الخليج يُفاوِضُ لا يَتَلقَّى: زيارةُ ترامب تُرَسِّخُ تَوازُنَ القوى مع واشنطن

شكّلت زيارةُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى كلٍّ من المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتّحدة فُرصةً ثمينة لهذه الدول الخليجية للمُساهمةِ في رَسمِ ملامح سياسة واشنطن تجاهَ قضايا المنطقة، سواءً في مجالات الذكاء الاصطناعي والدفاع أو في الملفّات الديبلوماسية الإقليمية.

الرئيس ترامب والرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد: المحطة الثالثة في رحلته الخليجية.

إبراهيم الأصيل*

لم تَكُن زيارةُ دونالد ترامب إلى الخليج في أيار (مايو) الماضي، في أوّل رحلةٍ رسمية خارجية له في ولايته الثانية كرئيسٍ للولايات المتّحدة، زيارةً ديبلوماسية عادية، بل شكّلت لقاءً استراتيجيًا صاغته المصالح المُشتركة والتحوّلات في الديناميات العالمية. مثّلت هذه الزيارة للقادة الخليجيين فُرصَةً لإعادة تعريف موقعهم على الساحة الدولية، لا كمجرّدِ فاعلين إقليميين ضمن النظام الذي تقوده الولايات المتّحدة فحسب، بل كمُساهمين فاعلين في نظامٍ عالميٍّ ناشئ يقوم على أُسُسِ ديبلوماسية الصفقات والتكامل التكنولوجي وإمكانية الوصول إلى رأس المال، فضلًا عن توسيع دوائر النفوذ والمشاركة في عملية صناعة القرار الاستراتيجي.

استعدّت الدول الخليجية لهذه الزيارة بنوايا واضحة؛ ترسيخ دعائم أجنداتها التنموية الوطنية في إطارِ منطق المنافسة العالمية، وتوظيف رساميلها وروابطها الدولية، وضمان استمرار انخراط الولايات المتّحدة تحت إدارة ترامب في شؤون المنطقة، ولكن وِفقَ شروطٍ تُرسَم في أبو ظبي والرياض والدوحة، لا في واشنطن وحدها. لم تكن هذه الزيارة مجرّد عودة إلى التحالفات التقليدية، بل شكّلت إعادة ضبط لبوصلة العلاقات ومساراتها.

أمّا ترامب، فلم يأتِ بعقيدةٍ سياسية، بل عقلية الصفقات التي تتماشى تمامًا مع مقاربة الدول الخليجية للسياسة الدولية. وبذلك، كشفت الزيارة عن مرحلةٍ جديدة في مسار العلاقات الأميركية-الخليجية.

ما الذي أرادته الدول الخليجية؟

استقبلت العواصم الخليجية دونالد ترامب بأجندةٍ واضحة. في المقام الأوّل، سعت إلى استكشافِ طبيعة الإدارة التي تتعامل معها: هل سيظلّ ترامب مُتمسِّكًا بنهجِ ولايته الأولى القائم على منطق الصفقات ورفض المؤسّسات والتساهل مع تصاعد النفوذ الإقليمي؟ أم أنّ التكاليف السياسية لذلك النهج قد دفعته إلى إعادة النظر في مقاربته تجاه الدول الخليجية؟

ثانيًا، هدفت الدول الخليجية إلى تأمين مواقع اقتصادية وتكنولوجية متقدّمة تضمن مستقبلها، إذ لم تَعُد المنطقة تنظرُ إلى التكنولوجيا كأداةٍ تنموية فحسب، بل باتت تعتبرها أصلًا جيوسياسيًا بامتياز. فقد أطلقت المملكة العربية السعودية شركة “هيومن” للذكاء الاصطناعي (Humain) بهدف توطين التكنولوجيا وتطوير نماذج ذكاء اصطناعي باللغة العربية، ما يضع المملكة في صدارة التقاطع بين البنية التحتية الرقمية والهوية الإقليمية. أمّا قطر، التي تركّز على أدوات القوة الناعمة والتعليم، فأبرزت دورها الديبلوماسي، وعزّزت شراكاتها التقنية من خلال اتفاقيات تعاون مع جامعات أميركية فضلًا عن مشاريع لتحديث قواعدها العسكرية. وفي المقابل، سعت الإمارات العربية المتّحدة إلى تعميق تكاملها التكنولوجي مع الولايات المتّحدة، خصوصًا في مجالَي الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، إذ التزمت جهات إماراتية بصفقات ضخمة لشراء الرقائق الإلكترونية، وأبرمت اتفاقيات مع عمالقة التكنولوجيا مثل “مايكروسوفت” (Microsoft) و”أوراكل” (Oracle) و”نفيديا” (Nvidia)، مؤكدةً طموحها في التحوّل إلى “سيليكون فالي” عربية.

ثالثًا، سعت الدول الخليجية إلى دفع أجنداتها الديبلوماسية الإقليمية قُدُمًا. فقد أراد القادة الخليجيون أن تؤكّدَ الزيارة على إبراز دورهم المحوري في رسم ملامح البنية الأمنية والسياسية المتغيّرة في المنطقة. هدفت المملكة العربية السعودية إلى ترسيخ دورها القيادي في إعادة دمج سوريا ضمن المنظومة العربية وتوجيه السياسة الإقليمية نحو الاستقرار والتهدئة. وسعت قطر إلى ترسيخ موقعها كوسيط موثوق، لا في ملف غزّة فحسب، بل أيضًا في المحادثات المتعلّقة بإيران وأفغانستان، وإلى الحفاظ على دورها كقناة ديبلوماسية إقليمية مستقلّة وضرورية.

وأخيرًا، سعت الدول الخليجية إلى إعادة تأكيد مكانتها في عالمٍ لم يَعُد فيه اهتمامُ واشنطن مضمونًا، موجّهةً رسالة مفادها أنّ التعامل معها لم يعد من المسلّمات. ففي ظلّ توسّع الحضور التجاري والتكنولوجي لكلّ من الصين والهند، أراد القادة الخليجيون التأكيد على أنّ تحالفهم مع واشنطن لم يعد تلقائيًا، بل صار مسارًا ينبغي التفاوض عليه، والحفاظ عليه، وضمان تحقيقه لمصالح الطرفين المتبادلة.

ما حصلت عليه الدول الخليجية

ما نالته الدول الخليجية من زيارة ترامب لم يكن التزامات صريحة، بل وضوحًا في التوجّهات.استخدم ترامب لغةً باتت مألوفة في تعامله مع الدول الخليجية، نبرة غير تصادمية يغلب عليها طابع المصالح الاقتصادية وتكشف عن رغبة جليّة في إعادة الانخراط. لكن بعيدًا من المشهد الإعلامي، لم تأتِ الزيارة باتفاقيات أمنية رسمية، ولا برفع القيود التي يفرضها الكونغرس على صفقات السلاح، ولا بإطلاق مبادراتٍ ديبلوماسية لافتة. ما كشفت عنه الزيارة هو استمرار تفضيل الرئيس الأميركي لرأس المال، وإمكانية الوصول إلى قطاعات التكنولوجيا المتقدّمة، والتحكّم في صياغة السرديات، على حساب إعادة بناء التحالفات المؤسّسية مع الدول الخليجية.

ركّزت أهداف المملكة العربية السعودية على تعزيز حضورها وترسيخ مكانتها الإستراتيجية في المدى البعيد. صحيحٌ أنّ الإعلان عن صفقاتٍ دفاعية بقيمة 142 مليار دولار قد خطف الأضواء، إلّا أنّ مصادرَ مطّلعة قدّرت القيمة الفعلية بأقلّ بكثير، لأنّ الكثير من الاتفاقات المُعلنة غير مُلزِمة، وبعضها سبق التفاوض عليه، ولا تزال جميعها خاضعة لمراجعة الكونغرس. والأهم من الأرقام كانت إعادة تفعيل النقاشات حول البرنامج النووي المدني، واستمرار تقديم الرياض كمرتكز اقتصادي وعسكري في المنطقة. وبخلاف زيارة ترامب في العام 2017، جاءت مقاربة المملكة هذه المرّة أكثر اتزانًا وتنظيمًا، فقلّصت مظاهر الاستعراض وركّزت على البناء المؤسّسي. واستغلّت الرياض الزيارة لترسيخ مكانتها المحورية في رسم ملامح الديبلوماسية الإقليمية والتنسيق الأمني والتحوّل الاقتصادي، من دون المبالغة في تسويق الزيارة أو تضخيمها.

أمّا قطر، فقد اختارت نهجًا إستراتيجيًا أكثر منه استعراضي. ومن خلال إطار تبادل اقتصادي بقيمة 2,1 تريليوني دولار، واستثمار بقيمة 10 مليارات دولار لتحديث قاعدة العُديد الجوّية، حافظت الدوحة على مكانتها كشريكٍ أمني موثوق ووسيطٍ ديبلوماسي فاعل. وقد عكست تصريحات ترامب هذا الدور، لا سيّما في ما يتعلّق بالوساطة في ملف غزّة والملف النووي الإيراني، إذ أقرّ بأهمّية الدور القطري المتنامي من دون السعي إلى توجيهه. وتكمن قوّة قطر في قدرتها على التحرّك بمرونةٍ بين الساحتين الإقليمية والدولية من دون الخضوع لتأثير طرف محدّد.

من جهتها ركّزت الإمارات العربية المتّحدة على تعميق دورها كمركزٍ للتكنولوجيا ورأس المال. وترافقت استثماراتها في الولايات المتّحدة مع الشراكات التكنولوجية الرفيعة المستوى المذكورة سابقًا، إلى جانب مساعيها المستمرة لشراء معدّات متقدّمة لأشباه الموصلات. واستغلّت أبو ظبي الزيارة لتأكيد مكانتها داخل منظومة الابتكار والذكاء الاصطناعي الأميركية، مع الحفاظ على توازُنٍ دقيق في علاقتها مع الشركات المرتبطة بالصين.

وفي ما يخصّ التطبيع مع إسرائيل، لم تسفر الزيارة عن إعلانات جديدة، لكنّها أبقت الباب مفتوحًا. جدّد ترامب دعمه لاتفاقات أبراهام، إلّا أنّ استمرار الحرب في غزّة وتغيّر المزاج السياسي في العالم العربي دفعا القادة الخليجيين إلى تفضيل الحفاظ على هامش المناورة بدلًا من الإعلان عن خطواتٍ رمزية. ولا يزال ملف التطبيع مطروحًا على الطاولة، لكن بشروطٍ تضعها العواصم الخليجية.

ومن أبرز مخرجات الزيارة كان إعلان رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، في خطوةٍ تعكُسُ تنامي نفوذ الدول الخليجية في رسم الإستراتيجية الأميركية إزاء قضايا المنطقة. ولم يكن هذا التحوّل، بالنسبة إلى الدول الخليجية، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، مَكرَمة، بل أولويّة استراتيجية. فقد حرصت المملكة على ترسيخ دورها المحوري في مسار إعادة دمج سوريا في المنظومة الديبلوماسية العربية، وجاء الإعلان من قلب الرياض تتويجًا لنجاح جهودها الحثيثة في الضغط نحو انتقالٍ مُنَظَّم يُنهي عزلة سوريا. وقد أكّد ذلك مكانة السعودية القيادية في المنطقة. أمّا بالنسبة إلى الدول الخليجية، لا تقتصر أهمّية استقرار سوريا على إعادة الإعمار أو عودة اللاجئين فحسب، بل ترتبط كذلك بتقليص النفوذ الإيراني، واستعادة زمام الفاعلية السياسية العربية، وإثبات قدرة الدول الخليجية على تحقيق نتائج ديبلوماسية ملموسة. وبهذا المعنى، شكّلت نجاحات الرياض مثالًا واضحًا على قدرتها على التأثير في السياسة الأميركية، لا مجرّد التماهي معها.

الصبر الإستراتيجي والمناورة المحسوبة

قد يكون أهمّ ما أسفرت عنه زيارة ترامب هو ما لم يحدث فعليًا: فقد تجنّبت الدول الخليجية الوقوع في فخ الالتزامات المفرطة. ولم تكن هناك عودة إلى النموذج القديم القائم على التبعية للولايات المتّحدة. بل أكّدت جولة ترامب أنّ الدول الخليجية تتبنّى اليوم نهجَ الصبر الاستراتيجي، أي إدارة حالة عدم اليقين من دون التفريط بأوراقِ القوّة.

تعتمد الدول الخليجية الثلاث، أي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة وقطر، أسلوبَ المناورة المحسوبة. فالإمارات تواصل تعاونها التجاري مع الصين في مجالات التكنولوجيا التجارية، لكنّها في الوقت نفسه تُعيدُ توجيه القطاعات الحسّاسة، مثل الذكاء الاصطناعي والدفاع، نحو الولايات المتّحدة لضمان الحفاظ على وصولها الاستراتيجي إلى هذه المجالات الحيوية. وتخوض المملكة العربية السعودية في ديبلوماسية هادئة مع إيران، ليس إرضاءً لواشنطن، بل لأنَّ الاستراتيجية التنموية “رؤية 2030” تعتمد على الاستقرار الداخلي والإقليمي وتجنّب التصعيد. أمّا قطر، فتوازن بين شراكتها العسكرية مع الولايات المتّحدة وشبكة علاقاتها الإقليمية التي تمتدّ عبر خطوط التماس الإقليمية، من غزّة إلى كابول مرورًا بطهران.

المنطق الضمني الذي تقوم عليه السياسات الخليجية بسيط: تنويع التحالفات مع الحفاظ على الاستقلالية. وتظلّ واشنطن شريكًا أساسيًا، لكنّها لم تعد الشريك الوحيد. فقد تعلّمت الدول الخليجية كيفية التعامل مع الرؤساء الأميركيين كلّ بحسب طريقته، من المتحفظين إلى الإيديولوجيين وأولئك الذين يصعب توقّعهم. وهذا هو التحوّل الجوهري: لم تَعُد الدول الخليجية تتفاعل مع السياسة الأميركية، بل أصبحت تدرجها في حساباتها مسبقًا. لم تقم زيارة ترامب بإعادة تحديد ملامح مستقبل المنطقة، بل أكّدت أنّ الدول الخليجية بدأت بالفعل صياغة مستقبلها بنفسها. فما كانت تطمح إليه ليس مجرّد الانضواء تحت لواءِ نظامٍ تقوده الولايات المتّحدة، بل أرادت التأكيد على قدرتها مواصلة بناء نظامها الخاص، القائم على رأس المال والارتباط العالمي والانخراط المحسوب. لم تكن الزيارة عودة إلى الماضي، بل اختبارًا لمرحلةٍ جديدة تبقى فيها واشنطن شريكًا لا غنى عنه، وإنّما ليس شريكًا حصريًا.

ذكّرت زيارة ترامب الجميع بأنّ الدول الخليجية لا تنتظر مَن يقودها، فهي تُرسّخ موقعها القيادي، وتحرص على أن يعرف كل من يرغب في التعاون معها ما هو مطروح على الطاولة وما لا يدخل في حساباتها.

  • إبراهيم الأصيل هو خبير في العلوم السياسية ومتخصّص في شؤون الشرق الأوسط، وتشمل اهتماماته الجغرافيا السياسية والاقتصاد السياسي والحوكمة وتطوّر الدولة، بالإضافة إلى الأمن الإقليمي. يشغل حاليًا منصب زميل أول في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، وهو أستاذ محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى