أجندةُ أوروبا الخضراء تُهدِّدُ وارداتَ الغازِ الطبيعي المُسالِ من قطر
مع تبنّي الاتحاد الأوروبي سياساتٍ طموحة لمُكافحة تغيّر المناخ، يتعيّن عليه تجنّب تقويض أمن الطاقة من خلال إبعاد المُوَرِّدين الرئيسيين.

عبد الفتاح حامد علي*
يبدو أنَّ أهدافَ الاتحاد الأوروبي الطموحة لتخفيف آثار تغيُّرِ المناخ قد وضعته على مسارٍ تحويليّ نحو الاستدامة، باعتمادِ سياساتٍ مثل توجيه العناية الواجبة بالاستدامة المؤسّسية (CS3D) التي تقود هذه المهمة. إلّا أنّ تنفيذَ هذه السياسات قد يُزعزعُ أمنَ الطاقة في أوروبا. وقد حذّرت قطر، المُوَرِّدَ الرئيس للغاز الطبيعي المُسال إلى أوروبا، من أنَّ الأعباءَ التي يفرضها توجيه العناية الواجبة بالاستدامة المؤسّسية قد تؤدّي إلى وقف صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي. ولا يُمكنُ أن يكونَ التوقيتُ أسوأ من ذلك: فأوروبا تُعاني بالفعل بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وتشهدُ شتاءً باردًا وتداعيات الاضطرابات الجيوسياسية مثل حرب روسيا على أوكرانيا.
دورُ قطر في سوقِ الغاز الطبيعي المُسال في أوروبا
على مدى أكثر من عقد، شكّلت قطر مُورِّدًا موثوقًا للغاز الطبيعي المُسال إلى أوروبا، ما ساهمَ في استقرارِ أسواق الطاقة في فتراتِ التقلّبات. ففي العام 2023، صدّرت قطر 15,5 مليار متر مكعّب من الغاز الطبيعي المُسال إلى الاتحاد الأوروبي، ما يُمثّلُ 5,3 في المئة من حصصِ السوق في الاتحاد. وفي حين تبقى هذه الحصّة مُتواضِعة مُقارنةً بحصّة النروج البالغة 30,3 في المئة أو حصّة الولايات المتحدة البالغة 19,4 في المئة، تبقى مساهمة قطر كبيرة، خصوصًا مع تنويع الاتحاد الأوروبي لمصادر الطاقة بعيدًا من الغاز الروسي.
وقد انخفضت واردات أوروبا من الغاز الروسي بشكلٍ حادّ، لتبلغ أقل بقليل من 15 في المئة من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي بحلول منتصف العام 2023 بعدما كانت تُشكّلُ أكثر من 40 في المئة قبل غزو أوكرانيا. وقد أدّى انتهاء اتفاقية عبور الغاز بين أوكرانيا وروسيا في بداية العام 2025 إلى ترسيخِ هذا التحوُّل في تنويع مصادر الطاقة في الاتحاد الأوروبي، حيث أوقفت شركة الطاقة الروسية العملاقة “غازبروم” صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر خطوط أنابيب تمرّ بأوكرانيا. ويزيدُ هذا التطور من اعتماد أوروبا المُفاجئ على المورّدين البدلاء مثل قطر، لا سيّما أنّ الضغوط التنظيمية تزيد العلاقات تعقيدًا.
ولا يزال عددٌ من الدول مثل إيطاليا وفرنسا وبلجيكا يعتمد على الغاز الطبيعي المسال القطري لتلبية احتياجاتها من الطاقة. فقد استوردت إيطاليا 6,8 مليارات مترًا مكعّبًا من قطر في العام 2023، في حين استوردت فرنسا 2,3 ملياري متر مكعّب وبلجيكا 4,3 مليارات متر مكعّب. ويعكس هذا الانخفاض تدنّي الطلب بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وجهود الاتحاد الأوروبي لتنويع مصادره بعيدًا من الغاز الروسي. وقد يؤدّي فقدان قطر كمُوَرِّد إلى تفاقم هذه التحدّيات، ما يزيد من الاعتماد على مُصدّرين آخرين مثل الولايات المتحدة وأوستراليا، وهذا قد لا يُعوِّضُ النقصَ بالكامل.
لقد أدّى تحوّلُ أوروبا إلى الطاقة المتجدّدة إلى ظهورِ نقاطِ ضعفٍ هيكليّة في إستراتيجيتها للطاقة. ويبقى الغاز الطبيعي المُسال وقودًا حيويًا يوفّر بديلًا مُنخفِض الكربون من الفحم والنفط في حين يتزايد الاعتماد على الطاقة المتجدّدة. مع ذلك، تُهدّدُ سياسات الاتحاد الاوروبي المناخية الطموحة بإبعاد المورّدين مثل قطر.
نقاط الخلاف حول توجيه العناية الواجبة بالاستدامة المؤسّسية
يُعَدُّ توجيهُ العناية الواجبة بالاستدامة المؤسّسية أساسيًا في أجندة الاتحاد الأوروبي الخضراء، وهو مُصَمَّمٌ لفَرضِ الامتثالِ الصارم للبيئة وحقوق الإنسان عبر سلاسل الإمداد العالمية. ويتوجّب على الشركات العاملة ضمن الاتحاد الأوروبي إجراء العناية الواجبة المكثّفة لتحديد الآثار السلبية والحدّ منها، مع فرض غرامات تصل إلى 5 في المئة من إيراداتها العالمية لعدم الامتثال. سيؤثّر التوجيه أيضًا في الكيانات الأجنبية ذات العمليات الكبيرة في داخل الاتحاد الأوروبي – وتحديداً تلك التي تولّد مبيعات سنوية صافية تتجاوز الـ466 مليون دولار في المنطقة. ونتيجة لذلك، من المقدّر أن تتأثّر بهذا التشريع نحو 5,500 شركة تعمل في الاتحاد الأوروبي وما لا يقلّ عن ألف شركة من خارج الاتحاد الأوروبي.
وردًّا على التوجيه، أعرب جهاز قطر للاستثمار، الذي يُديرُ أُصولًا تُقدَّرُ قيمتها بنحو 510 مليارات دولار، عن مخاوفه بشأن آثار التوجيه المحتمَلة. ويمتلك جهاز قطر للاستثمار حاليًا، وهو صندوق ثروة سيادي، استثمارات ضخمة في مختلف القطاعات في أوروبا، بما في ذلك حصص في مطار هيثرو في لندن، و“إنوفافيد” (Innovafeed)، و“بورتا نوفا” (Porta Nuova) في ميلانو. وفي ألمانيا وحدها، تقدّر الاستثمارات القطريّة بنحو 25,8 مليار دولار في العام 2022، من خلال امتلاك الحصص في شركات كبرى مثل مجموعة فولكسفاغن.
علاوةً على ذلك، وصف الرئيس التنفيذي لشركة قطر للطاقة سعد بن شريدة الكعبي، الذي يشغل أيضًا منصب وزير الطاقة القطري، توجيه العناية الواجبة بالاستدامة المؤسّسية بأنّه غير قابل للتطبيق بالنسبة إلى شركة بهذا الحجم. وفي ظلِّ إدارةٍ سلسة الإمداد تمتد إلى مئات الآلاف من المورّدين، فستواجه شركة النفط التي تملكها الدولة القطرية أعباءً لوجستية ومالية هائلة للامتثال للتوجيه. ويشير تحذير الكعبي من أنّ قطر قد توقف شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا في حال فُرِضت عقوبات، إلى خطورة هذه المخاوف.
إنفاق أوروبا على الغاز الطبيعي المسال وتقلّبات السوق
لا يُعَدُّ توجيهُ العناية الواجبة بالاستدامة المؤسّسية العاملَ الوحيد الذي يُعقّدُ تجارة الغاز الطبيعي المُسال في أوروبا. فقد أجبرت الديناميات الجيوسياسية، بما في ذلك حرب روسيا على أوكرانيا وانعكاساتها على إمدادات الغاز الروسي، أوروبا على تنويع مصادر الطاقة بسرعة. ففي النصف الأول من العام 2024، انخفض إنفاق الاتحاد الأوروبي على واردات الغاز الطبيعي المُسال بنسبة 41 في المئة على أساسٍ سنوي، ليبلغ 21,7 مليار دولار بحسب تقديرات معهد اقتصاديات الطاقة والتحليل المالي (IEFFA). ويعكس هذا الانخفاض تراجُعًا في أسعار الغاز الإجمالية وانخفاض الطلب مع توجّه أوروبا نحو التحوّل في مجال الطاقة.
وقد خُصِّصت 10,9 مليارات دولار لواردات الغاز الطبيعي المُسال من الولايات المتّحدة والتي شكّلت 48 في المئة من إجمالي واردات أوروبا من الغاز الطبيعي المُسال خلال هذه الفترة. وعلى الرُغم من التوترات الجيوسياسية التي تواجهها روسيا، فقد ساهمت في 16 في المئة من واردات الغاز الطبيعي المسال، تليها الجزائر وقطر، حيث ساهمت كلٌّ منهما بنسبة 10 في المئة. وانضمّت نيجيريا والنروج إلى قائمة المورّدين الرئيسيّين، حيث شكّلت كلٌّ منهما 4 في المئة من الواردات.
وفي حين قد تبدو حصّة قطر صغيرة مقارنة بالولايات المتّحدة، إلّا أنّها تؤدّي دورًا مهمًا في توفيرِ إمداداتٍ ثابتة وقابلة للزيادة من الغاز الطبيعي المسال. ويؤكّد تساوي حصّة قطر مع حصّة الجزائر في واردات أوروبا من الغاز الطبيعي المُسال على أهميّتها الإستراتيجية، نظرًا لأهمية المورّد الشمال الأفريقي بالنسبة إلى أوروبا لسنوات. وفي الوقت عينه، يسلّط انخفاض الإنفاق على الغاز الطبيعي المسال القطري الضوء على المنافسة المتزايدة في سوق الغاز الطبيعي المسال في أوروبا وحاجة قطر إلى التعامل بحذر مع المشهد التنظيمي المتطوّر في الاتحاد الأوروبي.
المخاطر الاقتصادية والسياسية
ليست المخاطر اقتصادية فحسب، بل جيوسياسية على حدٍّ سواء. يساهم مشروع توسعة حقل الشمال ــوالذي من المتوقع أن يزيد الطاقة الإنتاجية للغاز الطبيعي المسال من 77 مليون طنّ إلى 126 مليون طنّ سنويًا بحلول العام 2027ــ في تعزيز مكانة قطر كدولةٍ رائدة عالميًا في إنتاج الغاز الطبيعي المسال. ومن المحتمل أن يُعزّزَ هذا التوسّع صادرات قطر من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا من 18,7 مليون طنّ في العام 2023 إلى ما يقدّر بنحو 28 مليون طنّ في العام 2026. ومع ذلك، قد تتقوّض هذه الفرص في حال أصبحت اللوائح التنظيمية للاتحاد الأوروبي مقيِّدة بشكلٍ مفرط.
وفي الوقت عينه، تعمل قطر على تنويع أسواق صادراتها. ففي النصف الأول من العام 2024، بلغت حصة الصين من الغاز الطبيعي المسال نسبة 25 في المئة، تليها الهند (17 في المئة) وباكستان (11 في المئة). ويعكس هذا التحوّل نحو آسيا المزايا اللوجستية والطلب المتزايد. وتوفّر الأسواق الآسيوية أوقاتَ تسليمٍ أسرع وتكاليف شحن أقل وعقبات تنظيمية أقل مقارنة بأوروبا، ما يجعلها أكثر جاذبية.
وبالنسبة إلى عددٍ من الدول الأوروبية، يُنذرُ هذا التوجّه بعواقب وخيمة على أمنها في مجال الطاقة. إذ تعتمد دول مثل إيطاليا وفرنسا على الواردات القطرية وستواجه تحدّيات كبيرة في تنويع إمداداتها. وفي الوقت نفسه، قد يؤدّي ارتفاع أسعار الطاقة وتقلّبات السوق إلى تقويض الثقة العامة في سياسات الطاقة في الاتحاد الأوروبي، ما قد يعقّد أجندته المناخية.
نحو حلّ عملي
لمنع انهيار العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وقطر في مجال الطاقة، يتعيّن على الجانبين تبنّي نهجٍ عملي. فبالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، قد يسهم تصميم توجيه العناية الواجبة بالاستدامة المؤسّسية للتركيز على العقوبات على الإيرادات المتولّدة داخل الاتحاد بدلاً من الأرباح العالمية في معالجة مخاوف قطر مع الحفاظ على أهداف التوجيه. وقد يؤدّي التنفيذ التدريجي والإعفاءات لمُورِّدي الطاقة الأساسيين إلى تخفيف المخاطر بشكل أكبر.
أمّا بالنسبة إلى قطر، فقد يثبت التعاون الاستباقي مع الهيئات التنظيمية في الاتحاد الأوروبي والاستثمار في تقنيات لتعزيز شفافية سلاسل الإمداد، مثل تقنية سلسلة الكتل (Blockchain)، التزامها بالامتثال. كما سيكون تحقيق التوازن بين حضورها المتنامي في آسيا والشراكات الإستراتيجية في أوروبا ضروريًا أيضًا للحفاظ على ريادتها في أسواق الغاز الطبيعي المسال العالمية.
ومع تسارع وتيرة التحوّل إلى الطاقة الخضراء في أوروبا، على القارة العجوز أن تضمن عدم تقويض التدابير التنظيمية لأمنها في مجال الطاقة. أمّا بالنسبة إلى قطر، فسيساهم التغلّب على هذه التحدّيات مع الحفاظ على مكانتها في السوق الأوروبية والآسيوية في تحديد دورها في التجارة العالمية للغاز الطبيعي المسال.
إنّ المخاطر عالية، ليس بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي وقطر فحسب، بل إلى سوق الطاقة العالمية أيضًا. ومن شأن الفشل في إيجاد أرضيةٍ مشتركة أن يُعرقلَ التحوّل في مجال الطاقة في أوروبا، ما يجعل الاتحاد عُرضةً لنقص الإمدادات وصدمات الأسعار. وفي المقابل، قد يضمن النهج التعاوني مستقبلًا مُستدامًا وآمنًا للطاقة للطرفين، ما يُشكّلُ سابقة في تحقيق التوازن بين الأهداف المناخية واحتياجات الطاقة في عالمٍ مُترابطٍ بشكلٍ متزايد.
- عبد الفتاح حامد علي هو زميل زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. تخرّج أخيرًا من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، حاملاً شهادة الماجستير في السياسات العامة. تشتمل مواضيع بحثه على التنمية الاقتصادية، والسياسات العامة، والتحوّلات في الطاقة، والاستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.