ما الذي يَحدُثُ مع الدروز في سوريا؟

بينما يجد الدروز أنفسهم عالقين بين رَحمِ حكومةٍ مُمَزَّقة لكنها لا تزال قمعية، وجماعات مُتَطرِّفة جريئة، ومناورات إسرائيل الإقليمية، يجدون أنفسهم مجددًا معتمدين على الثابت الوحيد الذي عرفوه: أنفسهم.

الشيخ حكمت الهجري: “سنحمي أرضنا وكرامتنا وإخواننا، قبل كل شيء”.

رابح غضبان*

في ليل الصحراء خارج السويداء، يَتَّكِئ رجلٌ مُسِنٌّ على عصا، ملفوفًا بصوفٍ فوق ثيابٍ تقليدية، وجيوبه مليئة بالذخيرة. يقول: “سنعمل مع أيِّ شخصٍ يُعاملنا بإنصاف”. ولكن إذا لم يفعلوا ذلك؟ “فحتى المريض سيلقي عصاه ويحمل السلاح”.

هذا الرجل هو الشيخ يحيى الحجار، قائد حركة “رجال الكرامة”، أبرز ميليشيا درزية في سوريا. خلال رحلةٍ قمتُ بها أخيرًا إلى السويداء والمناطق المحيطة بها، تحدثتُ مع مقاتلين وزعماءٍ دينيين وسكّانٍ وَصَفوا واقعهم بعباراتٍ قاسية، مُوَضِّحين كيف كان الدروز معزولين، وشعروا بالتهديد، وتُرِكوا ليعتمدوا على أنفسهم. في الأسابيع الأخيرة، أفادت التقارير بمقتل أكثر من 100 درزي بعد انتشار فيديو مُفبرَك على الإنترنت، يُظهِرُ رجلًا درزيًا يسخَرُ من النبي محمد. وسرعان ما انتشرَ العنفُ في السويداء والمجتمعات الدرزية المحيطة بدمشق. وتنصّلت الحكومة من المسؤولية، مُلقيةً باللوم على “الخارجين عن القانون”، لكن لقطات الدبابات وإطلاق النار والإذلال العلني للدروز غمرَت وسائل التواصل الاجتماعي.

في أحد المقاطع، يُجبِرُ مُسَلَّحون رجلًا مُسِنًّا على الثغاء كالخروف. يقول: “هل تطلبون مني فعل هذا حقًا؟” قبل أن يُصفَعَ مرارًا وتكرارًا. وفي مقطعٍ آخر، يحلق مسلحون شوارب شباب دروز بالقوة – وهو فعلٌ يهدفُ إلى إهانتهم، مستهدفًا رمزًا ثقافيًا راسخًا. عاد الإذلال، الذي لطالما كان سمة مميَّزة للأساليب الاستبدادية في سوريا، بقوة. ردًّا على ذلك، أصدر الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي للدروز في سوريا، نداءً عاجلًا للحماية الدولية، واصفًا الهجمات بأنها “عملُ إبادة”.

انتشرت المشاعر المُعادية للدروز في أماكن أخرى أيضًا. في حماة، هتف المتظاهرون بأنَّ “الدروزَ أعداءُ الله”. وفي جامعةٍ في حمص، اقترح احتجاجٌ آخر ذبح أفراد الطائفة، ما أدّى إلى نزوحٍ جماعي للطلاب إلى المناطق ذات الغالبية الدرزية. قال لي أحد السكان: “نحن الآن بتنا هدفًا”.

هذه ليست المرة الأولى. في العام 2015، قتل مقاتلو “جبهة النصرة”، قبل أن تُصبح “هيئة تحرير الشام” التي يقودها الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، ما لا يقل عن 20 قرويًا درزيًا في قرية قلب لوزة في محافظة إدلب. وأُجبِرَ آخرون على اعتناق الإسلام السنّي، بينما دُنِّسَت المزارات الدرزية وشُوِّهت قبورهم. وفي العام 2018، نفّذ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تفجيراتٍ وغاراتٍ مُنسَّقة في السويداء، ما أسفر عن مقتل أكثر من 250 شخصًا في المدينة ذات الغالبية الدرزية واختطاف العشرات من النساء والأطفال.

بالنسبة إلى العديد من الدروز، يُنظَرُ إلى الشرع، الذي قاتل في العراق إلى جانب تنظيم “الدولة الإسلامية” قبل تأسيس “هيئة تحرير الشام” في سوريا، على أنه استمرارٌ للإيديولوجيات المتطرّفة. فهم لا ينظرون إلى عنف اليوم على أنه حوادثُ معزولة، بل كجُزءٍ من حملاتٍ إرهابية مستمرّة تُحيي مخاوف الدروز الراسخة منذ قرون من وصمهم بالهرطقة والمنبوذين.

إنَّ أَلَمَ تَخَلّي الحكومة السورية الجديدة عنهم حادٌّ بشكلٍ خاص نظرًا إلى دور الدروز في الانتفاضة السورية. في السويداء، تحوّلت الاحتجاجات التي بدأت في آب (أغسطس) 2023 احتجاجًا على ارتفاع أسعار الوقود بسرعة إلى مطالب أوسع نطاقًا بتغيير النظام. كان مئات المتظاهرين يتجمّعون في ساحة الكرامة بالسويداء كل يوم جمعة. وقد أثارَ توقيتُ ذلك، الذي تزامن مع إعادةِ تأهيلٍ حَذِرة للأسد من قبل بعض أطراف المجتمع الدولي، قلقَ الكثيرين. وبعد أن رأيتُ هذا من قبل، حذّرتُ من أنه إذا أُتيحَت الفرصة، سيردُّ الأسد على السويداء كما فعل مع المدن السورية الأخرى المتمرّدة – بالقصف والتهجير القسري والاعتقالات الجماعية. ومع ذلك، ومع ضُعفِ قبضة الأسد، انضمَّ رجال الكرامة إلى جماعات المعارضة من درعا وتقدموا نحو العاصمة.

قال لي الشيخ الحجار: “كنّا في غرفة العمليات مع فصائل أخرى”. وأضاف وهو يضحك ضحكة مكتومة: “وصلنا إلى دمشق قبل ساعات من وصول “هيئة تحرير الشام””. لقد كانت مقامرة جريئة. عندما انهار النظام أخيرًا، توقّعَ الدروز الاعتراف بهم كشركاء في الانتفاضة.

بدلًا من ذلك، قوبلوا بتجاهُل. هَمّشَ الشرع قادةَ الدروز من العملية الانتقالية في البلاد. استُبعِدَ الشيخ الهجري من الحوار الوطني وعملية صياغة الدستور المؤقت الذي اتُفِقَ عليه في آذار (مارس). وفي اجتماعنا معه، وصف ما حصل عليه من مبعوثين من مستوى منخفض بأنه مجرد تأكيدات غامضة، وقد شاركه الحجار إحباطه. وقد حذّرَ الهجري من أنه بدون ضماناتٍ واضحة بأنّ سوريا ما بعد الحرب ستكون مكانًا ل”جميع الأطياف، لا لطائفةٍ واحدة”، فإنَّ دخول القوات التابعة للحكومة “سيُعتَبَرُ احتلالًا”.

في حضر، وهي بلدة حدودية مختلطة بالقرب من مرتفعات الجولان المحتلة، كانت التوتّرات ملموسة. فقد أُطلِقَ النار أخيرًا على شيخ درزي في ما يعتقد الكثيرون أنه جريمةُ كراهية. وبعد أيام، شَوَّهَت كتاباتٌ جُدرانَ ضريح: “ضريحٌ للدروز والكلاب” كُتب عليه. في غيابِ حمايةٍ حكومية حقيقية، تولّى الدروز مسؤولية الأمن بأنفسهم. تقومُ الميليشيات المحلية بدورياتٍ في الشوارع، وتحلُّ النزاعات، وتصدّ الغارات.

لقد سدت إسرائيل هذا الفراغ، مُصَوِّرةً نفسها حاميةً للدروز. فبعدَ أيامٍ من أعمال العنف الأخيرة، شنّت الطائرات الحربية الإسرائيلية أوسع غاراتها في سوريا، بما في ذلك قرب القصر الرئاسي.

إلى جانب عملياتها العسكرية، نشرت إسرائيل أيضًا قوةً ذات طابع رمزي: من مواطنيها الدروز. يُقرُّ العديد من الدروز بأنَّ التعبيرَ الديني والثقافي أكثر حمايةً في إسرائيل منه في لبنان أو سوريا، وهما البلدان الآخران اللذان يقيم فيهما هذا المجتمع الذي يضمُّ حوالي مليون نسمة. قال لي الشيخ الهجري في مقابلتنا: “على الأقل لديهم حقوقهم هناك، لكننا هنا ما زلنا ننتظر”. في لحظةٍ مُدبّرة بعناية، سهّلت إسرائيل رحلةَ حجٍّ للدروز السوريين إلى مكانٍ مقدَّس في شمال إسرائيل، حيث نقلت شخصياتٍ دينيةً في حافلاتٍ عسكريةٍ عبر الأراضي السورية المحتلة حديثًا تحت حراسة الشرطة.

ولكن بينما يُشادُ علنًا بولائهم الدرزي في إسرائيل، ويرفرف علمهم بحرية، وهو حقٌّ في التعبير لا يُمنح للمواطنين الفلسطينيين في البلاد، فقد أدرك معظمهم زيف هذا التمثيل. الدروز في إسرائيل هم العرب الوحيدون المُلزَمون بالخدمة العسكرية. ينتشرون في غزة، ويديرون نقاط تفتيش في الضفة الغربية، ويشرفون على مراكز احتجاز الفلسطينيين، وكثير منهم بدون محاكمة. لا تزال مدنهم مهمَّشة اقتصاديًا وتُعاني من الإهمال والجريمة. وقد كرّس قانون الدولة القومية لعام 2018 وضعهم كمواطنين من الدرجة الثانية. وقد فُصِلَ الدروز عن جذورهم التاريخية والثقافية، وتُعامِلهم إسرائيل بشكلٍ متزايد ليس كجُزءٍ من السكان العرب أو المسلمين، بل كجماعةٍ عرقية دينية متميِّزة.

خلال زيارتي، قال سكان الحضر إنَّ مسؤولين إسرائيليين زاروهم في اليوم السابق، وقدّموا لهم المساعدة والتطمينات. قال لي رجل، مشيرًا إلى جبل الشيخ، الذي تمرُّ أنهاره المغطّاة بالثلوج عبر لبنان وسوريا وإسرائيل: “لقد استولوا على مياهنا بالفعل. نعلم أنَّ لا خيرَ سيأتي”. وعبّرت سيدة من سكان السويداء عن ذلك بصراحة أكبر: “أين كانوا عندما كنّا نتعرّض للذبح على أيدي “تنظيم الدولة الإسلامية”؟”، في إشارةٍ إلى مذبحة العام 2018. وفي إشارةٍ إلى استيلاء إسرائيل على 400 كيلومتر مربع من الأراضي السورية بعد سقوط نظام الأسد -وهي خطوة صرّح الإسرائيليون بأنها ستستمرُّ إلى أجلٍ غير مُسمّى- أضافت: “الأمر لا يتعلّقُ بالحماية. إنه يتعلّقُ بالتوسُّع”.

في الأسبوع الفائت، انكشفت نوايا إسرائيل. فعندما حاول الدروز في إسرائيل عبور الحدود والانضمام إلى القتال في سوريا، أوقفتهم السلطات الإسرائيلية، مما أدى إلى احتجاجاتٍ وقَطعِ طُرُقٍ في الشمال. حتى علماء وسياسيون دروز إسرائيليون أبدوا مخاوفهم. وقد حذّرَ عضوٌ سابقٌ في الكنيست من استخدام الطائفة “كأداةٍ لخدمة سياسات إسرائيل طويلة المدى”.

وسط هذه الأحداث المتلاحقة، عادت أسئلةٌ للظهور بين الديبلوماسيين والمحللين: ما الذي يحدثُ مع الدروز؟ هل يثق الهجري برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؟ هل سيحلّ اتفاقٌ مع الحكومة السورية هذه المشكلة؟ المعنى الضمني واضحٌ لا لبس فيه: إلقاء اللوم على الطائفة نفسها بدلًا من الدولة السورية التي فشلت في حمايتها.

ما يغيبُ عن كثيرٍ من هذه الردود هو فهمٌ أساسيٌّ لمعنى العيش كأقلّيةٍ شكّلها تاريخٌ طويلٌ من الاضطهاد والصدمات المتوارثة. قال لي أحد السكان: “النساء والأطفال مرعوبون ولا يغادرون منازلهم”. يتردّدُ صدى هذا الخوف في أرجاء المجتمعات المُهمَّشة في سوريا، لا سيما بعد مقتل المئات، إن لم يكن أكثر من ألف، من العلويين في آذار (مارس) الماضي في هجماتٍ شنّتها جماعاتٌ مسلّحة وقواتٌ تابعةٌ للحكومة، عقب أعمال عنفٍ شنّتها فلول نظام الأسد استهدفتهم. وقد حثّت منظمة العفو الدولية على التحقيق في عمليات القتل هذه كجرائم حربٍ محتملة.

ومما يُثير القلقَ بالقدر نفسه، تنامي ميل الاتحاد الأوروبي، والآن الولايات المتحدة، إلى تبرير إخفاقات حكومةٍ لا تخضع للمساءلة ولا تشمل الجميع. وتحت ضغطٍ لإظهار تقدّمٍ نحو التطبيع وتحسين الوصول إلى دمشق، غضّ العديد من الجهات الفاعلة الأجنبية والمحلية الطرف عن سجلات القادة غير المنتخبين والمُتورّطين بشكل كبير، والذين أصبحوا الآن جُزءًا من الحكومة المؤقتة الجديدة في سوريا. في اندفاعٍ واضح لعقد صفقات تجارية، زار الرئيس دونالد ترامب المملكة العربية السعودية هذا الأسبوع وأعلن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، قبل أن يلتقي أحمد الشرع في اليوم التالي في الرياض. حدث كل هذا على الرغم من فشل الحكومة السورية في توفير الحماية للأقليات.

ما يحدث للدروز ليس معقَّدًا. بمقاومتهم لنزع السلاح، تحدّوا رواية الحكومة عن انتقالٍ سلس لما بعد الصراع. لم يكن رد الفعل العنيف الذي أعقب ذلك مصادفة، بل كان رسالة. إنَّ التكهنات بأنَّ الشيخ الهجري أو الدروز قد تحالفوا مع إسرائيل تغفل حقيقة أعمق. هذه ليست قصة خيانة؛ بل هي قصة وجود وبقاء.

بينما يجد الدروز أنفسهم عالقين بين رحم حكومة ممزقة لكنها لا تزال قمعية، وجماعات متطرفة جريئة، ومناورات إسرائيل الإقليمية، يجدون أنفسهم مجددًا معتمدين على الثابت الوحيد الذي عرفوه: أنفسهم. قال لي الشيخ الهجري: “سنحمي أرضنا وكرامتنا وإخواننا، قبل كل شيء”.

  • رابح غضبان هو كاتب سوري، أمضى سنوات عدة في تركيا حيث عمل على برامج بناء المجتمع المدني السوري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى