فُرصَةٌ أَخِيرةٌ لإيران
إنَّ الجوانبَ السلبية لضربةٍ عسكرية أميركية ضد إيران ستكون خطيرة، وبالتالي فإنَّ المسارَ الأكثر أمانًا هو القيام بمحاولةٍ أخرى للتفاوُض. ولكن إذا فشلت الديبلوماسية، فيجب أن تكون واشنطن مُستعدّة عسكريًّا.
ريتشارد نيفيو*
على مدى عقدين، دعت أصواتٌ مُتَشدّدة في واشنطن إلى مهاجمة البرنامج النووي الإيراني. وعلى مدى عقدين قوبلت هذه الدعوات يالرفَض. ذلك لأنَّ الحجج ضد العمل العسكري كانت، في معظم ذلك الوقت، مُقنِعة وواضحة. كانت القدرات النووية الإيرانية غير ناضجة. وكان المجتمع الدولي مُتَّفِقًا على ضرورة أن تُثبِتَ طهران أن نواياها النووية سلمية تمامًا، وبالتالي كان مُتَّحدًا بشكلٍ معقول في فَرضِ عقوباتٍ على البلاد عندما اتضح أنها ليست كذلك. وقد فرضت هذه العقوبات تكاليف باهظة دفعت الجمهورية الإسلامية إلى طاولة المفاوضات.
لا تزالُ هناكَ أسبابٌ وجيهة عديدة لعدم قصف إيران. ذلك أن ضربَ البلاد من شأنه أن يضخَّ المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط. ومن شأنه أن يستهلك موارد أميركية كبيرة في وقتٍ تريد واشنطن التركيز على مناطق أخرى. ومن الممكن أن يؤدي هذا إلى تقويض مصداقية الولايات المتحدة إذا لم تنجح الهجمات. كما إنَّ احتمالات الفشل مرتفعة، إذ قد تؤدّي حتى أكثر الضربات دقة إلى تأخير برنامج التسلُّح النووي الإيراني فقط لا إلى تدميره كلّيًا. ويظل الحلُّ الأفضل والأكثر استدامة لهذه القضية هو التوصّل إلى اتفاقٍ ديبلوماسي.
لكن اليوم، لم تَعُد الحجج ضد العمل العسكري بهذه البساطة وواضحة المعالم. لم يَعُد البرنامج النووي الإيراني ناشئًا وفي بداياته؛ بل بات لدى البلاد كل ما تحتاجه تقريبًا لصنع سلاح نووي. في الوقت نفسه، أصبحت طهران أكثر ضعفًا وأكثر احتياجًا لردعٍ جديد مُقارنةً بما كانت عليه قبل بضع سنوات: شبكة شركائها مُتهالكة، وضربت إسرائيل أهدافًا داخل حدود إيران مرّات عدة في العام 2024. كما أصبح المجتمع الدولي مُنقَسِمًا الآن بشأن ما إذا كان ينبغي له أن يضغطَ على النظام الإيراني. ولا تزالُ هناك عقوبات قاسية مفروضة على إيران، لكنها تتعرّضُ للانتهاك باستمرار من جانب الصين والهند وروسيا، من بين دول أخرى. وربما يكون استئنافُ التنفيذ الكامل مُمكِنًا، ولكن هذا سوف يتطلّبُ تعاون الصين على وجه الخصوص في وقتٍ تُواجه بكين عداء الحِزبَين الجمهوري والديموقراطي في واشنطن. كما أصبحت علاقة روسيا بإيران أقوى مما كانت عليه لعقود، بفضل العلاقات الدفاعية المُتبادَلة. إنَّ الحوافز التي تدفع طهران الآن إلى التحوّل إلى الطاقة النووية صارت أعظم من أيِّ وقتٍ مضى، والتكاليف المُتَوَقَّعة لذلك ربما قد تضاءلت.
ونظرًا للمخاطر المُترتّبة على العمل العسكري، يتعيّنُ على الولايات المتحدة أن تبذلَ محاولةً أخيرة وحسنة النية للتفاوض على وقف البرنامج النووي الإيراني في وقتٍ مبكر من إدارة دونالد ترامب. ولكن ما لم تكن مُستَعدّةً للعيش في العالم الذي قد تخلقه الأسلحة النووية الإيرانية، فقد لا يكون أمامها خيار سوى مهاجمة إيران ــ وقريبًا. وتتطلّبُ الحكمة أن تُخَطِّطَ واشنطن للعمل العسكري الآن وأن تضمنَ أن تَفهَمَ إيران وتُدرِك أن هذا التهديد حقيقي، حتى في الوقت الذي تُحاولُ إطلاقَ مسارٍ ديبلوماسي مرّةً أخرى.
سلبيات الصراع
هناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى إعطاء الديبلوماسية فرصةً أخيرة. فأوّلًا وقبل كل شيء، لا يعرف المسؤولون الأميركيون ما إذا كان الهجوم العسكري سينجح. ربما تمتلك الولايات المتحدة وشركاؤها الوسائل اللازمة لتدمير كل المنشآت النووية الرئيسة في إيران، ولكن هذا لا يضمن القضاء على كل المواد النووية في البلاد، أو حتى كل معدّاتها النووية، التي قد يكون بعضها مُخبّأً في مخازن مدفونة في أعماق الأرض. وربما تتمكّن طهران، إمّا تحسُّبًا للضربات الأميركية أو في استجابةٍ سريعةٍ لها، من تحويل بعض مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب إلى مواقع سرّية، وبالتالي الحفاظ على ما يكفي من المواد لكي تتمكّن البلاد من إنتاج قنابل نووية مُتعدّدة بسرعة.
وإذا تعرّضت إيران لهجومٍ من قِبَل قوة نووية مُعلَنة ــوهو التصنيف الذي ينطبق على الولايات المتحدةــ فسوف تكتسب طهران حافزًا جديدًا لتطوير رادعها الخاص، وقد تُدركُ أنها تتمتّع بشرعيةٍ دولية أكبر للقيام بذلك. ومع بقاء اليورانيوم المُخَصَّب في متناول اليد، فإنها سوف تمتلك بالفعل المُكوِّن الرئيس. ذلك أنَّ العناصر الأساسية لصنع القنبلة معروفة لدى إيران، وبالتالي فإنها سوف تكون في وضعٍ يسمح لها بالتجميع السريع. ولهذا السبب ركّزَ الاتفاق النووي لعام 2015، أو خطة العمل الشاملة المشتركة، على منعِ اكتساب المواد النووية بدلًا من التركيز على معدات التسليح أو الصواريخ.
في الواقع، يعني تطوير إيران لخبراتها النووية على مدى عقود أنَّ البلاد يُمكن أن تبني وتصنع سلاحًا حتى لو أدت الضربات العسكرية إلى جعل جميع معداتها وموادها الحالية غير صالحة للاستخدام. إنَّ استعادةَ برنامجها النووي سيستغرق وقتًا، لكن الهجوم الذي يُدمّر “نطنز” والمواقع الأخرى ليس نهاية المشكلة تمامًا كما لم يكن موت الفيزيائي الإيراني محسن فخري زاده في العام 2020، أو الهجوم على موقع إنتاج أجهزة الطرد المركزي في إيران في العام 2021. لم يُنهِ قصفُ مفاعل “أوزيراك” في العراق في العام 1981 برنامج صدام حسين النووي؛ بل إنَّ برنامج الأسلحة النووية العراقي تكثّفَ في السنوات التالية. وربما كان قصف مفاعل الكبر في سوريا في العام 2007 أكثر نجاحًا، ولكن انزلاق البلاد إلى الحرب الأهلية يجعل من الصعب تقييم الآثار الطويلة الأجل للضربة على عملية اتخاذ القرار النووي.
من أجل قمع الطموحات النووية الإيرانية بشكلٍ دائم، قد تضطر الولايات المتحدة إلى مهاجمة إيران على الدوام أو تنفيذ هجوم أكبر بكثير – هجوم ٌيقضي على أكبر عددٍ من عناصر الحرس الثوري والجيش أو على النظام في البلاد. وسوف تكون المهمّتان أطول وأشدّ صعوبة من حملةٍ محدودة، ومن الحماقة أن نفترضَ أنَّ واشنطن لديها الالتزام اللازم لإكمالِ أيٍّ منهما. وهذا يعني أنَّ الضربات على إيران من شأنها أن تُثيرَ مشاكل تتعلّقُ بمصداقية زعماء الولايات المتحدة، وخصوصًا إذا تخلّت واشنطن في نهاية المطاف عن هجماتها وأنتجت طهران سلاحًا نوويًا.
علاوةً على ذلك، بمجرّد بدء الضربات، من الصعب التَخَيُّل أن يكونَ هناك تحوُّلٌ سريع إلى الديبلوماسية ما لم يتغيَّر النظام الإيراني. فتغيير النظام في حدِّ ذاته لا يضمنُ نتيجةً أفضل، سواء في ما يتصل بالبرنامج النووي أو الأنشطة الخبيثة الأخرى للنظام. وحتى إذا انهارت الجمهورية الإسلامية، فقد يحلُّ محلها نظامٌ أكثر ضراوة. وقد تنزلق إيران إلى الفوضى. ولن يأسف أحد على نهاية الحكومة الحالية في البلاد، وخصوصًا أولئك الذين قمعتهم لمدة أربعين عامًا. لكن هناك سببًا يجعل الإيرانيين قلقين أيضًا بشأن مخاطر عدم استقرار النظام، وقد كانوا قلقين منذ أن شهدوا “الربيع العربي”.
بغضّ النظر عن النتيجة، فإنَّ الهجمات على إيران من شأنها أن تضغطَ على موارد الولايات المتحدة. وهناك بالفعل تقارير مُفزِعة بشأن نقص الذخيرة وأنظمة الدفاع الصاروخي في الولايات المتحدة. وسوف تأتي النفقات الإضافية في وقتٍ سيّئ بالنسبة إلى واشنطن. والوضع الدولي اليوم مُعقَّد. فروسيا تواصلُ شنَّ حربٍ ضد أوكرانيا. وهناك خطرٌ يتمثّلُ في أن تغزو الصين تايوان. والشرق الأوسط بأكمله تقريبًا غير مُستقر. ومن شأن أي حملة عسكرية جديدة ضد إيران أن تُثقِلَ كاهلَ الولايات المتحدة بشكل خاص إذا كانت أوروبا والجنوب العالمي وشركاء واشنطن العرب ضد العمل العسكري الأميركي أو في أفضل الأحوال متشكّكين فيه ــ وهو ما قد يكون حالهم جميعًا.
إبرام صفقة
إنَّ التكاليف الباهظة المُترتّبة على مهاجمة إيران تعني أنَّ الولايات المتحدة لا بُدَّ وأن تُحاولَ مرة أخرى اللجوء إلى الديبلوماسية. وهناك أسبابٌ تدعو إلى التفاؤل بأنَّ البلدين، على الرُغم من الوضع المتقلِّب، يمكنهما التوصُّل إلى اتفاق. فالديبلوماسية، بعد كلِّ شيء، تتمتّعُ بسجلٍّ حافلٍ بالنجاحات عندما يتعلّقُ الأمر بإبطاء التطلّعات النووية الإيرانية. فقد أدت المبادرات الأوروبية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى تعليق الأنشطة النووية الإيرانية في المدى القصير، وعندما فشلت هذه المبادرات في ترسيخ جذورها في المدى الطويل، أُجبِرَت روسيا والصين على دعم عقوبات الأمم المتحدة. وفي العام 2013، أوقفت الديبلوماسية التقدُّم النووي الإيراني للسماح بسنتين من المفاوضات التي أسفرت عن خطة العمل الشاملة المشتركة. وقد جمدت هذه الخطة أجزاء كبيرة من البرنامج النووي الإيراني بشكل صريح مع إخضاعه لمراقبة دولية أكثر صرامة.
لقد فشلت كلٌّ من هذه المبادرات في نهاية المطاف. لكن على الرُغم من أنَّ إيران كانت مسؤولة عن إنهاء اتفاقيات التعليق التي تَفاوَضَ عليها الأوروبيون، فقد امتثلت طهران لخطة العمل الشاملة المشتركة، وهي حقيقة اعترفت بها حتى إدارة ترامب الأولى في تقاريرها الإلزامية إلى الكونغرس بشأن الاتفاق. لقد انهارَ الاتفاق النووي لأنَّ الرئيس المنتخب دونالد ترامب انسحب منه في ولايته الأولى. لكن ترامب في وضع جيد للهندسة لبديلٍ على وجه التحديد لأنه قتل الاتفاق الأخير. لقد ماتت المحادثات لإعادة الولايات المتحدة وإيران إلى الامتثال المتبادل الكامل للاتفاق النووي في العامين 2021 و2022 لأن الإيرانيين لم يثقوا في قدرة واشنطن على الالتزام باتفاقٍ بعد انتقال السلطة ولأن الولايات المتحدة رفضت النظر في نهجٍ ديبلوماسي آخر. ومع ذلك، إذا وافق ترامب نفسه على صفقة جديدة، فقد تعتقد إيران أنها ستصمد. غالبية الديموقراطيين كانت داعمة للديبلوماسية، وإذا انضم ترامب، فقد يفعل الجمهوريون الشيء نفسه.
لكن على الرُغم من أنَّ التوصّلَ إلى اتفاقٍ أمرٌ مُمكن ومُفضَّل، فإنَّ التوصُّلَ إليه سيكون صعبًا. فقد أبدى ترامب اهتمامه بما وصفه بالاتفاق “البسيط” لحرمان إيران من الأسلحة النووية، ولكن شروط أي اتفاق لا بُدَّ أن تكون مُعقَّدة حتى يكون لها تأثيرٌ كبير. وسوف تحتاج طهران وواشنطن إلى التوصُّل إلى اتفاقٍ بشأن مدى القيود التي يجب أن تُفرَض على البرنامج النووي الإيراني، وما إذا كان ينبغي وضع قواعد حول سلوك إيران الإقليمي، وما هو تخفيف العقوبات وضمانات الأمن التي قد تحصل عليها إيران. وسوف يتطلّب فَهمُ كلّ هذه القضايا مفاوضاتٍ مكثفة ــوخصوصًا لضمان استدامة الاتفاق، وقابليته للتحقق، وقابليته للتنفيذ ــ وسوف يتطلّب مشاركة المزيد من الأطراف إذا كان من المقرر أن تكون القضايا الإقليمية محور اهتمام. والمحادثات المتعددة الأطراف صعبة في أفضل الأوقات. وحرب روسيا في أوكرانيا والتوترات بين بكين وواشنطن ليستا سوى مصدرين للإزعاج من شأنهما أن يجعلا من الصعب للغاية تنظيم مثل هذه العملية اليوم.
الضربة الأولى
مع ذلك، هناك سببٌ للأمل في أن تتمكّن طهران وواشنطن، مع الوقت الكافي والإبداع، من التوصُّل إلى نوعٍ من الاتفاق. ولكن على الرُغم من النكسات والضعف الاستراتيجي الذي تُعاني منه إيران، والذي يرجع في المقام الأول إلى الهجمات الإسرائيلية على وكلاء طهران وعلى إيران نفسها في تشرين الأول (أكتوبر)، فإنَّ التقدُّمَ النووي الإيراني جعل الوقت موردًا نادرًا. وإذا اتبعت الولايات المتحدة نهج “الضغط الأقصى” لإضعاف إيران لإجراء محادثات لاحقة، فقد تردُّ إيران بإخفاء موادها النووية، أو صنع قنبلة، أو الانسحاب من معاهدة منع الانتشار النووي، أو كل هذه الأمور. وإذا فشلت محاولات التوصل إلى اتفاق، فيجب أن تكون الولايات المتحدة على استعداد لاستخدام جيشها.
لن تُشَكّلَ الأسلحة النووية الإيرانية تهديدًا وجوديًا للولايات المتحدة في الأمد القريب. إنَّ الأسلحة النووية التي تمتلكها واشنطن سوف تفوق إلى حد كبير أي مخزون إيراني، ولا تزال إيران تعمل على تطوير قدراتها في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. ولكن إذا طوّرت إيران أسلحة نووية، فإنها ستُشجّعُ آخرين في الشرق الأوسط على القيام بذلك أيضًا، مما يؤدي إلى سباقات تسلُّح مستقبلية تهدّد بحربٍ نووية. وحتى لو لم تنقل إيران الأسلحة النووية إلى وكلائها وعملائها ــ على الرُغم من أنَّ قرار إيران بتزويد الحوثيين و”حزب الله” بالصواريخ الباليستية يجعل نقل الأسلحة النووية يبدو أكثر معقوليةــ فإن ترسانتها النووية قد تصبح هدفًا للجماعات الإرهابية أو الإجرامية. وسوف يقع العديد من شركاء الولايات المتحدة في مرمى نيران إيران، فضلًا عن إمداداتٍ كبيرة من موارد الطاقة العالمية. وبالتالي فإن العالم الذي تمتلك فيه إيران الأسلحة النووية سيكون أكثر خطورة على الولايات المتحدة وشركائها.
إنَّ مهاجمة البرنامج النووي الإيراني من شأنها أن تعودَ بفوائد استراتيجية تتجاوز مجرّد منع عدوٍّ خطير من الحصول على السلاح النووي. فالضربات، على سبيل المثال، من شأنها أن تزيد من استنزاف موارد طهران المحدودة أصلًا. وإذا ما تراجعت إيران مرة أخرى، فإنها سوف تكافح أكثر من أيِّ وقتٍ مضى لتهديد المصالح الأميركية. وسوف تضطر إلى الموازنة في الوقت نفسه بين استعادة برنامجها النووي، وإعادة بناء “حزب الله”، وإعادة تخزين قوتها الصاروخية، وإدارة مشاكلها الاقتصادية الإجمالية، وكل هذا في حين لا تزال تحت العقوبات. بعبارةٍ بسيطة، سوف تضطرُّ إيران إلى اتخاذ خياراتٍ حقيقية في ما يتّصل باتجاهها الاستراتيجي. وسوف تخسر كل أنظمة وأساليب الردع الرئيسة لديها، ولن تتمكن بعد الآن من اللجوء إلى الأسلحة النووية كخيارٍ رخيص وسريع لاستعادتها.
وسوف تعود إيران الضعيفة بفوائد على الشرق الأوسط. فقد تتلقى الحكومة الإيرانية دفعةً محدودة من الدعم الشعبي بعد الهجمات الأميركية، ولكن اعتمادًا على شدّتها، ونطاق استهدافها، وأي أضرار جانبية غير مقصودة، فقد يرى الإيرانيون العاديون فيها أيضًا فرصةً للضغط على النظام لتغييره. لا يبدو أنَّ الهجوم الإسرائيلي على إيران في تشرين الأول (أكتوبر) 2024 قد أحدث تأثيرًا ملحوظًا في “التجمّع حول العَلَم”، مما يشير إلى أنَّ الهجوم الأميركي قد لا يُحدِث التأثير نفسه أيضًا. وعلاوة على ذلك، سيكون لدى طهران وقت أقل وموارد أقل لمضايقة أو تقويض جيرانها في أعقاب هجوم أميركي، وسيكون لديها حافز أكبر للعمل بدلًا من ذلك نحو ترتيبات أمنية إقليمية بنّاءة. كما إنَّ انتكاساتها من شأنها أن تُقلّلَ من الضغوط على الدول الأخرى للحصول على ترساناتها النووية الخاصة.
وأخيرًا، قد يساعد مهاجمة البرنامج النووي الإيراني على تعزيز مصداقية الولايات المتحدة ــ على الرغم من أنَّ الفشل قد يُهدّد بإضعافها. فعلى مدى العقدين الماضيين، نشأت شكوك في العالم حول التزام واشنطن بمعالجة التهديدات. والخطأ مشترك بين الحزبَين الديموقراطي والجمهوري. فقد رسمت إدارة باراك أوباما خطًّا أحمر للرئيس السوري السابق بشار الأسد إذا استخدم الأسلحة الكيماوية ثم رفضت فرضه. ولم يستجب ترامب للهجمات الإيرانية العديدة على القوات الأميركية والبنية الأساسية للطاقة لحلفاء الولايات المتحدة، على الرغم من تعهّداته بالتحرُّك. وإذا رأت الحكومة الأميركية الآن أنَّ إيران تتجه إلى امتلاك الأسلحة النووية على الرُغم من الوعود المُتكرّرة بعدم السماح لها بذلك، فإنَّ الدول المنافسة سوف تطرح المزيد من الأسئلة حول متانة الالتزامات الأميركية، مما يعرض أصدقاء واشنطن وحلفاءها لمخاطر جسيمة. ومن المؤكد أن ضرب إيران ليس السبيل الوحيد (أو ربما الأفضل) لتعزيز تصورات القوة الأميركية. ولكن من الممكن أن يلعب دورًا في هذا.
وهذا يفترض بطبيعة الحال أنَّ ضربات واشنطن سوف تذهب إلى ما يكفي من النجاح في نهاية المطاف لمنع التسلح النووي الإيراني. لا شك أن الولايات المتحدة قادرة على تدمير المنشآت النووية الإيرانية المعروفة، ولكن هذا وحده لن يمنع إيران من الحصول على الأسلحة النووية. ومن المرجح أن يتطلّب مثل هذا الإنجاز أكثر من جولة واحدة من الضربات، ووجودًا عسكريًا أميركيًا طويل الأمد، واستعدادًا أميركيًا لتوسيع نطاق الهجمات إلى ما هو أبعد من المنشآت النووية لاستهداف صنّاع القرار في إيران. وعلى هذا النحو، من المرجح أن تحتاج الولايات المتحدة إلى شنِّ ضرباتٍ تُركّز على أصول النظام أو قوات الأمن والحرس الثوري، حتى لو أدت إلى عدم الاستقرار الداخلي، وينبغي لها أن تفكر الآن في كيفية تصميم هذه الضربات للحد من العواقب السلبية المترتّبة على عدم الاستقرار هذا. قد يبدو الحديث غير الدقيق عن ما يسمى بالضربات البسيطة ــأو كيف يمكن لواشنطن أن تحل تحديًا دام عقودًا من الزمان من خلال بضع طلعات قصف ــ جذّابًا. لكن لا يوجد بديل من التقييم الجاد والصادق والمستدام لأنواع الهجمات التي قد تنجح، ومدة استمرارها، وكم قد تكلّف، وكيفية تجنُّبِ أسوَإِ النتائج.
أزمةٌ هادئة
إنَّ سلطة واشنطن على حسابات طهران النووية محدودة في نهاية المطاف. لا أحد في الولايات المتحدة يعرف كيف ينظر المسؤولون الإيرانيون حقًا إلى مأزقهم الحالي. قد تكون عودة عقوبات الضغط الأقصى بمثابة المُحفِّز للتسليح. لكن الضربات التي تلقّتها إيران بالفعل من إسرائيل، جنبًا إلى جنب مع اقتصادها المتعثّر، قد تكون كافية بالفعل لتحفيزها على التحوّل إلى السلاح النووي في الوقت الذي تختاره. يجب على صناّع السياسات في واشنطن أن يبدَؤوا في بناء حساباتهم الخاصة بأنَّ الأسلحة النووية الإيرانية هي احتمالٌ يجب إدارته، ولكن هناك فرصة محدودة لتجنُّبِ هذه النتيجة.
وبالتالي فقد حان الوقت لكي تُفكّرَ أميركا في خطواتٍ مُتطرّفة. عندما تفاوضت الولايات المتحدة على خطة العمل الشاملة المشتركة، حكمت بأن إبقاء إيران على مهلة عام واحد -الوقت المطلوب لإنتاج ما يكفي من المواد النووية القابلة للاستخدام لصنع سلاح نووي – كان ضروريًا لإعطاء واشنطن وشركائها الفرص لإيجاد مخارج ديبلوماسية، وإذا لزم الأمر، حشد العالم وراء ردٍّ عسكري. لكن هذا الحاجز قد ولّى منذ فترة طويلة؛ لقد كانت إيران تنطلق منذ بدأت في إنتاج اليورانيوم المخصَّب بنسبة 60 في المئة في العام 2021. والهدوء النسبي للأزمة النووية الحالية بين إيران والولايات المتحدة يتحدّث أكثر عن الطبيعة المُستعرة للحروب في أماكن أخرى أكثر من ضبط النفس من جانب طهران أو الديبلوماسية الفعّالة من جانب واشنطن. لا يوجد ما يضمن أنَّ الأزمة ستظل هادئة لفترة أطول. إنَّ حقيقة أن القوة العسكرية قد تكون ضرورية لمنع إيران من تحقيق اختراقٍ نووي ينبغي أن يُنظَرُ إليها باعتبارها فشلًا سياسيًا مشتركًا بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري. إن الجوانب السلبية للضربة خطيرة، وبالتالي فإنَّ المسار الأكثر أمانًا هو القيام بمحاولةٍ أخرى للتفاوض. ولكن إذا فشل ذلك، فيجب أن تكون واشنطن مُستعدّة للخيار العسكري.
- ريتشارد نيفيو هو باحث أول في جامعة كولومبيا وزميل مساعد في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. وهو نائب المبعوث الخاص الأميركي السابق لإيران.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن أفِّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.