أبعد من خلاف ترامب-نتنياهو
راهنت الولايات المتحدة طويلًا على إسرائيل لضبط الأمن في الإقليم بما يتناسب مع مصالحها، فكانت النتيجة حروبًا لا تنتهي وتراجُع صورة الولايات المتحدة عند الرأي العام العربي والاسلامي، وكلفت الخزينة الأميركية مليارات الدولارات ذهبت كلها سدى، فهل يتغيّر الرهان مع دونالد ترامب ليُضيف إليه تركيا والمملكة العربية السعودية؟

ملاك جعفر عبّاس*
طَرَحَ التبايُن في المواقف الأميركية والإسرائيلية في أربعة ملفّات مُتداخلة في الشرق الأوسط أسئلةً كثيرة حول مصير العلاقة بين البلدين الحليفَين، وحَولَ شكل التوازُنات الجيوسياسية في إقليمٍ لا تنوي واشنطن أن تلعبَ فيه دورَ الشرطي لمدة طويلة. فمن صفقة الرهائن ووقف إطلاق النار في غزة، إلى المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي، إلى ملفّ سوريا-الشرع، إلى الملف الحوثي وسلامة الملاحة في البحر الأحمر، تدحرجت العلاقة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نزولًا، ولا يبدو أنها وصلت إلى الحضيضِ بَعد.
لقد بات التعارُضُ واضحًا منذ اللحظة التي اكتشفت فيها إسرائيل أنَّ الولايات المتحدة تتفاوَضُ سرًّا مع حركة “حماس” في الدوحة عبر مبعوثها آدم بولر، تبعه استدعاء ترامب لنتنياهو على عجل، في ما بدا أنه فخٌّ نصبه له الرئيس الأميركي في المكتب البيضاوي حيث أسقط عليه خبر المفاوضات المباشرة مع إيران كالصاعقة في الوقت الذي كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يعتقد أنه آتٍ لمُناقشة خططِ الضربة، التي اعتبرَ أنها محسومة، على المفاعلات النووية الإيرانية. ثم كان أن دخلَ مبعوثُ الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف غرفة المفاوضات في مسقط على قاعدة لا سلاحَ نوويًا من دون البحث في تفكيكِ البرنامج بشكلٍ كامل، ما فخّخَ الإدارة الأميركية التي لم يجد رئيسها حَرَجًا في التخلُّص من مستشار الأمن القومي مايكل والتز لأنه فتح قناةً خلفية مع نتنياهو للضغط على ترامب من أجل ضرب إيران.
من جهتها، حاولت إسرائيل تخريبَ المفاوضات من خلالِ توجيهِ ضرباتٍ غامضة لمنشآتٍ حيوية إيرانية، حيث لم تَبلَع طهران الطعم، بل عضّت على الجرح ليبقى الخطُّ مفتوحًا مع واشنطن وسطَ تسريباتٍ بأنَّ ترامب لَجَمَ الخطط الإسرائيلية بقصف المفاعلات النووية الإيرانية. وبدل وضع ملفّ الأذرع والوكلاء على الطاولة ذهبَ ويتكوف إلى التفاوض مع الحوثيين، الأمر الذي أنتجَ اتفاقًا في اللحظة التي كانت الطائرات الإسرائيلية تقصفُ مطار صنعاء، يتوقّف الحوثيون بموجبه عن ضرب السفن الأميركية مقابل وقف الولايات المتحدة ضرباتها عليهم. لا بل أنَّ ترامب، الذي سئم من عدم قدرة نتنياهو على استرجاع الرهينة الأميركي عيدان ألكسندر لدى “حماس”، أرسل ويتكوف أيضًا إلى الدوحة للضغط على أوليَاء الأمر لإطلاق سراح الرهينة. وتقول “حماس” أنها أطلقت سراحَ هذا الأخير كبادرة حسن نية قبيل زيارة الرئيس الأميركي الى الخليج. وفيما سيحصل ترامب على صورته الموعودة مع الرهينة الأميركي، لا يزال مصير جثث أربعة جنود إسرائيليين من أصول أميركية مجهولًا في غزة، ومن غير المعروف ما إذا كانت “حماس” تعتقد أنها تستطيع ان تحصلَ على بعض المكاسب من ترامب مقابل تسليمهم.
في مقابل هذا التباعُد الأميركي-الإسرائيلي، يبدو أنَّ أسهُمَ الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ترتفع باضطراد عند ترامب. فخلال توبيخه نتنياهو على تجاوزه حدود المسموح به في سوريا، هنّأ ترامب اردوغان على “شطارته” في السيطرة على سوريا من خلال الدفع بقوات أحمد الشرع نحو دمشق، وقال لنتنياهو إن تعقّدت الأمور بينك وبين الأتراك عليك أن تعودَ إليَّ لأتوسَّطَ بينكما، فترامب لا يبدو أنه ينوي توتير علاقته بأردوغان بسبب نتنياهو. وفيما ترسم الطائرات الإسرائيلية حدود “إسرائيل الكبرى” في سوريا، كما تراها حكومة نتنياهو المتطرّفة، فقد أعلن الرئيس الأميركي من الرياض، خلال زيارته الخليجية التي بدأت في السعودية في 13 من الشهر الجاري، رفع العقوبات عن سوريا بناءً على طلب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وأردوغان، الذي يبدو أنه يضع لمساته الأخيرة على ملف وقف الحرب الروسية-الأوكرانية أيضًا بعد أن لعب دورًا محوريًا في إطلاق سراح الرهينة الأميركي-الإسرائيلي عيدان ألكسندر.
متغيّراتٌ كثيرة بدّلت تعريف المصالح الأميركية في الشرق الأوسط منذ دخول الولايات المتحدة كلاعبٍ دولي إثر الحرب العالمية الثانية. فإبان الحرب الباردة كانت المصالح الأميركية في الشرق الأوسط تتمحور حول منع تمدُّد النفوذ السوفياتي وتأمين الوصول إلى النفط والحفاظ على أمن إسرائيل. وقد انتهجت الإدارات المتعاقبة، ديموقراطية وجمهورية، سياساتٍ مختلفة في الشكل لكن مُتَّفقة في المضمون على هذا التعريف لماهية المصالح الأميركية في الإقليم.
أما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة فقد كان الحفاظُ على استقرارِ النظام العالمي الأحادي القطب هاجسَ إدارات فترة التسعينيات التي انخرطت في معاقبة كلِّ مَن يُهدّد أو يتحدّى هذا النظام كالعراق وإيران. وشكّلَ نجاحُ إدارة بوش (الأب) في دحر صدام حسين وطرده من الكويت أحد الدوافع الأساسية لانخراط الولايات المتحدة في عملية السلام لحل الصراع العربي-الإسرائيلي (مؤتمر مدريد) بعدما اعتبرت أنها حققت نجاحًا في الحرب على العراق مكّنها من لعب دور “عرّاب السلام والاستقرار في العالم”.
شكّلت هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 منعطفًا تاريخيًا في السياسة الخارجية الأميركية، حيث أدّت إلى إطلاق شعار الحرب على الإرهاب الذي غزت بموجبه الولايات المتحدة أفغانستان والعراق وغرقت في حروب لا تنتهي، تراوحت عناوينها بين مكافحة التطرف الإسلامي والترويج للديموقراطية وحقوق الانسان ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، ثم عادت لتنكفئ تدريجًا بانسحابها من العراق وأفغانستان عملًا بعقيدة باراك أوباما القائلة بضرورة القيادة من الخلف ومشاركة الأعباء مع الحلفاء ووقف الحروب الأبدية. ورُغم الكره الشديد الذي يكنّه ترامب لأوباما وبايدن، فلم يحِد عن هذه العقيدة في ولايته الاولى. فالثابت في السياسات الأميركية المتغيّرة الذي كان سائدًا طيلة هذه السنوات هو ضرورة الحفاظ على قدرة الولايات المتحدة على الوصول الى مصادر الطاقة في الشرق الأوسط، والتماهي المطلق مع المصالح الإسرائيلية من منطلق التزام الإدارات المتعاقبة بالحفاظ على أمن الدولة العبرية.
لكن ترامب في ولايته الثانية يبدو أنه في طور إعادة ترتيب النظام السياسي العالمي من خلال عقيدته “جعل اميركا عظيمة مجددًا” غير القائمة على أيِّ اعتبارات تقليدية واستراتيجية الأمن القومي التي ستُركّز على التصدّي لصعود الصين كقوةٍ منافِسة ومنعها من السيطرة على تايوان بأيِّ ثمن. فالرجل المتحرر من أيِّ إيديولوجيا والشعبوي إلى حدّ التوحُّش، يتعاطى بمنطق العلاقات النفعية لا العلاقات الدولية، ولا يرى فائدة من المؤسسات المُكلِفة التي ترعى مصالح الولايات المتحدة السياسية حول العالم وعلى رأسها وزارة الخارجية التي يقلص ميزانيتها ودورها تدريجًا أسوةً بباقي المؤسسات الفيدرالية على حساب المبعوثين الشخصيين والعلاقات من رجل لرجل مع زعماءٍ يشبهونه في تعريفه للقوة. وضمن هذا المسار يُعيدُ ترامب تعريف المصالح الأميركية بالمعنى الضيق من خلال عقد اتفاقٍ مع أحد أخطر وكلاء إيران في المنطقة شرطَ ألّا يستهدف السفن الأميركية حصرًا ولا يعنيه إن أمطر تل ابيب بالصواريخ. الامر نفسه ينطبق على الصفقة مع “حماس”، فما يهمّه هو أنه أطلق سراح المواطن الأميركي، شاء من شاء وأبى مَن أبى في تل أبيب، ولم يشغل باله كثيرًا في استئناف إسرائيل محو غزة وأهلها من الخارطة، فربما يصبح مشروع “ريفييرا الشرق الأوسط” أقرب للتحقق. المصالح الضيّقة تحكم أيضًا مفاوضاته مع إيران، فإذا منع طهران من تهديد مصادر الطاقة في دول الخليج وأمن طرق الملاحة والمضائق البحرية، وفتحت أمامه الأسواق الإيرانية الواعدة فلتتجرّع إسرائيل كأس السم وهو ما ينسحب على سوريا التي يبدو انها ستكون محطة محورية لأنابيب النفط والغاز والاستثمارات الاميركية في القريب العاجل، خصوصًا بعد لقاء ترامب وأحمد الشرع في الرياض بوساطة الأمير محمد بن سلمان.
راهنت الولايات المتحدة طويلًا على إسرائيل لضبط الأمن في الإقليم بما يتناسب مع مصالحها، فكانت النتيجة حروبًا لا تنتهي وتراجُع صورة الولايات المتحدة عند الرأي العام العربي والاسلامي، وكلفت الخزينة الأميركية مليارات الدولارات ذهبت كلها سدى، بما فيها الحرب التي تلت السابع من تشرين الأول (أكتوبر) التي لا يبدو أنَّ لها أيَّ أفقٍ سياسي، خصوصًا وأنَّ المراهنة على انكفاء النفوذ الإيراني لا تبدو محسومة إن قبلت الولايات المتحدة باتفاقٍ نووي لا يتضمّن دور الأذرع والوكلاء والصواريخ الباليستية. واضطرّت إسرائيل لسنوات إلى مُساكنة النظام الإيراني في الشرق الأوسط وتقاسُم مناطق النفوذ عندما كان الدور الوظيفي الإيراني لا يزال مفيدًا لعقود التسليح والحماية، أما اليوم، فيبدو أنَّ على إسرائيل أن تتقبّلَ مساكنةً من نوعٍ جديد مع تركيا الأطلسية تكون فيه الحسابات الأميركية في الإقليم أكثر اتساقًا مع مصلحة الوكيل الجديد للمصالح الأميركية.
لم يتعوَّد الإقليم العيش بلا شرطي وانكفاء الولايات المتحدة على نفسها سياسيًا معطوفًا على انفلاشها تجاريًا سيسمح بتدفق الأموال لمشاريع الدول الإقليمية المتناحرة التي تطمح إلى ملء فراغاتٍ كثيرة ليس فقط أميركية إنما إيرانية وروسية ويفتح المجال أمام رهانات لم تكن مطروحة في السابق. فهل سيتمكّن ترامب من كبح الصدام الإسرائيلي-التركي فوق سوريا؟ وما الذي سيمنع “حزب الله” و”حماس” والميليشيات العراقية مثلًا من التفاوض مع الأميركيين مباشرة للإبقاء على سلاحهم إن تعهّدوا بأنه سيكون مُوَجَّهًا فقط ضد إسرائيل أسوةً بالحوثي وليس ضد الأميركيين؟ وكيف يضمن ترامب أنَّ بوتين بعد أن ينتهي من أوكرانيا لن تراوده خيالات المياه الدافئة من جديد؟
- ملاك جعفر عبّاس هي كاتبة صحافية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصَّصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن، يمكن التواصل معها عبر منصة “Linkedin” على: linkedin.com/in/malakjaafar
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.