نَحوَ شرق أوسطٍ يُسودُه السلام والاستقرار
حسام زكي
في جميع أنحاء الشرق الأوسط، يتساءلُ الخبراء والرأي العام على حدٍّ سواء كيفَ يمكنُ أن تؤثّرَ التغيُّرات التي تشهدها المنطقة في توازُنِ القوى الهَشّ القائم، وهل يُمكنُ أن تَفتحَ هذه التغيُّراتُ أخيرًا البابَ لعهدٍ من التعايُش السلمي والازدهار.
من المعروف أنَّ الوزنَ الاستراتيجي لمنطقتنا لا يَقتصرُ على السياسة أو الأمن فحسب، بل يمتدُّ أيضًا إلى دورها المحوَري المُتزايد في الاقتصاد العالمي. فالممرَات البحرية الرئيسة، مثل مضيق هرمز وقناة السويس، تُمثّلُ شرايينَ حيوية للتجارة العالمية وإمدادات الطاقة. وفي الوقت نفسه، تستثمرُ غالبية دول الخليج العربي بشكلٍ كبير في صناعاتٍ ناشئة مثل الطاقة المتجدّدة والتقنيات المُتقدِّمة. ومن الواضح أنَّ تحقيقَ السلامِ والاستقرارِ في الشرق الأوسط لم يَعُد طموحًا إقليميًا فقط، بل باتَ ضرورةً عالمية تَرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بازدهار العالم بأسره.
بالنسبة إلى جامعة الدول العربية، فإنَّ الواقعَ الاستراتيجي الجديد في الشرق الأوسط لا يُمكِنُ أن يتحقّقَ إلّا من خلالِ تنفيذِ رؤيةٍ حقيقيةٍ للسلام. وتتمثّلُ هذه الرؤية في حلِّ الدولتين: استعادةُ حقوقِ الفلسطينيين في الاستقلال والكرامة، يليها تنفيذُ مبادرة السلام العربية، مما يفتح البابَ أمامَ عهدٍ من السلام الحقيقي والاستقرار في المنطقة.
لكنَّ الأمنَ الإقليمي يُنظَرُ إليه بشكلٍ مختلف من قبل أطرافٍ مُتعدِّدة في المنطقة. وبالنسبة إلى العرب، واستنادًا إلى قرارات القمم العربية، فإنَّ مفهومَ الأمن الإقليمي يستندُ إلى خمسِ ركائز رئيسة:
- إنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي وقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات تواصُلٍ جغرافي؛
- احترامُ السيادة وعدم التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول؛
- إنشاءُ منطقةٍ خاليةٍ من الأسلحة النووية في المنطقة؛
- مكافحةُ الإرهاب بلا هوادة والحفاظ على الدولة الوطنية،
- ضماناتٌ أمنية للجميع وتحقيقُ مصالح مشتركة قدر الإمكان.
ومن المنظور العربي، فإنَّ هذه العناصر جميعها ضروريةٌ للتوصُّل إلى صيغةٍ قابلةٍ للاستمرار للأمن الإقليمي. ونرى أن هذه المعادلة تُحقّقُ مكاسبَ لجميع الأطراف. ولكن للأسف، لا يُمكِنُ قول الشيء نفسه عن الرؤية التي تُقدّمها أطرافٌ أخرى في منطقتنا، مثل إسرائيل.
على مدار سنوات، وخصوصًا بعد اتفاقات أوسلو في العام 1993، استندَ مفهوم الأمن الإقليمي لدى إسرائيل بشكلٍ أساسي إلى تحقيقِ التفوُّقِ العسكري والأمني، مع “تأجيلٍ إلى أجلٍ غير مُسَمّى” لأيِّ حلٍّ واقعي للقضية الفلسطينية، وبدونِ تقديمِ رؤيةٍ حقيقية لتحقيق السلام العادل والشامل. ومنذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، يبدو أنَّ “التأجيلَ إلى أجلٍ غير مُسَمّى” قد تمَّ استبداله بمحاولة “القضاء” على القضية تمامًا.
إنَّ رؤيةً من هذا النوع، مدفوعةً بقوى اليمين المتطرف في الدولة العبرية التي تعزّزت خلال العقدَين الماضيين، تُمثّلُ عقبةً كبيرة أمامَ تحقيق السلام والازدهار في المنطقة. واستمرارُ تمكينِ تلك القوى من المضي في هذا الطريق لا يعدو كونه وصفةً لمزيد من الصراع وعدم الاستقرار. فمثل هذه المعادلة الصفرية، التي لا تُتيحُ أيَّ مجالٍ لتحقيق مكاسب مشتركة، لا يمكن أن تُنقِذَ منطقتنا، ولا تُلبّي أيَّ تطلُّعٍ للتعايش السلمي فيها.
وفي الوقت نفسه، فإنَّ تحقيقَ السلامِ المُستدام يتطلّبُ مُعالجةَ الديناميكيات الجيوسياسية الأوسع، لا سيما تلك المُتعلِّقة بإيران. ففي السنوات القليلة الماضية، اتخذت دولٌ عربية عدة خطواتٍ نحو التهدئة واستعادةِ الحوار مع طهران، سعيًا إلى إقامةِ إطارٍ من الاحترام المُتبادَل وعدم التدخّل. ويجب الحفاظ على هذا النهج وتعزيزه، لأنه يحملُ في طيّاته إمكانيةَ خَفضِ التوتّرات ومَنعَ مواجهةٍ إقليميةٍ أوسع. ولكي يترسّخَ السلام، يجبُ على جميع الأطراف الإقليمية التخلّي عن سياساتِ الاستفزازِ والهَيمَنة الإيديولوجية، والالتزام بدلًا من ذلك بمبادئ التعايش والتعاوُن المُتوازِن.
أقرُّ بأنني، من خلالِ لقاءاتي العديدة في مختلف أنحاء العالم العربي، وخصوصًا بعد مشاهدةِ الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل في غزة على مدار 21 شهرًا من الحرب الإبادية، أتوصّلُ غالبًا إلى استنتاجٍ مؤلمٍ مفاده أنَّ الكثيرين من العرب، ولا سيما الشباب، لم يعودوا يعتقدون أنَّ السلام سيكون ممكنًا في منطقتنا في المستقبل المنظور، وأنَّ هذه المنطقة محكومٌ عليها بحالةٍ دائمة من الاضطراب وعدم الاستقرار. وتبدو لحظات السلام القصيرة في تسعينيات القرن الماضي وكأنها ذكرياتٌ بعيدة، ومن الصعبِ تصوُّر إمكانية استعادتها.
لذا، على جميع اللاعبين الأقوياء، في داخلِ المنطقة وخارجها، أن يسعوا إلى تغيير هذه النظرة اليائسة، إن كنّا نطمحُ إلى مستقبلٍ أفضل وأكثر ازدهارًا للأجيال المقبلة. وعلى حدِّ علمي، أعربت دولٌ عربية عدة تلعب دورًا رئيسًا في المنطقة عن استعدادها للدخول في مناقشات جدية بشأن هذا الأمر.
لكن، في ظلِّ غيابِ استعدادٍ إسرائيلي حقيقي للانخراط في مسارٍ جاد من أجل السلام، فإنَّ كلَّ ذلك قد يتحوّلُ إلى مجرّدِ تمرينٍ عبثي. ويبقى الأمل في أن يتدخّلَ رئيسٌ أميركي نشط ومُتحمّس ليقلب موازين الأمور، ليس فقط من أجل الأخلاق والقانون، بل أيضًا من أجل المصالح المشتركة وصيغة تُحقِّقُ مكاسبَ لجميع الأطراف وتُعالج مخاوفهم. لا يزال ذلك ممكنًا. فلنغتنم الفرصة ولا نُهدِرها.
- حسام زكي هو الأمين العام المساعد ورئيس ديوان الأمانة العامة لجامعة الدول العربية.