الصراعُ على جِلدِ العرب، والعربُ في مضارِبهم نِيامٌ!

الدكتور فيكتور الزمتر*

لم يسبقْ أنْ عرفَ العالمُ العربيُّ، بشقَّيه الآسيوي والأفريقي، تحوُّلًا سياسيًّا بقدر اللامبالاة التي يتعاملُ بها الفكرُ العربي مع ما تُمعِنُ فيه الدولُ المقتدِرَة بتشويه كينونته القومية. فالأمرُ يبدو وكأنَّ العقلَ العربيَّ غيرُ مُبالٍ بمُجرَيات التحوُّل في مُحيطه، مُؤثرًا مقعدَ الشاهد، كي لا نَنْعَتهُ بشاهد الزور!

منذُ أنْ هلَّت بشائرُ الإنعتاق العربي من الحكم العثماني، نادرًا ما اهتدت الولاياتُ العربيةُ، المُنسلخةُ عن السلطنة العُثمانية، إلى الإمساك بمصائرها، بل آثرت إسلاسَ قيادها للخارج الطامع بوراثة السلطنة، ليلعبَ بمستقبل أجيالها عبر الدسائس والوعود الخادعة.

فقد استفاقت فكرة الإستقلال العربي على حرير مُراسلات الحسين- ماكماهون (من 14 تموز/يوليو 1915 إلى 10 آذار/مارس 1916) مُرورًا باتفاق سايكس بيكو  (16 أيار/مايو 1916) وُصولًا إلى وعد بلفور (2 تشرين الثاني/نوڤمبر 1917) .. بدون أنْ يأخُذَ قادةُ الفكر العربي الإستقلالي بالحسبان مغازي مُصطلَحَيّ “المسألة الشرقية” و”الرجل المريض”! فمن خلال هذين المُصطلَحَين، نَفَذَ الإستعمارُ الغربي لتفكيك سلطنة بني عُثمان، وسيطرَ على ولاياتها الباحثة عن كيانٍ سياسيٍّ، بعد قرونٍ أربعةٍ من الإستتباع، قبل أنْ تقعَ الفكرةُ الإستقلاليةُ الناشئةُ في حبائل وعود الخارج، التي حِيكت من وراء ظهر العرب وعلى حسابهم.

ولم يتعذَّرْ، يومها، على قرائحِ الإنكليز أنْ تَتَفَتَّقَ عن حيلةٍ تُهدي ما ليس لهم من الولايات العربية، لثلاثة أفرقاءٍ لا يجمعُهم جامعٌ، عبر ثلاثة وُعودٍ، وبالتوازي:

  • وعدُ الشريفَ حُسين، أمير مكَّة، بالإعتراف باستقلال ووحدة غالبية الولايات العربية الآسيوية.
  • وعدُ الفرنسيين بتقاسُم تلك الولايات عينِها، في ما بينهما.
  • وعدُ العبرانيين بإقامة وطنٍ قوميٍّ لهم في فلسطين.

وعليه، قُضِيَ على حُلم الشريف حُسين بإنشاء واستقلال المملكة العربية الموعودة، ووُضعت دُوَلُ المشرق العربي تحت النفوذَين الفرنسي والإنكليزي، مع التكرُّم على العرب ببدعة الإنتداب، تلطيفًا لتعبير الإستعمار.

ومع استقلال تلك الولايات، غادرَ النفوذُ الأجنبي بلاد العرب، من دون أن تُغادرَ أشباحُه، تاركًا وراءه قنابلَ عِرقيةٍ وطائفيةٍ ومذهبيةٍ موقوتةٍ، ما انفكَّت تُحوِّلُ التنوُّعَ الإنساني السامي الفريدَ إلى شِقاقٍ بغيضٍ، لم يتوقَّفْ لحظةً عن إتحاف أرض النُبُوَّة بشتى أنواع الحقد والفُرقة.

وعلى مدى أكثر من قرنٍ، نادرةٌ كانت يَقَظاتُ النُخَب العربية، ما خلا بعض القبسات العابرة، مع دُعاة القوميات والأحزاب العلمانية، التي سُرعان ما دجَّنتها نُظُمُ الحُكم، مُعِيدةً إيّاها إلى ظُلُمات الشرانق العرقية والطائفية والمذهبية. فمنذ سبعينيات القرن العشرين، وصوتُ العرب مخنوقٌ، بينما يتسيَّدُ المُثلَّثُ التركي- الإسرائيلي-الإيراني مسرحَ الشرق الأوسط.

واليومُ، يتلهّى العربُ باستعراض الضربات المُتبادلة بين إسرائيل وإيران، بين شامتٍ بمصاب إيران، وبين شاجبٍ كلامي للإعتداء الإسرائيلي! دولتان غير عربيّتان، إحداهُما تدَّعي قيامَها على وعدٍ ربّاني “بأرض الميعاد”، في حين تدَّعي الثانيةُ قيامَها على إرثٍ دينيٍّ، تضربُ جذورُه في تحكيم عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، وُصولًا إلى “معركة كربلاء”. وكلتا الدولتين تتناحران على اقتسام جِلْدِ العرب، بقدر ما تتصارعان على جَلْدِهم واللَّعب بمصيرهم، تنفيذًا لإيديولوجيَّتهما الدينية، التي تتوسَّلُ الدين تبريرًا للتوسُّع الجغرافي على بساط العرب الداشر.

إنَّ حربَ إسرائيل على إيران، وريثة “بلاد فارس الأخمينية”، مشروعٌ إسرائيليٌّ من عُمر الثورة الخمينية، في العام 1979، حيثُ لم يشفعْ لها جميلُ الملك “كورش الكبير” (600 ق.م- 530 ق.م) أعظم ملوك “بلاد فارس”وحبيب اليهود، لإرجاعهم إلى بلادهم بعد السبي البابلي، ما حال، يومها، دون بقائهم في أرض التيه.

وبالقدر ذاته، عزمَ بنيامين نتنياهو، مُنذ عقودٍ، على الإنتقام من إيران الثورة، التي اتهمَها بتشجيع العداء لإسرائيل، فورَ نجاح انقلابها على صديقها، الشاه محمد رِضا بهلوي، وبتحويل سفارتِها السابقةَ في طهران إلى سفارة فلسطين.

ولَطالما حرَّضَ نتنياهو الولايات المُتحدة على ضرب إيران. ففي أواخر أيلول (سبتمبر) 2012، ادَّعى نتنياهو من على منبر الأُمم المتحدة، أنَّ “إيرانَ ستمتلكُ ما يكفي من اليورانيوم لصناعة قنبلةٍ نوويةٍ، في منتصف العام المُقبل” (2013)، بينما صرَّحت المُخابراتُ الأميركيةُ، هذا الشهر، أنَّ طهرانَ ما تزالُ على بُعد ثلاث سنواتٍ من الحصول على القنبلة النووية.

إذاً، الحربُ على إيران تندرجُ ضمن مخطَّطٍ، عملَ عليه نتنياهو، منذُ تسعينيات القرن العشرين، بُغيةَ إدخاله تعديلاتٍ سياسيةٍ جذريةٍ على “بازل” الشرق الأوسط. وجاءت عمليةُ “طوفان الأقصى”، مع ما أفرزته من تغيير ملامح غزَّة ومن فشل “جبهة الإسناد” في لبنان، وبخاصَّةٍ سقوط النظام السوري، لتدفع قُدُمًا في شراع مُخطَّط نتنياهو، بخصوص شرق أوسط العصر الإسرائيلي.

وكان سبق لنتنياهو، لدى رئاسته للحكومة الإسرائيلية، في العام 1996، أن اتفق مع الأميركيين على وضع خُطَّةٍ، تحت مُسمَّى “الإنطلاقةُ الجديدةُ”، وهي رؤيةٌ استراتيجيةٌ جديدةٌ لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، بما يخدمُ المصالحَ الأميركيةَ ويتناسبُ مع الرؤية الإستراتيجية الإسرائيلية.

ثمَّ جاءت هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، لتضعَ “الإنطلاقةَ الجديدةَ”، موضعَ التنفيذ، فكانت البداية باجتياح العراق. ولا بُدَّ هنا من استذكار ما كشفَه الجنرال الأميركي ويسلي كلارك (Wesley Clark) عن مُخطَّطٍ أميركيٍّ، غداة هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، للإطاحة بسبع دُوَلٍ عربيةٍ خلال خمس سنواتٍ، وهي: العراق، سوريا، لبنان، ليبيا، السودان، الصومال وإيران. وهذا ما حصلَ بالفعل للدُوَل الستّ، بتحريضٍ إسرائيلي، حيث اجتاحتها القلاقلُ والإضطراباتُ.

ومع الحرب الراهنة ضدَّ إيران، بعلم مُسبقٍ ودعمٍ مُعلَنٍ من الإدارة الأميركية، يكونُ نتنياهو قد نجحَ، بالفعل، باستدراج الولايات المُتحدة للإطاحة بالنظام الإيراني، إنْ قُدِّرَ له ذلك، استكمالًا لقرار الإطاحة بالدول السبع المُشار إليها أعلاه.

إنَّ هجومَ إسرائيل على إيران، يدَّعي تدميرَ برنامجِها النووي وبُنيةَ تسلُّحها الصاروخي ودعمَها لما تُسمّيه بالإرهاب. والأرجحُ إنَّ  تل أبيب تبغي الخلاص من النظام الإيراني، للخلاص من العمود الفقري ل”محور المُمانعة”. فلو سلَّمنا جدلًا بحيازة إيران السلاح النووي، فلن يلزمَ أكثر من سلاح ردعٍ، إذ ما من عاقلٍ يتصوَّرُ إقدامَ طهران على استعماله، وإسرائيلُ تملكُ مخزونًا مُعتَبَرًا من الرؤوس النووية، التي لا يتجاسرُ الغربُ على “أنْ ينبُسَ ببنت شَفَةٍ”، حيالَ وجودها!

وعليه، أيًّا كانَ موقفُ المرء من سياسة طهران الإقليمية، وهذا موضوعٌ آخرٌ مستقلٌّ، لا مُجافاةَ للحقيقة بالقول أنَّ حربَ إسرائيل على إيران، بحجَّة تدمير برنامجها النووي، وهي القُوَّةُ النوويةُ الوحيدةُ في المنطقة، تجعلُ من المُعتدي ضحيَّةً، ومن الضحيَّة مُعتديًا!

تبًّا لزمانٍ أصبحَ البغاءُ فيه مُحاضِرًا عن العفاف!

  • الدكتور فيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى