قال المُرشِد “لن نُفاوِض”

محمّد قوّاص*

استدعت واشنطن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو. حاول على سلّمِ الطائرة التي أقلّته إلى واشنطن أن يُحَوِّلَ باسمًا الاستدعاءَ إلى بشارة لم يحظَ بها زعيمٌ قبله للحديث بشأن الرسوم الجمركية. وقبل وصوله إلى الاجتماع العتيد، كانَ البيتُ الأبيض أعلنَ عن إلغاءِ المؤتمر الصحافي التقليدي المُشتَرك، وسط ذهولِ الوفد الإسرائيلي المُرافِق.
لم يستطع نتنياهو عند باب الدخول إلى البيت الأبيض إلى جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يخفي اضطرابه، وهو الذي يملك من الدهاء والحنكة ما أمكنه إخفاءَ محنٍ ومآزق. لم يُصَدِّق أحدٌ ما زعمه بشأن قضية الرسوم الجمركية التي يُمكِنُ مُناقشتها هاتفيًا ولا تستدعي استدعاءً على هذا النمط وهذه السرعة. وحين دخل اجتماعًا حضره أركان الإدارة الأساسيين عرفَ أنَّ الأمرَ جَلَلٌ.
لم تَكُن إيران مُتفاجِئة. كانَ التواصُلُ على أشَدِّهِ بين واشنطن وطهران سواء عبر رسالة ترامب إلى المرشد علي خامنئي أو عبر ردّ إيران عليها. وعلى ضفاف تلك الرسائل تكثّفت قنواتُ تَواصُلٍ في مسقط رسمت سيناريو المفاوضات.
يوم وصول رسالة ترامب في 12 آذار (مارس) الماضي وقبل أن يتسلّمها، قال خامنئي: “لن نُفاوِض”. في 27 من الشهر عينه قال وزير الخارجية،عباس عراقجي: “قبلنا التفاوُض”. الإثنين الفائت أعلن ترامب أنَّ المفاوضات ستكونُ “مباشرة” وعلى مستوى عال. في اليوم التالي أكّدت طهران هذا “القدر” وإن خرجت فتاوى ديبلوماسية تُقسِمُ أنَّ المفاوضات ستبدأ غير مباشرة قبل أن تُصبِحَ مباشرة. كانت واشنطن هدّدت باحتمالاتٍ عسكرية ضد إيران. قالت روسيا لن ندعم إيران عسكريًا، فيما الصين لم تفكّر في مناقشة الاحتمال.
في إسرائيل تحدّثت الصحف عن مهانةٍ لنتنياهو. راقبت المقالات آلية الاستدعاء ولغة الجسد التي قابل بها ترامب ضيفة مرورًا بوضعه أمامَ أمرٍ واقع فَرَضَ صمته وعدم الجرأة على التعليق على شأنٍ تمَّ إقراره ولم يَستطِع التأثير فيه. كان نتنياهو يقفُ وراء اقناع ترامب بالانسحاب من الاتفاق مع إيران في العام 2018. بدا هذه المرة أنه قد فقد مواهبه وخارت قواه.
ومع ذلك فإنَّ ترامب ألقى بقنبلته المُفاجِئة مُتَقَصِّدا أن تكونَ بحضورِ نتنياهو. فمن جهة بدا الضيفُ عصا يُلوِّحُ بها لإيران وتبقى شريكة في بناءِ اتفاقٍ جديد مع إيران يريده ترامب “أقوى”. ومن جهة ثانية يؤكّد لهذا الشريك أنَّ اليدَ العُليا هي للولايات المتحدة في هذا الملف ويتقرّرُ من دون “جوائز ترضية” كان نتنياهو يمنّ النفس بها، وربما يَعِدُ بها، في ملف الرسوم الجمركية. بدا ترامب ناهرًا مُستَهجِنًا أن يمنحَ إسرائيل هذا الاستثناء وهي التي “نمنحها 4 مليارات دولار كل عام”.
ادّعى نتنياهو الاستسلامَ لحلٍّ “سلمي”. أملَ أن يكون وفق سابقة ليبيا في العام 2003 حين تمّ تفكيك برنامجها النووي عبر اتفاق. كان مايكل والتز، مستشار الأمن القومي الأميركي، قد استخدم عبارة “تفكيك” من دون أن يستعينَ بالذاكرة الليبية. لكن نتنياهو تقصّدَ تلك الواقعة ربما لتذكير الإيرانيين أنفسهم ما حلّ بنظام معمر القذافي بعد 8 أعوام.
يُرسِلُ ترامب لرئاسة الوفد المُفاوِض صديقًا. هكذا يُعرّفُ ستيفن ويتكوف، مبعوث الرئيس إلى الشرق الأوسط، نفسه. بمعنى أنَّ ترامب، حين تحدّثَ عن مفاوضاتٍ على “أعلى مستوى”، يُرسِلُ مَن يُمثّلهُ شخصيًا وليس مَن يُمثّل الإدارة. يُمسك ويتكوف القادم من عالم العقارات ملف الحرب في غزّة وملف الحرب في أوكرانيا والعلاقة مع روسيا وملف المفاوضات مع إيران. ولئن يملك الرجل وجهًا سموحًا ولهجةَ ودٍّ واعتدال، غير أنه ترامبي العقيدة والهوى.
في 22 من الشهر الماضي، أي بعد 10 أيام على وصول رسالة ترامب إلى طهران، قدّمَ ويتكوف تفسيرًا لما يريده الرئيس. قال إنَّ ترامب لم يقصد تهديدًا في رسالته إلى طهران، وأنَّ الولايات المتحدة لا تُريدُ اللجوءَ إلى القوة مع إيران. أضاف بخبث وسادية أنَّ “إسرائيل دمّرت القدرات الدفاعية لإيران… هم معرَّضون للهجوم… هم بلد صغير بالمقارنة معنا… إذا استعملنا القوة معهم فهذا سيكون سيئًا جدًا لهم وهذا ليس تهديدًا، أنا لا أهدّد أحدًا”.
أعادَ ترامب برفقة نتنياهو كلامًا من هذا القبيل. كانت طهران أرسلت قبلها إشاراتَ تراجُعٍ يُشبه الانهيار. مرة في إعلانِ “مسؤولٍ” في طهران لصحيفة “تِلِغراف” البريطانية عن وقف دعم طهران لجماعة الحوثي وسحب القوات الإيرانية من اليمن. ومرةً عبر إعلانِ “مسؤولين” في فصائل عراقية موالية لإيران عن قربِ التوصُّلِ لصيغةٍ مع حكومة محمد شيّاع السوداني لتسليم السلاح. عشية الحدث كانت نائبة ويتكوف، مورغان أورتاغوس، تقول في بيروت إنَّ “حزب الله” في لبنان “ورمٌ سرطاني يجب اجتثاثه”.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى