بولندا أَصبَحَت خَطَّ الدفاعِ الأَوَّل عن أوروبا!
هُدى الحُسَيني*
انتهت يوم الأحد الماضي الجولةُ الثانية من الانتخابات الرئاسية في بولندا مع فَوزِ القومي كارول ناوروتِسكي. كانت أوروبا والعالم في انتظارِ النتائج، وذلك لأنَّ لبولندا ميزتها؛ ففي ظلِّ تصاعُدِ التوتُّر بين الغرب وروسيا، تَبرُزُ بولندا اليوم بوصفها إحدى أهم الدول الأوروبية في منظومة الدفاع عن القارة، ليس فقط لقُربها الجغرافي من أوكرانيا، بل أيضًا لصلابتها السياسية والعسكرية في مواجهة الخطر الروسي.
منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022، تحوّلت بولندا إلى شريانٍ رئيس للدَعمِ الغربي لكييف. استقبلت قرابة تسعة ملايين لاجئ أوكراني، ولا يزال نحو مليون منهم يعيشون على أراضيها. لكنها، في الوقت نفسه، تتعرّضُ لتهديداتٍ روسية مُتكرِّرة، في وقتٍ تصرُّ وارسو على رَفعِ جاهزيتها العسكرية إلى مستوياتٍ غير مسبوقة.
ورُغمَ الصعوبات الاقتصادية، قرّرت الحكومة البولندية زيادةَ إنفاقها الدفاعي إلى ما يتجاوز 4.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الأعلى بين دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مع خططٍ لبلوغ 5 في المئة خلال السنوات المقبلة. كما تعهّدت بمُضاعفة حجم قوّاتها المسلحة، بما في ذلك قوات الاحتياط، وتعزيز قدراتها العسكرية بشكلٍ نوعي.
هذا التوَجُّه لا يُنظَرُ إليه في بولندا بوصفه تحضيرًا للحرب، بل استراتيجية ردع وقائية تهدف إلى تجنُّبِ المُواجهة عبر الاستعداد لها، فوفقًا لرؤية صنّاع القرار في وارسو، لا يمكن تحقيق السلام إلّا من خلال القوة.
ويُجمِعُ الخبراء على أنَّ بولندا باتت اليوم بمثابة “دولةِ الجبهة” في الدفاع الأوروبي. فهي الدولة الكبرى (حوالي 38 مليون نسمة) التي “فَهِمَت روسيا كما يجب” منذ البداية، بعَكسِ بعض القوى الأوروبية الكبرى التي راهنت طويلًا على الشراكة مع موسكو. ويُنظَرُ إلى الجيش البولندي على أنه من بين الأقوى في أوروبا، خصوصًا على مستوى القوات البرية، وربما يتفوَّقُ من حيث الجاهزية على نظيرَيه الألماني والبريطاني.
تنتمي بولندا أيضًا إلى مجموعةٍ مُتماسكة من الدول الأوروبية التي تُدرِكُ، من خلال تاريخها، التهديدَ الروسي المباشر، وتشمُلُ دول البلطيق، وفنلندا، والسويد، ورومانيا. وهذه الدول تتشاركُ قناعةً راسخة بأنَّ الردعَ وحده يُمكنُ أن يمنعَ روسيا من توسيع عدوانها.
وفي ظلِّ التغيُّراتِ الجيوسياسية، وتَزايُدِ الحديث عن احتمالِ تراجُعِ الالتزام الأميركي تجاه أوروبا، بدأت بولندا تطرَحُ أسئلةً استراتيجية جوهرية: هل لا تزال الولايات المتحدة حليفًا موثوقًا؟ وإن لم تكن، فهل على أوروبا أن تتحمّلَ عبءَ الدفاع عن نفسها؟
هذه الأسئلة تَعكُسها خطواتٌ غير مسبوقة من جانب وارسو، مثل فتح نقاش علني حول استضافة أسلحة نووية على أراضيها، ودراسة الانسحاب من معاهدة حظر الألغام الأرضية، وهي قراراتٌ لا تأتي من رغبةٍ في التصعيد، بل من إحساسٍ بضرورةِ الاعتمادِ على الذات.
في هذا السياق، ترى بولندا أنَّ الردعَ لا يقومُ فقط على امتلاكِ السلاح، بل على الجدّية في استخدامه إذا لزم الأمر. ومن هنا تأتي استثماراتها الكبيرة في تطويرِ الصناعات الدفاعية، وتحديثِ قوّاتها المسلّحة، وتوثيقِ تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، التي لا تزال، رُغمَ كلِّ شيء، شريكها الاستراتيجي الأبرز.
أما على الصعيد الأوروبي، فإنَّ بولندا تدعو إلى إعادة النظر في مفهوم الدفاع الجماعي داخل الاتحاد الأوروبي، مُشدِّدةً على أنَّ توسُّعَ الاتحاد اقتصاديًا وحدوديًا يجب أن يوازيه توسُّعٌ في المسؤوليات الدفاعية. أوروبا، وفق الرؤية البولندية، لا تملكُ ترفَ الانتظار أو المُجاملة، بل يجب أن “تنضجَ” في وجه التهديد الروسي المستمر.
في المُجمَل، تبرز بولندا اليوم رقمًا صعبًا في معادلة الأمن الأوروبي. دولةٌ استبقت الآخرين في فَهمِ خطورةِ المشروع الروسي، وتتحرّكُ بثباتٍ لتعزيز موقعها بوصفها قوّةَ رَدعٍ إقليمية، تحمي نفسها، وتُسهِمُ في حماية القارة بأسرها. وفي زمنٍ تتبدّلُ فيه التحالفات وتتصاعد فيه المخاطر، تبدو بولندا نموذجًا للدولة التي اختارت ألّا تُراهِنُ على الوعود، بل على الاستعداد الدائم.
- هُدى الحُسَيني هي صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، تعمَلُ في صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية. عملت سابقًا في صحفٍ ومجلّات عدة منها: “الأنوار” في بيروت، و”النهار العربي والدولي” و”الوطن العربي” في باريس، و”الحوادث” و”الصياد” في لندن. غطّت حربَ المجاهدين في أفغانستان، والثورة الإيرانية، والحرب الليبية-التشادية، وعملية “الفالاشا” في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الأولى. حاورت زعماءَ دول عربية وأجنبية عديدين بينهم الإمام روح الله الخميني (الذي رافقته على الطائرة التي نقلته من باريس إلى طهران) والملك الحسن الثاني والرئيس صدام حسين والرئيس ياسر عرفات والرئيس جعفر النميري والرئيس الأوغندي عيدي أمين. …
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره في صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية.