ترامب يُقَلِّصُ ميزانية الخارجية الأميركية، فهل يَتَراجَعُ نفوذُ واشنطن في الشرق الأوسط؟

انتهجت إدارة دونالد ترامب سياسة تقليص في الإنفاق شملت وزارة الخارجية، ما قد ينعكس سلبًا على نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط.

وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو: مخطط جديد لهيكلة وزارته.

روبرت بيشيل*

شرعت إدارة دونالد ترامب الثانية، وبإيعازٍ من الملياردير إيلون ماسك ووزارة كفاءة الحكومة (DOGE)، في حملةٍ شعواء لإحداثِ تغييراتٍ جوهرية داخل أجهزة الحكومة الفيدرالية، من شأنها أن تُخلِّفَ تداعياتٍ وخيمة على السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وعلى رأس الأجهزة المُستَهدَفة وزارة الخارجية. فقد تسرّبت أنباء عن عملية إعادة هيكلة كبرى داخل الوزارة للمرّة الأولى من خلال مذكّرة صدرت في 15 نيسان (أبريل)، تصوّرت خفضًا يقارب 50 في المئة في ميزانية وزارة الخارجية من 58,8 مليار دولار في السنة المالية 2025 إلى 28,4 مليار دولار في السنة المالية 2026، إلى جانب إعادة هيكلة واسعة للوزارة وتقليص عدد موظّفيها. وسارع وزير الخارجية ماركو روبيو إلى وصف المذكّرة بأنّها مجرّد “أخبار زائفة”.

لكن بعد أسبوع، نشرَ روبيو مخطّطًا تنظيميًا جديدًا، وأصدر بيانًا مُقتَضَبًا قال فيه إنّ الوزارة التي يترأسها، بصيغتها الحالية، “مُتضَخِّمة وبيروقراطية وعاجزة عن أداء مهمّتها الديبلوماسية الأساسية”. وفي الثاني من أيار (مايو) الجاري، قدّمت إدارة ترامب مقترحًا لموازنتها للسنة المالية 2026 إلى الكونغرس، تتضمّن تقليص حجم الإنفاق بما يعادل 27,473 مليار دولار في تمويل وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وتستهدفُ طَيفًا واسعًا من الأنشطة، من بينها دعم التنمية الاقتصادية والمساعدات الدولية في حالات الكوارث وعمليات حفظ السلام والمساهمات في المنظّمات الدولية وبرامج التعليم والتبادل الثقافي والديموقراطية والصحّة العالمية وغيرها.

وإلى جانب هذه التوجيهات، أصدر الرئيس الأميركي في 18 نيسان (أبريل) الماضي أمرًا تنفيذيًا يقضي بتجريد نحو 50 ألف موظّف فيدرالي من الحماية الوظيفية، أي ما يعادل 2 في المئة من إجمالي القوى العاملة الفيدرالية. ويشمل القرار جميع الموظّفين المهنيين الذين يضطلعون بمهام تتعلّق بصياغة السياسات أو دعمها أو أولئك الذين تتطلّب طبيعة مهامهم سرّية عالية. وبموجب الأمر التنفيذي، الذي يأتي في إطار ما وُصِف بـ”استعادة المساءلة في المناصب المؤثّرة في السياسات داخل القوى العاملة الفيدرالية”، يمكن الاستغناء عن هؤلاء الموظّفين من دون اللجوء إلى الإجراءات القانونية والمؤسّسية المعهودة، وذلك لأسبابٍ قد تشمل ضعف الأداء أو سوء السلوك أو الفساد، أو حتى اتهامات فضفاضة من قبيل “تقويض التوجيهات الرئاسية”.

وقد يترتّب على هذه الإجراءات مجتمعةً تداعيات عميقة على نهج السياسة الخارجية الأميركية إزاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو في مناطق أخرى. كذلك، تنظر الإدارة الأميركية في إغلاق عدد من السفارات والقنصليات، من بينها القنصلية الأميركية في جنوب السودان، وتعتزم إلغاء مكتب وكيل وزارة الخارجية لشؤون الأمن المدني والديموقراطية وحقوق الإنسان، الذي تصفه بأنّه “بؤرة للنشاط الليبرالي”. وستُعيدُ أيضاً هيكلة مكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية ليضمّ أفغانستان وباكستان، موسّعًا بذلك نطاق اختصاصه إلى ما يتجاوز الدول العربية وإيران.

وتتضمّنُ خطّة إعادة الهيكلة المقترحة تقليصًا في عدد الموظّفين بنسبة 15 في المئة، أي ما يعادل نحو 2,000 موظّف. ومن المرجّح أن تؤدّي هذه الخطوة إلى تراجُعٍ كبير في جودة تحليل السياسات، نظرًا لانخفاض عدد الموظّفين القادرين على جمع البيانات والاجتماع بنظرائهم وتحليل التقارير الصحافية وإعداد مذكّرات السياسات. ومن شأن ذلك أن يؤثّر سلبًا في نوعية المعلومات المتاحة لكبار صنّاع القرار، ويؤدّي في نهاية المطاف إلى تدهور جودة عملية صنع القرار في الولايات المتّحدة.

وقد ينعكسُ فقدانُ عددٍ كبير من الموظّفين سلبًا على عمل الملحقين التجاريين، ويَحدُّ من قدرتهم على تعزيز التجارة والاستثمارات الأميركية في مختلف أنحاء المنطقة. وقد يؤدّي تقليص عدد الموظفين القنصليين إلى انخفاض أعداد المسافرين إلى الولايات المتّحدة بقصد الدراسة أو السياحة، فضلًا عن زيادة احتمالات تسلّل بعض العناصر الخطرة من دون التمكّن من رصدهم.

تُمثّل خطط الإدارة ضربةً قاصمة للجهود الطويلة والمعقّدة والمثيرة للجدل في كثير من الأحيان، لدفع قضية “الحَوكَمة الرشيدة” في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقد ألغِيت موازنة الصندوق الوطني للديموقراطية (NED) بالكامل والبالغة 315 مليون دولار، علمًا أنّ الصندوق من أبرز مصادر الدعم لمبادرات تعزيز الديموقراطية في المنطقة، وقد طعن الصندوق في هذا القرار قضائيًا. أمّا دعم الأنشطة الأخرى الرامية إلى تعزيز الديموقراطية، والتي كانت تشمل تمويل مجموعات المجتمع المدني وبرامج التبادل عبر منح صغيرة ومنح دراسية، فقد شهد تراجعًا مطّردًا منذ ذروته في عهد الرئيس الجمهوري الأسبق، جورج بوش (الإبن). ففي الفترة الممتدة بين العامين 2003 و2013، بلغ متوسّط الإنفاق السنوي على مبادرة الشراكة الأميركية-الشرق أوسطية (MEPI) أكثر من 70 مليون دولار سنويًا، وكانت المبادرة مصدر دعم مهمّ لحركات المجتمع المدني العربي. لكن بحلول العام 2024، كانت موازنة المبادرة قد تراجعت إلى 25 مليون دولار. وفي كانون الثاني (يناير) 2025، وضع مكتب الإدارة والموازنة (OMB) التابع لإدارة ترامب المبادرة تحت مراجعة دقيقة. وفي آذار (مارس)، أُغلِق برنامج التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط (MERC)، الذي أنشِئ في العام 1979 لتشجيع التبادلات بين المواطنين العرب والإسرائيليين.

وعلى نطاقٍ أوسع، وكما أوردت صحيفة “ذي إندبندنت” (The Independent) البريطانية، تتّجه إدارة العلاقات الخارجية الأميركية نحو الابتعاد عن الديبلوماسية التقليدية القائمة على القِيَم وتعتمد على المصالح المشتركة والتحالفات المتعدّدة الأطراف، ليحلّ محلّها نموذج نفعي قائم على المعاملات ويضع المصلحة الذاتية في صدارة أولوياته. وقد شملت المقترحات الأوّلية، على سبيل المثال، إلغاء مكتب الشؤون الأفريقية، وحصر السياسة الأميركية تجاه القارة السمراء في مسائل مكافحة الإرهاب وتأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية الحيوية. وسيؤدّي خفض المساعدات الإنسانية وتمويل الصحّة العالمية والمنظّمات الدولية إلى نفور الحلفاء وتقليص أدوات التأثير المتاحة لصنّاع القرار الأميركيين وإلغاء أكثر جوانب السياسة الخارجية الأميركية شعبيةً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وقد لاقت تبعات بعض هذه الاقتطاعات على اهتمامٍ واسع، لا سيّما تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. ببساطة، من شأن هذه الإجراءات أن تُقوّضَ بعمق القوّة الناعمة التي تتمتّع بها الولايات المتّحدة وأن تفسح المجال أمام خصومها لتوسيع نفوذهم، وأن تزيد من حالة الفوضى والأعمال الإرهابية. والأسوأ من ذلك أنّها قد تُعرّضُ حياة مئات الآلاف من الفلسطينيين والسوريين واليمنيين الضعفاء والمُهَمَّشين للخطر.

ومن بين التبعات الأكثر إشكالية، هو الضرر الذي سيصيب تماسك السياسة الخارجية الأميركية واستمراريّتها، والتي ستصبح أكثر تقلّبًا وتذبذبًا. وسيُضعِفُ تقليصُ عدد موظّفي السلك الديبلوماسي الذاكرة المؤسّسية، بينما ستؤدّي الجهود المبذولة لتقليص الحماية القانونية لموظّفي الخدمة المدنية إلى تراجع استعدادهم للتعبير عن آرائهم والمخاطرة بمسيرتهم المهنية وسمعتهم، ما يجعل عملية صنع القرار متركّزة في أعلى الهرم وأقل خضوعًا للتدقيق. وسيؤول ذلك إلى تراجع الضوابط وضعف التصدّي للسياسات السيئة، مثل إعلان الرئيس ترامب الأخير بأنّ الولايات المتّحدة ستتولّى في نهاية المطاف المسؤولية في غزّة، وهو اقتراحٌ قوبل برفضٍ على نطاقٍ واسع من جانب المراقبين الإقليميين والدوليين من خارج أقصى اليمين الإسرائيلي المتشدّد، باعتباره طرحًا غير واقعي وينتهك قوانين الحرب الراسخة.

لا يزال الأثر النهائي لتقليص الإنفاق في الميزانية غير محسوم. إذ يُعدّ مقترح الإدارة بمثابة الطلقة الأولى في مواجهة طويلة الأمد مع الكونغرس، الذي يمتلك في نهاية المطاف سلطة التحكّم في الإنفاق. إلّا أنّه مؤشّر واضح إلى نيّة إدارة ترامب التراجع عن دور القيادة العالمية التقليدي للولايات المتّحدة والتزاماتها الخارجية، وخصوصًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومناطق أخرى، لصالح تركيزٍ أكبر على قضايا الأمن الداخلي والدفاع. وعلى الرُغم من وجود مؤشّرات على بدء تململ بعض الجمهوريين في الكونغرس من حجم التخفيضات التي تقترحها الإدارة، تتركّز اعتراضاتهم أساسًا على التخفيضات المحلّية التي تمسّ مباشرة مصالح ناخبيهم. وبما أنّ الرئيس يتمتّع تقليديًا بسلطة أوسع في الشؤون الخارجية، فمن غير المرجّح أن يواجه مقترحه معارضة جدّية في مجلسي الشيوخ والنواب.

وعلى الرُغم من حجم المخاطر المترتّبة على هذه التغييرات، فإنّ المكاسب المالية المتوقّعة ضئيلة للغاية. فلو نُفّذَت الاقتطاعات المقترحة بالكامل، لن توفّر سوى 50 سنتًا من كلّ 100 دولار تنفقها الحكومة الفيدرالية. وبهدف تحقيق هذه الوفورات المتواضعة، تُجازفُ إدارة ترامب بتقويض نفوذها الخارجي، وبأن تصبح أقل قدرة على التعامل مع شرق أوسط يزداد اضطرابًا يومًا بعد يوم.

  • روبرت بيشيل هو زميل أوّل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، ومستشار أوّل في شؤون الحوكمة والإدارة العامة في البنك الدولي والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وعدد من شركات الاستشارات الإدارية الرائدة. وهو ينشط في الأعمال البحثية في مجالات الحوكمة وإدارة القطاع العام للتنمية الاقتصادية والسياسة المالية ومكافحة الفساد وغيرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى