هل توطّدُ رئاسة ترامب العلاقات بين الإتحاد الأوروبي ودول الخليج العربية؟
قد يدفع خروج الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب من التحالفات شركاء واشنطن إلى تقارب للتعامل مع القضايا ذات الأهمّية المُشتركة في الشرق الأوسط.

نورة شعيبي*
يثير وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لولايةٍ ثانية تساؤلات مهمّة بالنسبة إلى الشرق الأوسط. فقد تولّى ترامب منصبه بعد أيّام قليلة من التوصّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار ينهي حرب كارثية دامت 15 شهرًا بين إسرائيل و”حماس” في غزة، وكادت أن تجرّ المنطقة بأكملها إلى حربٍ شاملة. وحاليًا يبدو أنّ الرئيس الأميركي مستعدٌّ لمواصلة سياسة “أميركا أوّلًا”، والاستمرار في نهج ديبلوماسية الصفقات، وتقليص مشاركة الولايات المتّحدة في المؤسّسات والمعاهدات المتعدّدة الأطراف أو الانسحاب منها بالكامل. والواقع أنّ تركيز ترامب على إعطاء الأولوية للمصالح الأميركية بشكلٍ أحادي فوق كل التحالفات قد يُعطي حافزًا أكبر لشركاء الولايات المتّحدة المُقرّبين مثل الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، للتقرّب أكثر والعمل معًا لمعالجة القضايا ذات الاهتمام المشترك.
اعتمدت الدول الخليجية تقليديًا وبشكلٍ كبير على الدعم العسكري والديبلوماسي الأميركي. ومع ذلك، تزايدَ انخراطُ الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط وعزّز الديبلوماسية المتعدّدة الأطراف والاستقرار الإقليمي. وفي الوقت نفسه، سعت دول مجلس التعاون الخليجي إلى إعادة التوازن إلى علاقاتها مع القوى الكبرى الأخرى، مثل الصين وروسيا، فضلًا عن متابعة مبادراتها الخاصة لمعالجة القضايا الإقليمية.
تُعدّ القمّة الأوروبية الخليجية التي عُقدت في بروكسل في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي واحدة من هذه المبادرات، وقد أكّدت على الالتزام المُتجدّد بإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط. وفي حين يستند هذا الالتزام إلى مبادرة أُطلِقت منذ عقدين –مبادرة السلام العربية المدعومة من الرياض– تعكسُ إعادة إطلاقها حَزمًا أكبر من المملكة العربية السعودية تحت قيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. تعمل الرياض بشكل استباقي على تشكيل سياسة إقليمية تُرسّخُ دورها كقائدة في الديبلوماسية ومهندسة لنظام جديد في الشرق الأوسط. ومن خلال معالجة قضايا التطبيع مع إسرائيل وضمانات الأمن الشاملة، تتطرّق المبادرة أيضًا إلى الحقائق الجيوسياسية لعالمٍ مُتعدّد الأقطاب تزداد فيه أهمّية القوى العالمية مثل الصين والاتحاد الأوروبي.
وتعكس هذه القمّة والتحالف العالمي لتنفيذ حلّ الدولتين تصميمًا أكبر من الدول العربية لمعالجة أزمات المنطقة، بما في ذلك القضية الإسرائيلية-الفلسطينية وتخفيف مخاطر الصراع الإقليمي القديم. ومع تقديم المملكة العربية السعودية نفسها كوسيط إقليمي قوي في هذه القضايا، يشير تعاونها مع الاتحاد الأوروبي إلى إعادة ترتيب التحالفات في الشرق الأوسط، ما قد يُقلّلُ من اعتماد الدول الخليجية على الولايات المتّحدة باعتبارها القوّة الخارجية المهيمنة في المنطقة.
تُضيفُ عودة ترامب إلى البيت الأبيض تعقيدًا إلى الحسابات الجيوسياسية. ففي خلال فترة ولايته الأولى، طبّق ترامب سياسة خارجية تركّز على العلاقات الثنائية أتت غالبًا على حساب التحالفات التقليدية والاتفاقيات المتعدّدة الأطراف. وفي الشرق الأوسط، تُرجِمَت هذه السياسة تركيزًا كبيرًا على صفقات الأسلحة مع السعودية، وصفقات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل بموجب اتفاقيات أبراهام، فضلًا عن المزيد من التعاون الاقتصادي.
ومع ذلك، يبدو أنّ نهجَ ترامب الانعزالي وسياسة “أميركا أوّلًا” سيخلقان تحدّيات مع الكتل الإقليمية والمؤسّسات المتعدّدة الأطراف، إذ يعكس انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني في العام 2018، وشكوكه تجاه حلف شمال الأطلسي محاولات أوسع نطاقاً لفكّ الارتباط العالمي. وحتى الآن، سحب ترامب بلاده من منظّمة الصحّة العالمية واتفاقية باريس للمناخ، كما جمّد معظم المساعدات الأميركية في الخارج، وفرض رسومًا جمركية على حلفاء رئيسيين للولايات المتّحدة. وإذا استمرّ هذا النهج في ولايته الثانية، فقد ترى المملكة العربية السعودية في تراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط فرصة لتأكيد استقلالها. وقد تكون جهود السلام التي تقودها السعودية إحدى طرق الرياض لسدّ الفراغ الذي قد يخلّفه تراجع واشنطن عن القيادة العالمية.
في الوقت نفسه، قد يؤدّي منطق الصفقات الترامبي إلى تعقيد العلاقات الأميركية-السعودية. وفي حين تتقاسم واشنطن والرياض مصالح إستراتيجية، قد يطالب ترامب بمزيد من الأرباح المباشرة لقاء الدعم الأميركي، سواء في شكل تنازلات اقتصادية أو التوافق مع أولويات السياسة الخارجية الأميركية. وإذا رأت الرياض أنّ مطالب واشنطن صارمة، فقد تلجأ إلى شركاء بديلين للتقدّم بأجندتها الخاصة.
وقد يتيح ذلك للاتحاد الأوروبي فرصة لتأدية دور أكبر في الديبلوماسية الإقليمية بالشراكة مع مجلس التعاون الخليجي. يمكن للاتحاد الأوروبي أن يغتنمَ الفرصة ويُعيد التوافق مع الجوانب المتعدّدة الأطراف لمبادرة السلام العربية، ولا سيما بعد بروز وجهات نظر متباينة بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. لطالما دعمت الدول الأوروبية حلّ الدولتين لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وانتقدت تاريخيًا توسّع المستوطنات الإسرائيلية في الضفّة الغربية. وتتمتّع كذلك بنفوذٍ اقتصادي كبير على إسرائيل، كما أعربت عن دعمها القوي لاستقرار اليمن والمنطقة ككلّ. بالإضافة إلى ذلك، إنّ اهتمام أوروبا بتقليص اعتمادها على الطاقة من مصادر خارجية ولاسيما روسيا، يجعلها شريكًا طبيعيًا للدول الخليجية التي تسعى إلى توسيع نفوذها الاقتصادي والديبلوماسي.
وقد تؤدّي هذه العلاقات المتطوّرة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي إلى تهميش دور الولايات المتّحدة في مناقشات محدّدة عبر قنواتٍ مُتعدّدة الأطراف، ما قد يقلّل من نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط ويبني جسورًا بالتزامات الاتحاد الأوروبي تجاه المنطقة. وقد تشير استجابة الاتحاد الأوروبي لمبادرة السلام، التي تقودها الدول العربية، إلى التزامٍ جوهري ودورٍ مُتَطوّر في الديبلوماسية الشرق أوسطية يسمح لأوروبا بتقديم نفسها كقوّة موازنة للسياسات الأميركية.
وإذا حصلت المبادرة على الدعم الكافي، فقد يكون لها تأثيرٌ بعيد المدى على استقرار الشرق الأوسط والجيوسياسية العالمية. وبإعطاء الأولوية لحلّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني واقتراح إطار أمني إقليمي قوي، تهدف المملكة العربية السعودية إلى معالجة بعض الأسباب الجذرية للاضطرابات في المنطقة. وفي حال نجحت، لن يعزّز الأمر موقف الرياض كقوّة إقليمية فحسب، بل سيقدّم أيضاً نموذجًا لإحقاق السلام مع دول أخرى.
ومع ذلك، لن يكون الطريق خاليًا من التحدّيات. فقد يثير النهج الحازم للمملكة العربية السعودية مقاومة إيران، التي تهدّد نفوذها الإقليمي بعد سلسلة الضربات التي تلقّتها في أعقاب السابع من تشرين الأول (أكتوبر). وعلى نحوٍ مُماثل، قد يكون من الصعب تحقيق الإجماع بين دول مجلس التعاون الخليجي المُتباينة في الأولويات. وسيعتمد نجاح المبادرة على قدرة الرياض على موازنة هذه الديناميات بالتوازي مع تأمين الدعم من القوى العالمية.
أضف إلى ذلك أنّ الاتحاد الأوروبي لا يخلو من الانقسامات. فقد أظهر أعضاء الكتلة أولويات متضاربة في الكثير من القضايا، بما فيها السياسات المتعلّقة بالهجرة واللاجئين، والدفاع والأمن، والاستجابة للحرب بين روسيا وأوكرانيا.
الحزم الإقليمي
تدفع الحملة الديبلوماسية التي تقودها السعودية قُدُمًا نحو تحقيق الاستقرار الإقليمي باعتباره أولوية تتطلّب من الحكومات العربية المبادرة والقيادة والتنفيذ. ويستلزم الأمرُ تفكيرًا جدّيًا، حتى في جدوى حلّ الدولتين لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني حيث تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية، وكذلك في التسويات السياسية لمعالجة الأزمات الأوسع نطاقًا، مثل الوضع في لبنان، لتحقيق الاستقرار الإقليمي.
ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، قد تكتسبُ العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي فرصًا وتواجه تحدّيات. وبعدما كانت الولايات المتّحدة تقليديًا القوة المهيمنة في المنطقة، أشارت دول مجلس التعاون الخليجي إلى استعدادٍ متزايد للانخراط مع شركاء آخرين. وهذا لن يتحدّى وجود الولايات المتّحدة فحسب، بل قد يُسفِرُ أيضًا عن تأدية قوى أخرى مثل الصين وروسيا أدوارًا أكثر أهمّية.
يُمثّلُ إطار السلام الذي تقوده الدول العربية رؤية طموحة للشرق الأوسط ويعكس اهتمام الرياض بالقيادة بدلًا من التبعية. أمّا بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فهو يشكّل فرصةً لتعميق مشاركته في الديبلوماسية في الشرق الأوسط وتعزيز أهدافه في مجال أمن الطاقة والاستقرار الإقليمي، ويسمح للكتلة بتقديم نفسها كبديل يملأ الفراغ الذي قد تتركه الولايات المتّحدة من حيث الضمانات لبناء القدرات ومفاوضات السلام وغيرها من الحاجات الاقتصادية والإستراتيجية. وبالنسبة إلى واشنطن، يكمن التحدّي في التكيّف مع المملكة العربية السعودية الأكثر حزمًا، وغيرها من القوى الإقليمية التي تسعى إلى بناء تحالفات وتعاونات في مناطق أخرى. وفي النهاية، سيعتمد نجاح هذه الجهود على استعداد جميع الأطراف للتعاون للانتقال إلى فصلٍ جديد في المنطقة لا تتحكّم قوة واحدة بكل أوراقه.
- نورة شعيبي هي أستاذة مساعدة في العلوم السياسية في جامعة الكويت.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.