تَخَلّي واشنطن المُتَهَوِّر يُقلِقُ اللبنانيين

يُظهر التاريخ الحديث للمسؤولين اللبنانيين أنه يجب عليهم أن يكونوا حذرين جدًا في تعاونهم مع الولايات المتحدة.

وليد جنبلاط: شروط أورتاغوس مستحيلة…

مايكل يونغ*

شهدَ الأسبوع الفائت تبادُلًا غريبًا للآراء على منصّة “X”، المعروفة سابقًا باسم “تويتر”. ردّت المبعوثة الأميركية إلى لبنان، مورغان أورتاغوس، على تغريدة من ديفيد داوود، الزميل البارز في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات، الذي نشر مُلخًّصاً لمقابلة وليد جنبلاط التي أجراها في  الأسبوع الماضي مع قناة العربي الفضائية، ومقرها قطر.

ووفقًا لمُلَخّص داوود، أكد جنبلاط في المقابلة أنَّ “شروطَ أورتاغوس مستحيلة، بما في ذلك ‘استئصال “حزب الله”، ونزع أسلحته. ولكن هل حددت جميع المواقع، وهل هناك استعداد لدعم [الجيش اللبناني] الذي يحتاج إلى أسلحة…'”. ردًّا على داوود، غرّدت أورتاغوس قائلةً: “الكراك هراء يا وليد” (Crack is whack, Walid)، وهو شعارٌ شائعٌ لمكافحة المخدرات. من الصعب فَهم سبب ردّ أورتاغوس بهذه الجرأة على تعليقٍ لم يهاجمها شخصيًا، مُلمّحًا إلى أنَّ تعاطي المخدرات قد شوّش على كلام جنبلاط. عمومًا، ليس دور المبعوثين الأميركيين الدخول في مشاحنات طفولية على مواقع التواصل الاجتماعي مع سياسيين من الدول التي يغطّونها، ولكن هذا، في الواقع، يُمثّلُ حقبةً جديدة غريبة في الديبلوماسية الأميركية.

ردًّا على ذلك، غرّدَ الزعيم الدرزي بلوحة هانز لاروين الشهيرة التي تُصوّرُ موتًا يقفُ خلف جندي خلال الحرب العالمية الأولى، واصفًا أورتاغوس بـ”الأميركية القبيحة”. كان تلميحه أنَّ الأميركيين يحاولون دفع اللبنانيين إلى صراعٍ مسلّح مع “حزب الله”، الذي لن يجلبَ سوى الموت والخراب.

وبغضِّ النظر عن هذا التبادُل الاستثنائي، أثارت هذه الحادثة سؤالًا مهمًا حول العلاقات الأميركية-اللبنانية. فمنذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عندما فرضت الولايات المتحدة اتفاقية استسلام على “حزب الله”، أصبح الأميركيون الرجل القوي الجديد في البلاد. على الجانب اللبناني، التزم الرئيس الجديد، العماد جوزيف عون، ورئيس الوزراء، نواف سلام، بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي يدعو إلى نزع سلاح “حزب الله” جنوب نهر الليطاني.

وتفيدُ الأنباء الواردة من بيروت إلى واشنطن بأنَّ أورتاغوس غير راضية عن وتيرة عملية نزع السلاح، حتى لو سعت السلطات اللبنانية رسميًا إلى التأكيد على إعجابها بنشر القوات المسلحة اللبنانية في الجنوب خلال زيارتها الأخيرة. ويبدو أنَّ تصريحات جنبلاط تؤكد تفسيرًا أكثر تحفُّظًا للمزاج الأميركي. ولكن قد تستفيد أورتاغوس من قراءة تاريخ لبنان منذ العام 1982، وهو العام الذي وُلِدَت فيه، لفَهم سبب تردّد اللبنانيين في الثقة بالأميركيين عندما يتعلّقُ الأمرُ بعلاقات الدولة مع “حزب الله”.

في صيف العام 1982، غزا الإسرائيليون لبنان لطرد منظمة التحرير الفلسطينية منه. تفاوضَ الأميركيون، مُمَثَّلين بالديبلوماسي المتقاعد فيليب حبيب، على انسحابٍ فلسطيني، ما أدّى في النهاية إلى انتخاب أمين الجميل رئيسًا للجمهورية (بعد أن اغتال السوريون الرئيس المنتخب، بشير شقيق أمين). رعى الأميركيون مفاوضاتٍ لاتفاقية انسحاب لبنانية-إسرائيلية، وهو مشروعٌ أيده جورج شولتز، وزير الخارجية الأميركي آنذاك. إلّا أنَّ الاتفاقية، التي تمَّ التوصُّلُ إليها في 17 أيار (مايو) 1983، كانت في الواقع اتفاقية سلام، مما أثار عداءً سوريًا كبيرًا. كانت رغبة شولتز في تنفيذها أحد أسباب تمكّنه من إطالة أمد الوجود العسكري الأميركي في لبنان، ضمن قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات، وسط معارضة متزايدة في واشنطن.

كان خصم شولتز في هذه المسألة هو وزير الدفاع آنذاك، كاسبار واينبرغر، الذي كان أكثر حذرًا بشأن الوجود العسكري الأميركي. في النهاية، ثبتت صحة توقعات واينبرغر عندما خسر الأميركيون 241 جنديًا في تفجير انتحاري قرب مطار بيروت، ولم تُصادق الحكومة اللبنانية على اتفاقية 17 أيار (مايو). في غضون ذلك، شجّعَ الأميركيون الحكومة اللبنانية على بسط سلطتها على جميع أنحاء البلاد، مما أدى إلى اشتباكاتٍ بين الجيش والميليشيات الشيعية والدرزية المتحالفة مع سوريا. بحلول كانون الثاني (يناير) 1984، كان الجيش في حالةِ حربٍ مع جُزءٍ من سكانه، وكان يقصف الضاحية الجنوبية لبيروت. بعد انتفاضة الميليشيات الشيعية ضد حكومة الجميل في 6 شباط (فبراير) 1984، “أعاد الأميركيون نشر قواتهم إلى سفن قبالة الساحل”، وهي طريقة لطيفة للقول إنهم كانوا يقطعون الطريق ويهربون. وبينما صوّرت إدارة رونالد ريغان هذا على أنه صمود، إلّا أنها أنهت المهمة الأميركية في لبنان بحلول نهاية آذار (مارس).

ومنذ ذلك الحين، اعتبرت أميركا تجربتها الفاشلة في لبنان هزيمةً موجعة، ولأكثر من عقدين من الزمن تجاهلت البلاد تمامًا. عندما غزت قوات صدام حسين الكويت في آب (أغسطس) 1990، سمح الأميركيون للقوات السورية بانتهاك اتفاقية “الخطوط الحمراء” لعام 1976 واستخدام طائراتهم لإطاحة ميشال عون، رئيس الحكومة العسكرية اللبنانية آنذاك الذي كان معارضًا لسوريا. وقد فعلوا ذلك سعيًا منهم إلى الحصول على دعمٍ عسكري سوري لعملية كبرى لتحرير الكويت. في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990، اجتاح السوريون مناطق عون، مُعَزِّزين بذلك قبضة دمشق الخانقة على لبنان حتى الانسحاب السوري في العام 2005.

ظهرت العواقب الوخيمة في نيسان (أبريل) 1996، عندما شنّت إسرائيل عملية “عناقيد الغضب” في لبنان ضد “حزب الله”. لم يسافر وزير الخارجية الأميركي آنذاك، وارن كريستوفر، إلى بيروت، بل إلى دمشق للتفاوض على حلٍّ مع الرئيس السوري حافظ الأسد. تم تهميش المسؤولين اللبنانيين، على الرُغم من أنَّ الاتفاقَ الذي تمَّ التوصُّلُ إليه في العاصمة السورية كانت له تداعياتٌ عميقة على بلدهم. ما نتجَ عن ذلك هو ما يسمى بتفاهُم نيسان (أبريل)، الذي أرسى “قواعد اللعبة” في الجنوب، واضعًا “حزب الله” على قدم المساواة مع الإسرائيليين، على حساب الدولة اللبنانية. عندما يلقي المسؤولون الأميركيون اليوم باللوم على اللبنانيين لإضفاء الشرعية على “حزب الله”، فإنهم ينسون بسهولة أنهم هم الذين فعلوا ذلك أوّلًا عندما أيدوا اتفاقًا بعيد المدى في العام 1996.

من المنظور اللبناني، كانت الدروس المستفادة بعد العام 1982 واضحة. أوّلًا، لن يتردّدَ الأميركيون في جرّ اللبنانيين إلى صراعٍ داخلي سعيًا وراء أهدافٍ أميركية وإسرائيلية مُفَضَّلة، ثم يتخلّون عنهم عندما تسوء الأمور. ثانيًا، ستستخدم واشنطن لبنان بسهولة كورقة مساومة عندما يُحقّقُ ذلك مكاسب قيّمة، كما فعلت في أواخر العام 1990. وأخيرًا، سيعقد الأميركيون صفقات سرية من وراء ظهر لبنان، لا تؤدّي إلّا إلى تقويض سيادته، أو ما يُعتبر سيادة، قبل تحميل اللبنانيين مسؤولية العواقب، كما اتضح من موافقة كريستوفر على تفاهُم نيسان (أبريل).

لذا، لا يحتاجُ المرءُ اليوم إلى أن يكونَ مُدمِنُ مخدرات ليُدرِك أنَّ الثقة بالأميركيين غالبًا ما تكون فكرة سيئة. ويزداد الأمر صدقًا عندما تأتي ممثلة الولايات المتحدة إلى بيروت وتُقدّم تصريحاتها بشكر إسرائيل على هزيمتها “حزب الله”، غافلةً عن حقيقةٍ أنَّ الإسرائيليين قتلوا آلاف المدنيين اللبنانيين ودمروا جُزءًا كبيرًا من البلاد. علاوةً على ذلك، يرى المسؤولون في بيروت بوضوح أنَّ الأميركيين سمحوا لإسرائيل بانتهاك اتفاق وقف إطلاق النار الذي تفاوضت عليه واشنطن نفسها. وبما أننا نستخدم مصطلحات مخدرات هنا، فربما تكون الرسالة الحقيقية هي أنَّ اللبنانيين لا يريدون ببساطة أن يتعاطوا منتجًا سيِّئًا.

  • مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى