من الغذاء والصحة قبل أن يمتلك أول غرام. مهمة السياسات ألّا تُجرِّمُ الادِّخار المعدني، ولا أن تتركه يحكم مصير الفقراء، بل أن تخلقَ طبقة منتجات ادّخارٍ صغيرة وآمنة تُحيّد العُرضة للصدمات وتحافظ على استهلاك الأساسيات عند الشرائح الأكثر هشاشة.

  • البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى