لبنان: دورُ البلديات في تَنمِيَةِ المُجتَمَعات المَحَلِّية واللّامركزيّةِ الإدارية
بعدَ دعوةِ وزارة الداخلية اللبناية لإجراء الانتخابات البلدية والاختيارية في شهر أيار (مايو) الحالي، بدأت الاجتماعات والاتصالات في مختلف المدن والبلدات والقرى لتشكيل لوائح مُتجانِسة، واستنفرت الأحزاب السياسية “ماكيناتها” الانتخابية لإثبات وجودها وإيصال مرشحيها إلى مواقع المسؤولية. ومهما يكن حجم “المعارك” التي يخوضها مختلف الفرقاء، يبقى للانتخابات البلدية طابعها العائلي والمحلّي بحيث تسقط على أبواب مقرّات (وبعضها قصور) المجالس البلدية كلُّ النظريات والأفكار السياسية التي يحاول البعض طرحها. في هذه المقالة نحاول إلقاء الضوء على الدور التنموي للبلديات.

الدكتور هيكل الراعي*
إذا كانت الدولة المركزية قد سيطرت خلال القرن العشرين، قرن الحروب الكبرى والمآسي العُظمى، فإنَّ العقدَين الأوَّلين من القرن الحالي حملا توجُّهات جديدة على المستوى الدولي نحو انتشار اللامركزية واللاحصرية والمُشاركة المحلّية في تحديدِ الخيارات وصُنعِ القرارات ومراقبة تنفيذها.
والمفارقة أنه في ظلِّ العَولَمة بكلِّ مضامينها السياسية والاقتصادية والإعلامية، يترسّخُ اتجاهٌ عالمي للتحوُّل من الإدارة الشديدة التَمَركُز إلى الإدارة اللامركزية، ومن الحُكمِ المركزي البيروقراطي الجامد، إلى نظام المشاركة والشفافية والمحاسبة.
واعتمادُ اللامركزية ساهم في إنماء المناطق البعيدة عن العواصم وخصوصًا المناطق الريفية وذلك من خلال قراراتٍ اتخذتها الإداراتُ المحلّية وعلى رأسها البلديات. وهناكَ إجماعٌ على أنَّ البلدية هي المحوَرُ الأساس للّامركزية الإدارية وفي أساسِ مَفهومِ الحُكمِ المحلّي الذي يُعطي المجلس البلدي حرّية تأمين طرق ووسائل التمويل الذاتي، لتنفيذ مشاريع عمرانية واجتماعية واقتصادية وصحّية وثقافية وبيئية بدون الحاجة إلى تصديق السلطة المركزية.
في لبنان، كان على الدولة بعد اتفاق الطائف (23/10/1989) أن تُسرِعَ في تطبيقِ مَبدَإِ اللامركزية الإدارية كأحدِ أبرزِ الأُسُس التي يقوم عليها الإنماء المُتوازِن. وكان على الحكومات التي شُكِّلَت بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني، أن تُنفِّذَ سلسلةَ خطواتٍ مُترابطة تُفضي إلى اللّامركزية الإدارية. وتتمثّلُ هذه الخطوات في:
- أولًا: تعميمُ البلديات على كافة قرى وبلدات ومدن لبنان بحيث لا تُستَثنى بلدة أو قرية من كونها مرعيةً بالعمل البلدي.
- ثانيًا: إنشاءُ الاتحادات البلدية بهدف جمع القدرات التنموية.
- ثالثًا: الشروعُ في إعادة التقسيم الإداري للبنان بحيث ينشأ في كلِّ قضاءٍ مجلس وحدة إدارية يرعى عمل البلديات والاتحادات البلدية ويكون، هو بذاته، مُجسِّدًا لمستوى المشاركة الشعبية في القرار المحلّي، تنمويًا وإداريًا.
عمليًا، أُجريت الانتخابات البلدية أربع مرات منذ اتفاق الطائف ، ولكن من دون أن يتمَّ تعميمُ البلديات على كافة القرى والبلدات، فاستمرّت عشرات القرى محرومةً من حقِّ مُمارسةِ العمل البلدي. كما إنَّ الاتحادات البلدية بقيت موضع تساؤل لجهة عدم تعميمها، وكذلك مشروع اللامركزية الإدارية الذي لا يزالُ موضوعَ خلافٍ بين أصحابِ القرار.
1 – في البلدية وصلاحياتها:
يُعطي قانون البلديات، الصادر بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 118 تاريخ 30 حزيران (يونيو) 1977، في مادته الأولى، تعريفًا للبلدية على الشكل التالي: “البلدية هي إدارة محلية، تقوم، ضمن نطاقها، بممارسة الصلاحيات التي يُخوِّلها إياها القانون. تتمتّع البلدية بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري في نطاق هذا القانون”.
ونصَّ هذا القانون على ضرورةِ تَوَفُّرِ شَرطَين مُتلازِمَين لإبقاءِ بلديةٍ قائمة أو لإنشاءِ بلديةٍ جديدة. الشرطُ الأوّل يتعلّقُ بحجم سكان المدينة أو القرية المُراد إنشاء بلدية فيها، إذ يجب ألّا يكون عدد السكان أقل من 300 نسمة، والشرطُ الثاني يتعلّقُ بتوفُّرِ حدٍّ أدنى من الإيرادات المالية السنوية.
ويتألف جهازُ البلدية من سلطةٍ تقريرية وسلطة تنفيذية (المادة 7). أما السلطة التنفيذية فيتولّاها رئيسُ البلدية يعاونه موظفو البلدية. وحدّدت المادة الرابعة والعشرون من القانون رقم 665 تاريخ 29/12/1997 عدد أعضاء المجلس البلدي وفقًا لحجم السكان، بحيث تراوح هذا العدد بين 9 أعضاء كحدٍّ أدنى للبلدية التي يقلُّ عدد أهاليها المُسجَّلين عن ألفي شخص، و21 عضوًا كحدٍّ أقصى للبلدية التي يزيد عدد سكانها عن 24 ألفًا. باستثناء بلديتي بيروت وطرابلس التي يبلغ عدد أعضاء المجلس البلدي في كلٍّ منهما 24 عضوًا.
وقد حدّدت المادة 47 من قانون البلديات اختصاص المجلس البلدي بـ”كلِّ عملٍ ذي طابع أو منفعة عامة…” كما إنه “للمجلس البلدي أن يُعرِبَ عن توصياته وأمانيه في سائر المواضيع ذات المصلحة البلدية ويُبدي ملاحظاته ومقترحاته في ما يتعلق بالحاجات العامة في النطاق البلدي…”. أما المادتان 49 و50 من هذا القانون فقد حدّدتا صلاحيات المجلس البلدي وأبرزها:
- تخطيطُ الطرق وتقويمها وتوسيعها وإنشاء الحدائق والساحات العامة ووضع التصاميم العائدة للبلدة…
- إنشاءُ الأسواق والمنتزهات وأماكن السباق والملاعب والحمامات والمتاحف والمستشفيات والمستوصفات والملاجئ والمكتبات والمساكن الشعبية والمغاسل والمجارير ومصارف النفايات وأمثالها.
- المساهمة في نفقات المدارس الرسمية وفقًا للأحكام الخاصة بهذه المدارس، والمساهمة في نفقات المشاريع ذات النفع العام.
- تنظيم النقل بأنواعه وتحديد تعرفاته عند الاقتضاء ضمن النطاق البلدي…
- إسعاف المُعوَزين والمُعاقين ومساعدة النوادي والجمعيات وسائر النشاطات الصحّية والاجتماعية والرياضية والثقافية وأمثالها.
- مراقبة النشاطات التربوية وسير العمل في المدارس الرسمية والخاصة وإعداد تقارير إلى المراجع التربوية المختصة.
كما يجوزُ للمجلس البلدي ضمن منطقته أن ينشئ أو يدير بالذات أو بالواسطة أو يسهم أو يساعد في تنفيذ الأعمال والمشاريع الآتية:
- المدارس الرسمية ودور الحضانة والمدارس المهنية.
- المساكن الشعبية والحمامات والمغاسل العمومية والمسابح.
- المستشفيات العمومية والمصحّات والمستوصفات وغير ذلك من المنشآت والمؤسسات الصحية.
- المتاحف والمكتبات العامة ودور التمثيل والسينما والملاهي والأندية والملاعب وغيرها من المحال العمومية والرياضية والمؤسسات الاجتماعية والثقافية و الفنية.
- الأسواق العامة لبيع المأكولات وبرّادات لحفظها وبيادر الغلال.
إنَّ الصلاحيات الممنوحة للبلديات، في إطار القانون، تدلُّ على الأهمية التي أولتها السلطات المركزية للإدارة المحلية سواء في المدن أو في القرى. وقد أسهمت التشريعات في الإطار البلدي التي ظهرت تباعًا منذ العام 1947 في اتّساع المدى الأفقي للخارطة البلدية التي طالت مختلف المناطق اللبنانية، بدون أن يؤدّي ذلك إلى إيجاد ديناميات تنموية محلية تعمُّ كافة المناطق، باستثناء بعضها ولظروفٍ خاصة.
فمنذ العام 1864 (تاريخ تأسيس أول بلدية في دير القمر) وحتى العام 1950 لم يكن في لبنان سوى 163 بلدية منها 94 بلدية في جبل لبنان و27 بلدية في الشمال و 21 بلدية في البقاع؛ أُضيفَ إليها 64 بلدية بين العامين 1950و1960 وحوالي 380 بلدية خلال الستينيات الفائتة تحت تأثير السياسة الشهابية المُرتَكِزة على خطة التنمية التي وضعتها بعثة إيرفد. وقد وصل عدد البلديات في العام 2023 إلى 1059 بلدية، مع أنَّ معطيات وزارة الشؤون البلدية تُشيرُ إلى وجود 1436 قرية وبلدة ومدينة في لبنان. وأسبابُ حرمان هذا العدد من القرى والبلدات من التمثيل البلدي عديدة ولا مجال للخوض فيها. ذلك لأنَّ اعتمادَ عدد السكان المُسَجَّلين لا المُقيمين يَحرُمُ بعضَ القرى التمثيل البلدي. فهناك قرى لديها مجلس بلدي لأنَّ عدد السكان المسجَّلين فيها سمح بذلك، مع أنَّ معظم هؤلاء السكان يقيمون خارج القرية، لا بل خارج لبنان بعض الأحيان، وهناك قرى أخرى ليس لديها مجلس بلدي بسبب قلّة عدد سكانها المسَجَّلين بينما السكان المقيمون فيها يعدّون بالآلاف.
ومن الناحية الجغرافية، فإنَّ القرى المحرومة من التمثيل البلدي متجاورة لدرجةٍ أنها تشكل مع بعضها البعض مساحةً جغرافية واحدة، الأمر الذي يؤدّي إلى حرمان منطقةٍ بأكملها وليس حرمان قرية واحدة فقط. فالقانون البلدي الذي وُضِعَ من أجل إحداث التنمية في المناطق، ومن أجل مواجهة التخلُّف، تحوّل في الوقت ذاته إلى أحد أسباب التخلُّف. هذا مع الإشارة إلى أنه يمكن جمع القرى المحرومة، في إطار بلدية أو أكثر إذا كانت لا تلبّي شروط إنشاء بلدية فيها.
2 – في الدور التنموي للبلدية:
إذا كانت قضية التنمية في لبنان ترتبط بآليات القرار السياسي المركزي، فإنَّ التنمية المحلية، كتجسيدٍ للقرارِ غير المركزي، لم تستطع حتى الآن تشكيل دينامية خاصة بها. فالبلدية كما نلاحظ في تجارب البلدان المتقدمة مُحتَضَنة من قبل الأهالي. ولهذا السبب، يندفع المواطنون لتسديد المُتَوجّبات المالية عليهم، لأنهم يعرفون أن ما يدفعون سيتحوّل إلى مشاريع تنموية يستفيدون منها.
وهناكَ سببٌ آخر لاندفاع المواطنين في المجتمعات المتقدّمة لتأدية واجباتهم الضريبية ويتمثّلُ في أنَّ هذه المجتمعات تستند في تركيبتها المجتمعية إلى “الفرد” كوحدةٍ أساسية، وإلى الديموقراطية كأسلوبِ حُكم، وإلى القانون كمرجعيةٍ ناظمة لعلاقات الناس بعضهم ببعض. من هنا يمكن القول أنه إذا كانت التنمية، كما تُطرَحُ حاليًا، تُركِّزُ على مشاركة الناس في اتخاذِ وتنفيذِ خططٍ تنموية تطال حياتهم الخاصة. وإذا كانت التنمية ترتكز أساسًا على المصادر البشرية، باعتبار أنَّ العنصر البشري هو الشرط الأساس لديمومة التنمية، فإنَّ المعطيات القاعدية السابق ذكرها (الفرد، الحرية، الممارسة الديموقراطية، القانون) تتناسب مع المقاربات التنموية المختلفة.
عندما أُجريت الانتخابات البلدية الأخيرة في لبنان (في العام 2016) استند الخطابُ السياسي العام على أنَّ تفعيلَ العمل البلدي سيؤدّي حتمًا إلى إنماء المناطق، وبالتالي إلى تقليص نسب التفاوت بين المناطق التي عرفت تاريخيًا تركيزًا تنمويًا (بيروت وجبل لبنان) وبين المناطق الخاضعة تاريخيًا لسياسة الحرمان والتهميش. ومن أجل ذلك أكّدت الحكومات المتعاقبة على أنَّ الدولة عازمةٌ على رعاية البلديات. غير أنَّ هذا التأكيد لم يُتَرجَم على أرضِ الواقع، رُغمَ الإفراج عن بعض الأموال المستحقّة للبلديات ودفعها من الصندوق البلدي المستقل. فالمشاكل التي عانت منها البلديات لا تزال تتكرر. وهذا ما يدفع إلى طرح الأسئلة التالية:
ما هي الآليات التنموية التي يمكن للبلديات، خصوصًا الصغرى منها، وضمن الظروف التي أشرنا إليها، أن تعتمدها من أجل إحداث حالة من التغيير والتطوير؟ هل يمكن وفي إطار طبيعة المجتمع المحلي بناء آليات تنموية؟ أو هل يمكن للمؤسّسة البلدية أن “تبتدعَ” نسقًا تنمويًا لذاتها قادرًا على إحداث تغييرات أساسية (اقتصادية واجتماعية) في بنية المجتمع المحلي؟ وهل هناك نموذجٌ لمُمارسةٍ تنموية بلدية؟ أم يجب الاستفادة من التجارب التنموية البلدية المُعاشة التي أحدثت تغييراتٍ في حياة المجتمع المحلّي؟
إذا كان القانون أعطى المجلس البلدي صلاحيات واسعة تبدأ بتأمين النظافة والإنارة وتنتهي بإنشاء وإدارة المستشفيات، فإنَّ الواقعَ يُظهِرُ أن أغلب البلديات، إن لم تكن كلها، لم تستطع القيام بالمهام الموكولة إليها، إما بسبب رفض السلطات المركزية تدخّل السلطات المحلية في شؤون تعتبر أنَّ لها وحدها حق الإشراف عليها، أو بسبب إحجام وزارة المالية والمؤسسات العامة عن إعطاء البلديات حقوقها من الرسوم.
فالإنتشار البلدي الذي شهده لبنان قد تطوّر على قاعدة أزمة عميقة عاشتها البلديات ولا زالت تعيشها حتى اليوم. وإذا كانت الحرب الأهلية والحروب اللاحقة قد أدّت إلى تراجع الدور التنموي للبلديات كمؤسسات السلطة المحلية، وأفسحت المجال أمام قيام اللجان الأهلية بالدور المنوط بهذه البلديات، فإنَّ أسبابًا ذاتية أعاقت وظائف وعمل السلطة البلدية.
وبعد الانتخابات البلدية الأخيرة (2016)، حاولَت بلدياتٌ عدة القيام بالدور التنموي المطلوب منها، غير أنَّ معوّقات كثيرة منعتها ولا تزال تمنعها من ذلك. فالبلديات كلها كانت ولا تزال تواجه مشاكل مالية صعبة لا تخوّلها القيام بأية مشاريع إنمائية. وعلى الرُغم من الوضع المالي المتدهور للبلديات، فإنَّ الدولة لم تدفع المبالغ المُترتّبة عليها لهذه البلديات من الصندوق البلدي المستقل طيلة سنواتٍ عديدة، لا بل أنها كانت تُعطي هذه البلديات سلفات خزينة بفائدةٍ مرتفعة، كما إنها لم تقم بتعديل الرسوم البلدية لتتماشى مع التضخم المالي الحاصل.
إنَّ فاعلية البلديات في التنمية المحلية وفي توفير الخدمات الإنمائية ترتبط، وهي مشروطة، بتوفُّر الإمكانات والطاقات الضرورية لذلك على مستوى الكادر البشري وعلى مستوى التمويل. وغالبية البلديات لم تستطع بناء جهاز إداري كُفُؤ متفرّغ للعمل البلدي، ولم تستطع تملُّك التجهيزات والآليات اللازمة لتأمين الخدمات، كما إنَّ بعضَ المشاريع الإنمائية حتّمت وجود وحدات جغرافية أكبر من حجم القرية أو البلدة لأنها تطالُ أحيانًا القضاء بأكمله (مشاريع معالجة النفايات). من هنا نصَّ قانون البلديات في المادة 114 على تشكيلِ اتحادات بلدية. والهدفُ الرئيس من ذلك هو إيجادُ صيغةٍ للتعاون البلدي تُحقّق نوعًا من التكامل لأدوار بلديات متقاربة جغرافيًا.
ورُغمَ كلِّ ذلك يُمكِنُ استخلاصُ بعض المهام التي يمكن أن تُركّزُ مهمة التنمية المحلية للبلدية خصوصًا في المناطق الريفية. ومن هذه المهمات الخدماتية والإنمائية، والتي تتلاءم مع الواقع المالي والإداري للبلديات الصغيرة الحجم وذات المردود المالي المحدود نسبيًا نذكر: جمع النفايات والسهر على النظافة العامة، تأمين مياه الشرب، إنارة الشوارع، شق وصيانة الطرق الداخلية والأرصفة، إنشاء المسالخ وتنظيمها، إنشاء المستوصفات والمراكز الطبية، إنشاء المكتبات العامة، إنشاء المؤسسات الاجتماعية على اختلافها، حماية البيئة وإقامة الحدائق العامة، مدّ شبكات الصرف الصحي، السهر على الأمن والسلامة العامة، وإقامة الأسواق التجارية.
أما اتحادات البلديات فيمكنها تنفيذ مشاريع إنمائية-إنتاجية، ومنها: التعاونيات على اختلافها وخصوصًا الزراعية والإسكانية والحرفية، مراكز الإرشاد الزراعي، مراكز التدريب المهني، مشاريع تجارية وسياحية في أراضي المشاع وأملاك البلديات، مشاريع اقتصادية صغيرة الحجم لتشجيع ودعم صغار المنتجين مثل المصانع المرتبطة بالزراعة وإنتاج السلع المعدّة للاستهلاك المحلي.
من جهةٍ أخرى، يمكن القول بأنَّ البلديات، وبقدر ما هي سلطات محلية تؤمن الخدمات العامة للمواطنين، وتُعنى بإطار معيشتهم، وتلبي حاجاتهم اليومية، فإنَّ قيامها واستمرارها يعتبر مناسبة لتفعيل مشاركة المواطنين في إدارة الشأن العام، وبالتالي تعزيز الديموقراطية والارتقاء بالحياة السياسية في البلاد. ذلك لأن جوهر الديموقراطية في الدولة وفي المجتمع المدني هو المسؤولية. ومن مبدَإِ المسؤولية تنبثق آليات النظام الديموقراطي وهي، المشاركة (أو تقاسم المسؤولية بين المواطنين)، الانتخاب الحر (أو تفويض المسؤولية من مواطن إلى مواطن آخر أو إلى هيئة أو جماعة) والمُساءلة (أو محاسبة مَن يحمل المسؤولية مباشرة أو عبر التفويض).
إنَّ القوة الحقيقية للديموقراطية تكمن في تفاعل هذه الآليات الثلاث، لأنّ الديموقراطية ليست مجرّد صندوق اقتراع. فالانتخاب يفقد الكثير من أهميته وفاعليته، إذا مورس وحده، ومن دون أن يُقرَن بالمشاركة والمساءلة المتواصلتَين. فالانتخابات البلدية وما يتبعها من مشاركة ومساءلة في إطار قبول رأي الآخر، يمكن أن تُشكّلَ إطارًا للمساعدة على إعادة ترتيب انتماءات المواطن اللبناني بحيث يصبح الانتماء إلى الدولة والوطن هو الأساس قبل الانتماء إلى الطائفة والعائلة والمنطقة والقرية، أو تصبح كل الانتماءات خاضعة للانتماء إلى الدولة، وبالتالي يحدث الفصل داخل الإنسان بين ما هو عام وما هو خاص.
لقد سمحت الانتخابات البلدية في لبنان بمشاركة أوسع لعنصرَي الشباب والنساء مما عبّر عن توجّهات جديدة لدى الرأي العام. ففي الستينيات كان اهتمام الشباب يتركّز على العمل السياسي والوطني أكثر من العمل البلدي، أما المرأة فكانت تَنتخِب، لكنها لم تكن تُنتَخَب. والتغيير الذي حصل لم يكن بالحجم المطلوب، ولكنه يؤسّس لتحولات وآلية تغيير مستقبلية.
باختصار يمكن القول أنَّ للبلديات وظائف رئيسة ثلاث:
- وظيفة التمثيل الديموقراطي وتأمين الممارسة الديموقراطية عبر المشاركة الشعبية في الإطار المحلي.
- وظيفة تأمين الخدمات للمواطنين في نطاق سكنهم وعملهم.
- للبلديات كذلك، وفق إمكاناتها، دور في التنمية على مستوى مناطقها، بحيث يبرز دورها في تنمية المناطق الريفية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
ولتحقيق هذه الوظائف لا بُدَّ للبلديات من أن تحصلَ على صلاحياتٍ واسعة وقدرةٍ على المبادرة والتحرُّك لا تلجمُها كثرةُ القيود والرقابات المعطلِّة والمعيقة.
ويبقى،
إنَّ تنمية المجتمع المحلي تفترض تغييرًا في وضعية هذا المجتمع باتجاه الأفضل، من هنا يرتبطُ مفهومُ تنمية المجتمع المحلي بمفهوم التغيير الاجتماعي. وتنمية المجتمع المحلي هي العملية التي يتم بواسطتها توحيد جهود الناس مع جهود السلطات الحكومية لتحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات المحلية، وتمكين هؤلاء الناس من المشاركة في الجهود المبذولة لتحسين أحوالهم المعيشية، بالاعتماد قدر الإمكان على مبادراتهم الذاتية، وبما يتناسب مع حاجاتهم.
من هنا يمكن القول أنَّ البلدية هي المؤسسة الشرعية والوحيدة التي يمكنها تحقيق التنمية المحلية بما يلبّي حاجات الناس، وذلك من خلال ما منحها القانون من صلاحيات. غير أنَّ أخطرَ ما يواجه البلديات هو ندرة الواردات وضآلة الاعتمادات التي يمكن تخصيصها للقيام بالأعباء المطلوبة وهي كثيرة ومتنوّعة، إضافةً إلى البيروقراطية والرقابة الصارمة والقيود المتنوِّعة التي تطال عملها.
والمفارقة أنَّ الرأي العام يُعلّق آمالًا عريضة على المجالس البلدية التي ستُنتَخب ، ويعتقد أنَّ البلديات قادرةٌ على تلبية حاجات المواطنين والتخفيف عن معاناتهم عبر المساهمة في عملية الإنماء الشامل. وكم ستكون خيبة الأمل كبيرة عندما سيكتشف الرأي العام أنَّ البلديات غير قادرة على القيام، حتى بالحد الأدنى المطلوب منها، بسبب ضعف مواردها المالية وترهّل العمل الإداري فيها.
- الدكتور هيكل الراعي هو باحث وأستاذ جامعي لبناني.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.