الطريقةُ الصحيحة للتَعامُلِ مع حُكّامِ سوريا الجُدُد

ينبغي على الدول الأجنبية أن تكون حذرة في مكافأة الحكومة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” في سوريا. ويتعيَّن عليها أن تمتنعَ عن الإيماءات الرمزية حتى تُحقّق الإدارة الجديدة تقدّمًا نحو الحكم الشامل، مثل حماية الأقليات.

وزيرا خارجية تركيا وسوريا هاكان فيدان وأسعد حسن الشيباني: أنقرة سيكون لها دورٌ مؤثّر في تشكيل مستقبل سوريا.

نفيس حامد، ونيلز مالوك، وبرودريك ماكدونالد، ورهف الدغلي*

في كانون الأول (ديسمبر) 2024، أطاحت حفنةٌ من الجماعات المتمرّدة بقيادة “هيئة تحرير الشام” بالدِكتاتورية الوحشية التي حكمت سوريا على مدى خمسة عقود، وأقامت إدارةً مؤقتة. والآن، تُحاولُ الدول الأجنبية توجيه قادة الأمر الواقع الجُدُد في سوريا نحو حكومةٍ شمولية خالية من الانتقام الطائفي وبعيدة من أشكال الإسلام المتطرِّفة. وقد أيَّد رئيس “هيئة تحرير الشام” ورئيس الجمهورية للفترة الإنتقالية في سوريا، أحمد الشرع، الذي كان يُعرف سابقًا باسم أبو محمد الجولاني، هذه الرؤية علنًا. لكنَّ الكثيرين من المراقبين ما زالوا مُتشكِّكين في وعوده بتقاسُم السلطة لأنَّ “هيئة تحرير الشام” بدأت كجماعةٍ تابعة لتنظيم “القاعدة”، وقد صنّفها العديد من الحكومات الغربية كمنظمةٍ إرهابية.

إنَّ مساعدة سوريا على كسر دائرة العنف والقمع تتطلّبُ فَهمَ الكيفية التي يَنظُرُ بها أعضاء “هيئة تحرير الشام” والمتمرّدون الآخرون إلى الصراع وما يُحفّزهم. لقد أجرينا استطلاعات ومقابلات مع مئات المقاتلين المتمرّدين السابقين والناشطين في سوريا، بمَن فيهم أعضاء من “هيئة تحرير الشام”، في الأشهر التي سبقت الهجوم الذي أطاح الدكتاتور السوري بشار الأسد وفي أعقاب إطاحته. تُشيرُ نتائجنا إلى أنَّ بعضَ الأدوات الديبلوماسية قد تأتي بنتائج عكسية بالنسبة إلى الجهات الفاعلة الخارجية التي تُحاولُ التأثير في الجماعات المتمرّدة. على وجه الخصوص، عندما تُقدّمُ الحكومات الأجنبية حوافزَ اقتصادية تقليدية لهذه الجماعات، فقد يؤدي ذلك عن غير قصد إلى تقويضِ شرعية القادة الأكثر براغماتية. وبدلًا من التأثير على دمشق من خلال الاستثمارات أو الصفقات التجارية، فإنَّ الدولَ العربية والأجنبية التي تريد رؤية سوريا آمنة وشاملة سيكون من الأفضل لها الاستفادة من الإيماءات الديبلوماسية الرمزية وتقديم المساعدات الإنسانية غير المشروطة. بدون مساعدة خارجية أو مع النوعِ الخطَإِ من المساعدات الأجنبية، ستكون سوريا أكثر عرضةً للانزلاق مرة أخرى إلى حربٍ أهلية أو الوقوع تحت رحمة طاغية آخر.

عدوُّ عدوّي

لقد أطاحَ تحالفٌ فضفاضٌ من ثلاث منظمّات لها تاريخٌ في القتال في ما بينها: “هيئة تحرير الشام”؛ و”الجيش الوطني السوري”، وهو ميليشيا تدعمها تركيا؛ و”غرفة العمليات الجنوبية”، وهي مجموعة من المقاتلين من جنوب البلاد (محافظة درعا). وعلى النقيض من “هيئة تحرير الشام”، لا تُعتَبَرُ المجموعتان الأخريان منظّمتين إرهابيتين من قبل الحكومات الغربية وهما أكثر قومية من إسلامية. كانت “هيئة تحرير الشام” المجموعة الأكبر والأكثر تنظيمًا في الهجوم ضدّ الأسد، لكن مقاتلين من “الجيش الوطني السوري” و”غرفة العمليات الجنوبية” لعبوا أدوارًا حاسمة وحتى وصلوا إلى ضواحي دمشق قبل أن تصل قوات “هيئة تحرير الشام”.

ويُشكّكُ العديدُ من المراقبين في أنَّ الإدارة الجديدة، بقيادة “هيئة تحرير الشام”، ستكون مُمثِّلة لجميع الجهات المسلّحة في سوريا، ناهيك عن المجتمع السوري الأوسع. وعلى الرُغمِ من أنَّ الشرعَ وبعض القادة من “الجيش الوطني السوري” و”غرفة العمليات الجنوبية” أعلنوا عن نيتهم ​​حل تشكيلاتهم العسكرية القائمة لبناء جيش وطني جديد، إلّا أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كان الشرع سيشارك السلطة بشكلٍ هادف، خصوصًا أنه ملأ بالفعل مناصب رئيسة عدة في الجيش الوطني الجديد بالموالين من “هيئة تحرير الشام” والمجموعات المتحالفة معها القريبة منها. وتوقّع أحد مقاتلي “الجيش الوطني السوري” أن “يعزز الشرع سلطته في غضون ثلاثة أشهر”. كما إنه من غير الواضح إلى متى سيتمسّك الشرع بمنصبه كرئيس لسوريا. في كانون الأول (ديسمبر)، أعلن أنَّ الأمر قد يستغرق ما يصل إلى أربع سنوات لتنظيم انتخابات جديدة.

“هيئة تحرير الشام” ليست المصدر المُحتَمَل الوحيد للمتاعب. إنَّ دعمَ تركيا الصريح للفصائل داخل “الجيش الوطني السوري” يُمثّلُ عقبةً رئيسة أخرى أمام تشكيل حكومة موحَّدة. لطالما سعت تركيا إلى توسيع نفوذها الإقليمي، واستخدام المقاتلين السوريين لتنفيذ أوامرها، ومنع إنشاء منطقة كردية مستقلة في سوريا. تعمل أنقرة على تعزيز الفصائل من خلال دفع رواتب “الجيش الوطني السوري” وتزويد المجموعة بالمعدات العسكرية. في كانون الثاني (يناير)، روّجت تركيا لنفوذها على “الجيش الوطني السوري” من خلال الإعلان عن زيادةٍ لبعض أعضائه. إنَّ أجزاءً من “الجيش الوطني السوري” متردّدة في حلِّ نفسها رسميًا والانضمام إلى جيش وطني جديد لأنَّ هذا يعني التخلّي عن بعض استقلاليتها، والخضوع لمنافسيها في “هيئة تحرير الشام”، والتخلّي عن الرواتب الأعلى والأكثر موثوقية التي تدفعها تركيا.

قضية واحدة للناخبين

مع عدم الوضوح وعدم اليقين لمستقبل سوريا، يسارع العديد من الزعماء الأجانب إلى العمل على التأثير في تشكيل الإدارة الجديدة للبلاد. وعادة ما تستخدم الحكومات أدوات تشمل العقوبات والمساعدات الخارجية والصفقات التجارية للتأثير في بعضها البعض. وتفترض مثل هذه الحوافز أنَّ جميع اللاعبين المعنيين هم جهات فاعلة عقلانية تزن التكاليف والفوائد لتحسين مصالحها الذاتية. ولكن مثل هذه الأدوات قد تأتي بنتائج عكسية عندما تُعرَض على ما يمكن أن نطلق عليه “الجهات الفاعلة المخلصة”: الأشخاص الذين هم على استعداد للقتال والموت من أجل ما يعتبرونه قيمًا مقدسة. ووفقًا لاستطلاعاتنا ومقابلاتنا، فإنَّ 94% من المتمرّدين السوريين، بمن فيهم أولئك الذين شاركوا في الهجوم على دمشق، اعتبروا أن هدف تحرير سوريا من الأسد قيمة مقدّسة.

لا يجب أن تكون القيمة المقدّسة دينية. وعلى الرُغم من أن معظم المتمردين في عيّنة الدراسة أفادَ بأنه مُتدَيِّنٌ، فإنَّ التديُّن لم يكن، إلى حدٍّ كبير، مؤشرًا إحصائيًا إلى استعداد هؤلاء للمعاناة من أجل تحقيق هدفهم. كان أكثر الممثلين تفانيًا -أي المقاتلون الأكثر تضحية بالنفس والعنف- هم أولئك الذين شعروا بأنهم ضحايا سياسيًا ويعتقدون أنهم قادرون على تحقيق أهدافهم جماعيًا. باختصار، أولئك الذين كانوا مظلومين أخلاقيًا للغاية ويعتقدون أن القتال يمكن أن يُصحّح الظلم الذي واجهوه كانوا الأكثر استعدادًا للقتل أو الموت من أجل قضيتهم.

لقد دفع السعي الفردي إلى الإطاحة بالأسد العديد من المقاتلين، وخصوصًا أولئك الذين قاتلوا من أجل منظمات لا تُصنَّف على أنها إرهابية، إلى تغيير مجموعاتهم في كثير من الأحيان، والانضمام إلى أيِّ مجموعة يعتقدون أنها الأكثر فعالية ضد النظام. حتى أنَّ العديد منهم انتقلوا بين الجماعات المسلحة الإسلامية المتطرّفة والعلمانية. كان التزامهم بإيديولوجيتهم السياسية غالبًا ثانويًا للهدف المقدس المتمثّل في تحرير سوريا من الأسد. في المقابلات، أعرب أعضاءٌ من “الجيش الوطني السوري” عن استعدادهم للتعاون مع مجموعاتٍ أخرى لتحقيق هدفهم الرئيس. وصف أحد أعضاء “الجيش الوطني السوري” الشراكة بين المجموعة التي ينتمي إليها و”هيئة تحرير الشام” بأنها “تحالفٌ استراتيجي مؤقت”، مُضيفًا أنه بمجرّد إطاحة الأسد، لن ينسى “كم قتل [الشرع] منّا”. وقال مقاتل آخر من “الجيش الوطني السوري” في أواخر العام 2023: “لن أقاتل “هيئة تحرير الشام” الآن، لكنني سأقاتلها بعد سقوط الأسد”، وهو ما يؤكّد هشاشة التحالف الحالي في سوريا ومدى خضوع المتمرّدين لمظالمهم في سعيهم إلى تحقيق قيمتهم المقدسة. وقبل وبعد إطاحة الأسد، كانت هناك اشتباكات متكرّرة بين “قوات سوريا الديموقراطية” التي يقودها الأكراد، وهي المجموعة التي تسيطر على المنطقة التي تتمتع بالحكم الذاتي إلى حد كبير في شمال شرق سوريا، وفصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا. ويهدد القتال المستمر بين المجموعتين احتمالات سوريا الموحدة، وقد فشل الشرع في إقناع “قوات سوريا الديموقراطية” بالانضمام إلى الجيش الوطني الجديد.

مصداقية الشارع

الآن بعد سقوط الأسد، سوف تعودُ الخلافات الإيديولوجية بين المقاتلين إلى الواجهة. وقد تؤدّي أهدافهم السياسية المُتباينة وتاريخ الاقتتال الداخلي إلى جولةٍ أخرى من الحرب الأهلية. ولتجنُّب هذا، يتعيّن على المتمرّدين أن يتجمّعوا حول قيمةٍ مقدّسة جديدة: تشكيل حكومة عادلة ومستقرة. والواقع أنَّ القادة الأجانب حريصون على دعم مثل هذا الهدف ــ ولكن الكيفية التي يتعاملون بها مع هذا الهدف قد تُحدِثُ الفارق بين السلام الدائم والبؤس المُستمر. وعندما تريد الحكومات التأثير في بعضها البعض، فإنها تعتمد على الحوافز الاقتصادية، مثل وعود المساعدات الأجنبية، أو الصفقات التجارية، أو الاستثمارات الكبرى. ولكن استخدام هذه الأدوات التقليدية قد يُقوّض مصداقية القادة في سوريا، كما أظهر بحثنا.

إنَّ الجهاتَ الفاعلة المخلصة لا تتخلّى عادة عن قيمها المقدّسة من أجل السلع المادية. والواقع أنَّ الكثيرين من المتمرّدين السوريين تركوا الجماعات التي كانوا ينتمون إليها لأنهم شعروا بأنَّ قادتهم قد فسدوا، وغالباً من قِبَل قوى خارجية. وكان هذا صحيحًا بشكل خاص بين أعضاء “الجيش الوطني السوري”، الذين اعتقدوا أنَّ تركيا اشترت بعض قادتهم. لقد تساءلوا، على سبيل المثال، لماذا تمَّ إرسالُ مقاتلي “الجيش الوطني السوري” للقتال في ليبيا إلى جانب الميليشيات الليبية التي تدعمها تركيا. القادة الذين يفقدون مصداقيتهم يفقدون سلطتهم. وفقًا لاستطلاعاتنا، فإنَّ السبب الأول وراء تخلّي المتمرّدين عن قتالهم هو شعورهم بأنَّ قادتهم فقدوا نزاهتهم الأخلاقية.

يجب على الحكومات الأجنبية أن تكونَ حريصة على عدم النظر إليها على أنها فاسدة أو تشتري القادة السوريين. أولئك الذين يُنظَرُ إليهم على أنهم يتلقون امتيازات أجنبية سيفقدون قدرتهم على تشكيل مستقبل سوريا. في بحثنا، كان المقاتلون الأجانب والمتشدّدون -الأشخاص الذين يشكلون أكثر وحدات “هيئة تحرير الشام” اختبارًا في المعارك- هم الأكثر احتمالًا لربط التزامهم بقادتهم بالنزاهة الأخلاقية المتصوَّرة. كان المتمرّدون الأكثر احتمالًا لرفض زعيم للاشتباه في فساده يميلون أيضًا إلى أن يكونوا الأفضل تدريبًا والأكثر استعدادًا للموت من أجل قضيتهم.

إذا كانت الحكومات الأجنبية حريصة على التأثير في المتمرّدين في سوريا، فمن الأفضل لها أن تقترحَ تنازلاتٍ رمزية ولكن ذات مغزى، مثل فتح السفارات في دمشق، وإرسال وفود رسمية إلى سوريا، وتبادل المعلومات الاستخباراتية بشكلٍ سري. من جانبها، شاركت الولايات المتحدة بالفعل معلومات استخباراتية مع “هيئة تحرير الشام” حول هجومٍ مُخطّطٍ له من قبل تنظيم “الدولة الإسلامية”، أو “داعش”، وألغت مكافأة قدرها 10 ملايين دولار على رأس الشرع. عندما يتم تقديم تنازلات رمزية ولكن ذات مغزى للجهات الفاعلة المخلصة، فإنها تصبح أقل ميلًا لدعم العنف وأكثر استعدادًا لتقديم التنازلات، كما هو مُوَضَّحٌ في دراسةٍ أُجرِيَت في العام 2007 على الإسرائيليين والفلسطينيين من قبل الباحثين جيريمي جينجز، وسكوت أتران، ودوغلاس ميدين، وخليل الشقاقي.

بطبيعةِ الحال، ينبغي على الدول الأجنبية أن تكونَ حذرة في مكافأة الحكومة التي تقودها “هيئة تحرير الشام”. ويتعيّن عليها أن تمتنعَ عن الإيماءات الرمزية حتى تُحقّق الإدارة الجديدة تقدّمًا نحو الحكم الشامل، مثل حماية الأقليات. مع ذلك، ينبغي لها أن تُقدّمَ على الفور مساعدات إنسانية غير مشروطة لتخفيف معاناة الشعب السوري. إن أبحاثنا تُظهِرُ أنَّ الناسَ الذين يُعانون من الجوع أو يفتقرون إلى المأوى يشعرون بالظلم، وهو دافعٌ قوي لحمل السلاح. إنَّ التأكّدَ من تلبية احتياجات السوريين الأساسية هو الشيء الصحيح الذي يجب القيام به ووسيلة للمساعدة على إنهاء حلقة العنف. وفي الأمد البعيد، ستحتاج سوريا إلى عشرات المليارات من الدولارات لإعادة البناء. ويمكن للحكومات الأجنبية تعزيز الاستقرار في سوريا من خلال إشراك مجموعة من أفراد المجتمع المحلي في جهود إعادة الإعمار لتجنُّب تأجيج الانقسام عن غير قصد وبدلًا من ذلك تعزيز الهوية الثقافية المشتركة.

إنَّ المعلوماتَ المُضلِّلة منتشرة في سوريا، وبعد خمسة عقود من الحكم الاستبدادي، لم تَعُد لدى السوريين ثقةٌ كبيرة في مؤسّساتهم. وقد حاول الموالون للأسد وإيران وتنظيم “الدولة الإسلامية” إفساد المصالحة وإعادة الإعمار من خلال شنِّ الهجمات ونشر الدعاية التي تُصوِّرُ الحكومة الجديدة على أنها خاضعة لمصالح أجنبية خبيثة. ولا ينبغي للدول الأخرى أن تلعب على هذا التصوُّر. بدلًا من ذلك، يمكن للمساعدات الإنسانية غير المُقيَّدة والتنازلات الرمزية أن تُساعدَ السوريين على استبدال الأسد بنظامٍ أفضل.

  • الدكتور نفيس حامد هو عالم إدراكي ومدير الأبحاث والسياسات في برنامج أبحاث “XCEPT في “كينغز كوليدج” في لندن.
  • الدكتور نيلز مالوك هو زميل باحث في برنامج أبحاث “XCEPT في “كينغز كوليدج” في لندن وعالم سلوك في كلية لندن للاقتصاد.
  • الدكتور بروديريك ماكدونالد هو باحث في الصراعات في جامعة أكسفورد وزميل مشارك في المركز الدولي لدراسة التطرُّف في “كينغز كوليدج” في لندن.
  • الدكتورة رهف الدغلي هي محاضرة في دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في جامعة لانكستر وباحثة استشارية في برنامج أبحاث “XCEPT في “كينغز كوليدج” في لندن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى