“ريفييرا” ترامب في غزَة: الحَلُّ العقاري

محمّد قوّاص*

تُتَرجِمُ الولايات المتحدة حدثَ “طوفان الأقصى” بقرارِ “الاستيلاء” على قطاع غزّة. يُعلنُ الرئيسُ الأميركي، دونالد ترامب، الأمرَ بصفته “الحلّ النهائي” لصراعٍ في الشرق الأوسط لم يجرؤ أيُّ رئيسٍ قبله تخيّل سيناريوهاته. يستندُ الرجلُ على فائضِ قوة ليُبلغ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، والفلسطينيين والعالم من خلفهم، أنَّ قطاعَ غزّة باتَ شأنًا أميركيًا يُضافُ إلى خططه للاستيلاء على جزيرة غرينلاند وقناة بَنَما، وحتى كندا المجاورة.
يُخرِجُ ترامب هذا الأرنب من قبّعته مُتَجَرِّئًا على “صفقة القرن” في نسخة ولايته الأولى. الإعلان، الذي ذكّر الفلسطينيين بإعلان بلفور البريطاني في العام 2017، يدفنُ ضمنًا “حلّ الدولتين” ويدفعُ بكافةِ أطرافِ الصراع، إضافةً إلى دول المنطقة والعالم، إلى طيّ صفحة من تاريخ الشرق الأوسط والاستسلام إلى ظهور “ريفييرا” جديدة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ينزعُ ترامب في لحظةٍ واحدة مُلكية غزّة من الفلسطينيين ويَعِدُ بإعطاءِ رأيٍ نهائي بشأن دعم سيادة إسرائيل على الضفة الغربية خلال أسابيع.
يُوزّعُ الرئيس الأميركي مهام “ورشة” غزّة على بلدان المنطقة ابتداءً من رغبته في رؤية مصر والأردن تستقبلان بعضًا من أهل القطاع. أعاد ترامب تأكيد “فَرَمانٍ” أصدره وسبق لعمّان والقاهرة رفضه بدعمٍ من بيانٍ صادرٍ عن 6 وزراء خارجية عرب اجتمعوا في القاهرة يرفضُ بالمبدَإِ إخراج الفلسطينيين من أرضهم. يكادُ ترامب في حضور “صديقه” نتنياهو لا يسمع إلّا نفسه، ويتعامل مع أعقد “قضية” في الشرق الأوسط والعالم كتعامُله مع مشاريع عقارية جعلته من أثرياء أميركا ورئيسًا لها للمرة الثانية.
وحين يستخدم ترامب تعبير ” Take Over”، أي السيطرة أو الاستيلاء على غزّة، فهذا يعني أنَّ الأمرَ يتطلّبُ تدخُّلًا عسكريًا لطالما وَعَدَ بالتوقُّفِ عنه أثناء حملته الانتخابية. فواشنطن التي سحبت قواتها من أفغانستان بشكلٍ مُهين، وتُخطّطُ للانسحاب من العراق، ناهيك عن نزوع ترامب نفسه للانسحاب من سوريا، تعودُ إلى الشرق الأوسط من جديد لتستولي على قطعةٍ من أرضِ “دولة فلسطين” الموعودة. ولا شيءَ في تجارب الوجود العسكري في أيِّ مكانٍ في العالم، ابتداءً من فيتنام مرورًا بلبنان وأفغانستان والعراق، يوحي بأنَّ القوات الأميركية لن تدخل في وحولٍ دموية جديدة.
لم تنجح الولايات المتحدة في تحقيق الجنّات الديموقراطية التي وعدت بها لتبرير تدخّلاتها العسكرية في هذه الدولة أو تلك. “أعادت” أفغانستان إلى حركة طالبان من دون أن تنجح في تفكيك البنى المجتمعية والسياسية العصيّة على تغيير في النظام السياسي في البلاد. بدا أن مشروع السلم الأميركي انتهى وربما تحقّق بانسحاب القوات الأميركية من هذا البلد. ولئن أخفقت واشنطن ما بين حُكمٍ ديموقراطي وجمهوري في فرض “الحلم الأميركي” خارج أميركا، فإنَّ لا شيءَ يضمن تنفيذ “ريفييرا” في الشرق الأوسط.
قد تكون حرب 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 قد غيّرت وما زالت تُغيّرُ وجه الشرق الأوسط، على حدِّ ما كرّره نتنياهو أمام ترامب في البيت الأبيض. والأرجّح أنَّ الرئيس الأميركي قد أخذ علمًا بالنتائج العسكرية لتلك الحرب في جبهاتها في غزّة والضفة الغربية واليمن ولبنان وسوريا وإيران. لكن لا شيءَ يشي بأنَّ ترامب بنى مشروعه المُفاجئ في غزّة على مُعطيّاتٍ دقيقة لمؤسّسات الأمن والدفاع والسياسة والخارجية في بلاده. لا يُدركُ حتى الآن أنه يعبث في الشرق الأوسط، ويُعلِنُ استيلاءً على جُزء من منطقةٍ لها تاريخ يعود إلى ما قبل ولادة أميركا، وأنَّ هذا العبث سيلقى صدًّا حتميًا من قبل بلدان المنطقة، عربًا وأتراكًا وإيرانيين، يُعيدُ توحيد مواقفها. فمن يرتكب سابقة “استيلاء” في جُزءٍ يسهلُ عليه إعادة الكرة في أجزاءٍ أُخرى.
لم تتأخّر السعودية، التي يطمحُ الرئيس الأميركي إلى إبرامها اتفاق تطبيع مع إسرائيل في عهده، في إصدارِ موقفٍ يؤكد على ثوابت المملكة في إقامة دولة فلسطينية لإنهاء الصراع. ولا شكَّ أنَّ المواقف ستتدافع في المنطقة بهذا الاتجاه اتّساقًا مع المبادرة العربية التي صدرت عن قمّة بيروت العربية في العام 2002، والتي تربط السلم في المنطقة بإقامة هذه الدولة. تدعم هذا التوجه أكثرية دول العالم، بما فيها أوروبا وتلك الحليفة للولايات المتحدة في العالم.
يفرضُ ترامب على المنطقة والعالم تحدّيًا أميركيًا. يستبدلُ الحلَّ السياسي بالحلِّ العقاري. يستدرجُ الرجل ردود الفعل على قراراتٍ سبق أن اختبرها حين أعلن اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لإسرائيل وبسيادة إسرائيل على الجولان. يقرر في اللحظة نفسها الانسحاب من هيئات تابعة للأمم المتحدة يعتبرها مُعادية للسامية. يُكملُ الرئيس الأميركي المرحلة الجديدة من حرب “طوفان الأقصى” بتوقٍ لرسم خرائط ومفاهيم وموازين قوى في المنطقة. يقولُ ترامب قوله هذا ويُديرُ ظهره، كما يفعل دائمًا حين يُغادرُ مهرجاناته الانتخابية ليتولّى فريقه لاحقًا الإطلاع على نتائح ذلك القول في استطلاعات الرأي ومؤشّرات شعبيته.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى