الطَريقُ إلى سوريا أَفضَل: السلامُ الآمن سيَعتَمِدُ على الانتعاشِ الاقتصادي
كما أظهرت السنوات الثلاث عشرة الماضية، فإنَّ ما يحدثُ في سوريا لا يبقى في سوريا. وإذا لم تتمكّن الحكومة الجديدة والمجتمع الدولي من العمل معًا لتنفيذ إصلاحاتٍ ذات مغزى، فإنَّ الشعب السوري والمنطقة ككل سوف يُعانيان من العواقب.
كرم شعّار وبنيامين فيف*
أثارَ الانهيارُ الدرامي لحكومة الرئيس السوري بشار الأسد في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الآمالَ في بدايةٍ جديدة لبلدٍ عانى أكثر من عَقدٍ من الحرب. لكنَّ تعافي سوريا يواجهُ عقباتٍ هائلة. فالاقتصادُ في حالةِ خراب، فقد ظلُّ مشلولًا بسبب سنواتٍ من الصراع الكارثي والفساد الراسخ والعقوبات الدولية العقابية. ولن ترثَ أيُّ قيادةٍ جديدة دولةً منهارة فحسب، بل سترثُ أيضًا غابةً من التحديات التي تتحدّى الحلولَ البسيطة.
بعدَ اندلاعِ الاحتجاجات العامة ثم التمرّد في سوريا في العام 2011، تشبّثَ نظامُ الأسد بالسلطة مُعتمِدًا على التعذيب المنهجي والحملاتِ العسكرية التي لا هوادة فيها بدعمٍ من إيران وروسيا ومجموعةٍ من الميليشيات المتحالفة أبرزها “حزب الله”. كان التركيز الدولي على سوريا تراجعَ في السنوات الأخيرة، حيث أشار العديد من المراقبين إلى أنَّ الأسد “انتصر” حتى وهو يرأس بقايا بلدٍ وقشرةَ دولة. لقد أُصيبَ العالم بالذهول عندما قادت جماعة “هيئة تحرير الشام” المتمرّدة هجومًا أجبر النظام على الانهيار في غضون أسابيع قليلة. إنَّ رحيلَ الأسد يُمثّلُ نهايةَ حقبة، ولكنه يسلّطُ الضوءَ أيضًا على هشاشةِ السلطة في سوريا المُنهَكة والهشّة.
تولّت “هيئة تحرير الشام” الآن دور السلطة المركزية في سوريا، وتُشرِفُ على فترةٍ انتقالية من المُقرّرِ أن تستمرَّ حتى الأوّل من آذار (مارس) 2025. وأيُّ حكومةٍ تنشأ عن هذه العملية سوفَ يتعيّنُ عليها أن تجدَ طريقةً لإحياءِ الاقتصاد السوري. وسوف يتطلّبُ الأمرُ إصلاحاتٍ محلّية جادة ودعمًا دوليًا للتغلُّب على سنواتٍ من الدمار والعقوبات والتفتّت. ويتعيّن على القيادة السورية الجديدة أن تُعالجَ الأزمات الإنسانية في البلاد وتستعيدَ البنية الأساسية الحيوية للطاقة والإسكان. لكن من أجلِ الحصولِ على الدفعة التي تحتاجها، سوف يتطلّبُ الأمرُ دفعةً أوّلية من المجتمع الدولي. وللبدء، ينبغي على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تخفيف العقوبات التي تستهدف نظام الأسد و”هيئة تحرير الشام” ودعم جهود الحكومة الجديدة لاستعادة الفُرَص للمستثمرين من القطاع الخاص وإعادة الإعمار.
إنَّ هذه الفترة سوف تُشكّلُ ملامحَ مُستقبلِ سوريا. وإذا كافحَ قادةُ البلاد الجُدد وتعثّروا في تنفيذ الإصلاحات وإلهام الثقة وإعادتها إلى مواطنيهم والقوى الخارجية ــوإذا استمرّت هذه القوى في فرضِ العقوبات وحجب المساعدات اللازمةــ فإنَّ البلادَ تُخاطرُ بالوقوع في فوضى أعمق وعُنفٍ متجدّد من شأنه أن يؤدّي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية في سوريا وزيادة نزوح وإفقار شعبها.
بلدٌ في حالةِ خراب
قبل اندلاع الحرب الأهلية في العام 2011، كان لسوريا اقتصادٌ مُتنوِّعٌ نسبيًا، حيث ساهمت الزراعة وصادرات النفط والتصنيع وقطاع الخدمات المتنامي في الناتج المحلي الإجمالي. كانت البلاد ناشئة كمركزٍ إقليمي للتجارة والسياحة، مع نموٍّ اقتصادي مُتواضع مدفوعًا بإصلاحاتٍ مُوَجَّهة نحو السوق تم تقديمها في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لكن بعدَ أكثر من عقدٍ من الصراع، ورثت السلطات الانتقالية في سوريا الآن بلدًا في حالةٍ يُرثى لها. انكمشَ الناتجُ المحلي الإجمالي السوري بأكثر من 80 في المئة منذ العام 2011، حيث يعيش 90 في المئة من السكان تحت خط الفقر. أدّى التضخُّمُ الجامح إلى تدمير العملة الوطنية، حيث خسرت الليرة السورية أكثر من 99 في المئة من قيمتها في أكثر من عقدٍ بقليل. وارتفعت معدلات البطالة إلى مستوياتٍ جديدة، وترك النزوح الواسع النطاق الملايين من الناس مع فرصةٍ ضئيلة للعودة إلى الاستقرارِ الاقتصادي.
البنية التحتية للبلاد مُحَطَّمة أيضًا. تمَّ تدميرُ قطاع الطاقة، الذي يُعَدُّ أمرًا بالغ الأهمّية لدعمِ مالية الدولة. لقد تعرّضت محطات الطاقة ومصافي النفط وشبكات التوزيع للتدمير أو النهب بشكلٍ منهجي، أو أصبحت في حالةٍ سيئة. والآن تكافح سوريا، التي كانت في السابق مُصدّرًا صافيًا للنفط، لتلبية احتياجات الطاقة المحلية الأساسية، حيث تتوفّرُ الكهرباء لبضع ساعات فقط في اليوم في جميع أنحاء البلاد.
لقد أدّت عقودٌ من العقوبات الدولية والعزلة إلى فصل سوريا عن الاقتصاد العالمي. كانت العقوبات، التي فرضتها الدول الغربية في المقام الأول، تهدفُ إلى الحدِّ من قدرةِ النظام السوري على تمويل عملياته العسكرية وقمع المعارضة، وإجباره على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولكن إلى جانبِ استهدافِ الأفراد والمؤسّسات المسؤولة عن الانتهاكات، تمَّ توسيعُ العقوبات لتشمل قطاعات اقتصادية واسعة النطاق، مثل البنوك والطاقة. ومن شأن هذه التدابير القسرية، التي لا تزال سارية، أن تزيدَ من تعقيدِ التحدّيات التي تواجه التعافي الاقتصادي. ومع اشتراط الغرب لإعادة الإعمار والمشاركة الديبلوماسية على وجوب سعي النظام السابق نحو تسوية سياسية مع الجماعات المتمردة، وهو الأمر الذي كان الأسد يكره القيام به، أصبحت سوريا معزولة. إنَّ وضع النظام الأسدي كدولةٍ منبوذة حالَ دون حصوله على دعمٍ تنموي كبير أو قروض من اللاعبين الإقليميين الرئيسيين بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والدول العربية، فضلًا عن المنظمات المتعددة الأطراف مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
الواقع أنَّ النخب المُرتبطة بالنظام السابق تمكّنت في كثيرٍ من الأحيان من تجاوز بعض العقوبات والقيود، لكنَّ السوريين العاديين عانوا من التأثيرات الكاملة وانقطعوا إلى حدٍّ كبير عن الأنظمة المالية الدولية. وقد أدى هذا العزل إلى إزالة الفرص الاقتصادية، وخنق نشاط القطاع الخاص، وتقليص تعرّض البلاد للأسواق العالمية، وكلها أمورٌ حيوية للتعافي الاقتصادي. كما قدّمَ التحوُّلُ إلى اقتصاد زمن الحرب فرصًا جديدة للابتزاز والفساد، ما أدى إلى تفريغ هياكل الدولة بشكلٍ أكبر، وترسيخ عدم الكفاءة، وتقويض المرونة الاقتصادية.
التعافي في خطر
مع صراع سوريا مع هذه المشاكل الاقتصادية، بدأت عقباتٌ جديدة تتشكّل من شأنها أن تزيدَ من تعقيدِ جهودِ التعافي وتتطلّبُ الاهتمامَ العاجل من أيِّ قيادةٍ مستقبلية. من بين التحدّيات الأكثر إلحاحًا هو التدفُّق المُتوقَّع للعائدين. فقد نزح أكثر من خمسة ملايين سوري إلى الخارج على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية، ويُفكر الكثيرون منهم الآن في العودة إلى ديارهم. لكن سوريا تفتقرُ إلى القدرة على استيعاب حتى جُزءٍ ضئيل من هذا العدد. الواقع أنَّ البنية الأساسية في البلاد أصبحت بالفعل منهارة إلى ما يتجاوز حدود قدرتها لتلبية احتياجات السكان الحاليين. فقد دُمِّرَ ثلث المساكن أو أصبح غير صالح للسكن، وقد تعرّضَ الكثير منها للقصف من جانب القوات الحكومية السورية والروسية وميليشيا “حزب الله”. وأصبحت الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم والصرف الصحي في حالةٍ يُرثى لها. وعلاوةً على ذلك، تُهدّدُ النزاعات القانونية غير المحلولة بشأن ملكية الممتلكات وغياب الآليات المؤسّسية القوية لتسهيل إعادة الإدماج بتعميق التوتّرات الاجتماعية.
إنَّ التحدّي الآخر القصير الأمد سيكون كفاح الحكومة الناشئة للتغلُّبِ على العقوبات الشاملة. ولأنَّ “هيئة تحرير الشام” مُصنَّفة كمنظمةٍ إرهابية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، من بين جهات أخرى، فإنَّ العقوباتَ والقيود الاقتصادية الأخرى التي تمَّ تطبيقها في الأصل على نظام الأسد وحلفائه امتدت فعليًا إلى جميع أنحاء سوريا. إنَّ الحفاظ على هذه العقوبات لن يؤدّي إلّا إلى تكثيف عزلة سوريا من خلال الحدِّ بشكلٍ كبير من وصول البلاد إلى مساعدات إعادة الإعمار والاستثمار الأجنبي. لن ترفع القوى الغربية العقوبات إلّا إذا التزمت الحكومة الجديدة بقيادة المتمرّدين بوضوح بالإصلاح السياسي والاستقرار، ولكن ما إذا كانت “هيئة تحرير الشام” قادرة على القيام بذلك بشكلٍ موثوق ما زالَ غير واضح.
إنَّ توحيدَ الاقتصاد السوري المُجَزَّإِ يُشكّلُ تحدّيًا حاسمًا آخر. لمدة سبع سنوات تقريبًا، كانت البلادُ مُقَسَّمة إلى أربع مناطق سيطرة رئيسة يحكمها نظام الأسد؛ الإدارة الذاتية الكردية بقيادة قوات سوريا الديموقراطية (قسد)؛ الحكومة السورية المؤقتة المدعومة من تركيا؛ وحكومة الإنقاذ السورية التابعة ل”هيئة تحرير الشام”. كانت لكلِّ منطقة أنظمتها وسياساتها الاقتصادية الخاصة، وكانت مستويات المعيشة فيها مُتباينة على نطاقٍ واسع: حيث تراوحت الرواتب الشهرية لموظفي حكومة الإنقاذ السورية من 80 إلى 110 دولارات، مُقارنةً بـ 24 إلى 30 دولارًا فقط لموظفي الحكومة في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد. والآن بعدما استولت “هيئة تحرير الشام” على معظم المؤسّسات السياسية في سوريا باستثناء المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديموقراطية”، يتعيّن عليها دمج هذه الاقتصادات المُجَزَّأة. إنَّ صياغةَ إطارٍ وطني مُتماسك يتطلّب التوفيق بين نماذج الحكم والعملات المختلفة – وهي ليست مهمة سهلة. على سبيل المثال، نفذت “هيئة تحرير الشام” الزكاة، وهو شكل من أشكال الضرائب القائمة على المبادئ الإسلامية التي قد تواجه مقاومة إذا تم تطبيقها في جميع أنحاء سوريا. كما يختلف استخدامُ العملة عبر المناطق، حيث تنتشر الليرة السورية في المناطق التي كانت تحت سيطرة الأسد سابقًا والليرة التركية المستخدمة على نطاق واسع في المناطق الشمالية. ولإرساء الأساس للتعافي، يجب على القيادة الجديدة اعتماد الليرة السورية كعملةٍ وطنية مُوَحَّدة، وعكس السياسات الحمائية غير المُنتِجة في التجارة وتفكيك دعم سعر الصرف للإنتاج المحلي غير الفعّال. وسوف تشكل مثل هذه التغييرات تحوّلًا مفاجئًا في الوضع الراهن، ولكنها ضرورية لخلق بيئة اقتصادية مستقرّة والإشارة إلى استعداد الحكومة الجديدة لمواصلة الإصلاحات ذات المغزى.
إنَّ ما يزيد من تعقيد عملية التوحيد هي المصالح المتنافسة لنُخب الأعمال التي ظهرت خلال مسار الصراع في المناطق الواقعة خارج سيطرة دمشق، وخصوصًا تلك الآتية من إدلب في الشمال الغربي، والتي ازدهرت في ظلِّ نظامٍ يشبه الرأسمالية المحسوبية لنظام الأسد. ومن المرجح أن يتنافس هؤلاء اللاعبون الأقوياء على حصّةٍ أكبر من الكعكة الاقتصادية في سوريا ما بعد الأسد، ما سيخلق توتّرات مع شبكات الأعمال التقليدية في مدنٍ مثل حلب ودمشق واللاذقية التي كانت تُهيمن عليها في السابق محسوبيات الأسد والتي قد يتم نبذها في ظل الحكومة الجديدة. وقد تسعى الجهات الاقتصادية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسلطة الجديدة في دمشق أيضًا إلى الاستفادة من الفرص التي خلقها انهيار النظام والفراغ الذي خلّفته نُخَب الأعمال القريبة من الأسد. بمجرّد أن سيطرت “هيئة تحرير الشام” على حلب، على سبيل المثال، بدأت شركة “سوريا فون”، وهي شركة اتصالات تابعة لحكومة المجموعة في إدلب، في المناورة لسد الفجوة التي خلفها مقدّمو الخدمات في المناطق التي كانت تحت سيطرة قوات الأسد سابقًا.
يجب أن يحدثَ التوحيد أيضًا على مستوى السيطرة الإقليمية. إن “قوات سوريا الديموقراطية”، بدعمٍ من الولايات المتحدة، تستمرُّ في السيطرة على العديد من الموارد الطبيعية في سوريا، وخصوصًا حقول النفط. وتُعقّدُ هذه الديناميكية الجهود الرامية إلى إنشاء إطارٍ اقتصادي وطني متماسك والتوفيق بين المطالبات المتنافسة. ومع ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تستخدمَ نفوذها على “قوات سوريا الديموقراطية” و”هيئة تحرير الشام” لمنع هذه الفصائل من القتال على المناطق المتنازع عليها، وضمان احترام الحكومة الجديدة للأكراد السوريين ودمجهم في الهياكل السياسية والاقتصادية للبلاد، وفي نهاية المطاف تمكين الانسحاب المنظّم للقوات الأميركية من سوريا. ويعتمد التعافي الاقتصادي للبلاد على الإدارة الفعالة للمناطق الغنية بالنفط، سواء من أجل استقرار الحكم أو لضمان قدرة هذه الموارد الحيوية على المساهمة في إعادة الإعمار الوطني.
الطريقُ للخروجِ من تحت الأنقاض
يُواجهُ الشعبُ السوري تحدّيات هائلة، وبعد أكثر من عقد من الصراع والدمار، لن تكفي الحلولُ الجُزئية. فقط الإصلاحات الشاملة والعملية، المدعومة بالمشاركة الدولية، يُمكن أن تمهّدَ الطريق إلى الأمام.
يجب أن ينصبَّ التركيزُ الفوري على معالجة الأزمة الإنسانية في البلاد. يُعاني ملايين السوريين حاليًا من الفقر المدقع والجوع والنزوح، مما يجعل جهود الإغاثة واسعة النطاق ضرورية. إنَّ إعادةَ بناء البنية التحتية الحيوية -وخصوصًا في قطاعات الطاقة والإسكان والنقل- أمرٌ ملح وعاجل. إنَّ استعادة إمدادات الكهرباء والوقود ليست مجرّد ضرورة عملية فحسب، بل هي أيضًا شرطٌ أساسي للنشاط الاقتصادي وشبه الحياة الطبيعية. وفي هذا الصدد، فإنَّ إدخالَ المناطق الغنية بالنفط، وخصوصًا تلك التي تسيطر عليها “قسد” في شمال شرق سوريا، في إطارٍ وطني أوسع سيكون أمرًا بالغ الأهمية لضمان أمن الطاقة والتوزيع العادل للإيرادات وعودة الاستثمار الدولي.
إنَّ تلبيةَ هذه الاحتياجات العاجلة تتطلّب تمويلًا كبيرًا من المجتمع الدولي، ومن المرجح أن يكونَ ذلك مشروطًا بمساعداتِ إعادة الإعمار أو رفع العقوبات على الإصلاح السياسي. وكما أبرزَ بيانٌ صدرَ أخيرًا عن مجموعة الدول السبع، لن تتمكّنَ سوريا من فتح الدعم الدولي إلّا من خلال إحراز تقدّم نحو تلبية شروط قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254، الذي حدد في العام 2015 مسارًا للسلام في سوريا من خلال انتقالٍ سياسي ديموقراطي. وبدون هذه الخطوات الأساسية (والمساعدة اللاحقة من المجتمع الدولي)، فإنَّ أيَّ تعافٍ أوسع نطاقًا سيظلُّ محفوفًا بالمخاطر في أفضل الأحوال. وبالتالي، يتعيّن على الحكومة الناشئة في دمشق إعطاء الأولوية للإصلاح السياسي. ومن جانبهم، يتعيّنُ على صنّاع السياسات الغربيين تحديد أهداف واقعية وتحديد خطوات واضحة للسلطات الجديدة في دمشق لتتبعها. ولا يستطيع السوريون تحمّل المزيد من التأخير. ومع اشتداد برد الشتاء ونقص السلع الأساسية، فإنَّ العمل ضروريٌ للتخفيف من المعاناة وإرساء الأساس للتعافي المُستدام.
إنَّ تخفيف العقوبات على مراحل سيكون ضروريًا أيضًا لتعافي سوريا. ومع خروج الأسد من الصورة، ينبغي للغرب أن يُقدِّمَ على الفور تخفيفًا غير مشروط للعقوبات في قطاعاتٍ رئيسة، مثل الطاقة والكهرباء والخدمات المصرفية، لإعادة دمج سوريا اقتصاديًا والسماح لهذه الصناعات الحيوية بالتعافي. ومع ذلك، ينبغي أن يظلَّ تخفيفُ العقوبات الأوسع نطاقًا، في ما يتصل بإزالة “هيئة تحرير الشام” من قوائم تصنيف الإرهاب، مُرتبطًا بمعايير قابلة للقياس في إصلاحات الحكم، بما في ذلك الشمولية واحترام حقوق الإنسان والالتزام بالانتقال الديموقراطي. ومن شأن هذا النهج أن يستخدم العقوبات القائمة لتحفيز الإصلاح مع تعزيز الثقة الدولية في المسارَين السياسي والاقتصادي لسوريا.
وبعيدًا من الإغاثة الاقتصادية الدولية، يتعيّن على السوريين أنفسهم أن يقودوا التنمية المستدامة، من أجل السوريين، وأن يدعمها نشاط القطاع الخاص. وسوف يكون تنشيط القطاع الخاص ضروريًا للحد من الفقر وتعزيز الاعتماد على الذات. لقد أدّت عقودٌ من المحسوبية والعقوبات إلى خنق روح المبادرة، ما جعل الشركات متردّدة في الاستثمار في بيئةٍ قسرية ومُظلِمة. ولاستعادة الثقة وتحفيز النشاط الاقتصادي، فمن الضروري تطوير قدرات السوق الحرة من خلال تشجيع الملكية الخاصة وريادة الأعمال، وتعزيز المنافسة، وخفض الحواجز أمام الشركات الجديدة، وإنشاء إطار تنظيمي شفاف. والواقع أن الإصلاحات الفورية المطلوبة، بما في ذلك عكس السياسات الحمائية المفروضة على الواردات وتفكيك آليات سعر الصرف التي تدعم الإنتاج المحلي غير الكفء، تُشكّلُ ضرورة أساسية لخلق تكافؤ الفرص وتشجيع النمو الاقتصادي.
وأخيرًا، إنَّ التعافي الطويل الأجل لسوريا سوف يعتمدُ على إعادة الاندماج في الاقتصاد العالمي من خلال اتفاقيات التجارة والشراكات الإقليمية والمشاركة الديبلوماسية. يتعيّن على قادة البلاد الجدد أن يُدركوا أنَّ الفشلَ في تلبية توقّعات المجتمع الدولي في ما يتصل بالإصلاح السياسي والشفافية من شأنه أن يؤدّي إلى إطالة أمد عزلة البلاد، وتعميق عدم الاستقرار، وتفاقم الأزمة الإنسانية. وكما أظهرت السنوات الثلاث عشرة الماضية، فإنَّ ما يحدث في سوريا لا يبقى في سوريا. وإذا لم تتمكّن الحكومة الجديدة والمجتمع الدولي من العمل معًا لتنفيذ إصلاحاتٍ ذات مغزى، فإنَّ الشعب السوري والمنطقة ككل سوف يُعانيان من العواقب.
- كرم شعّار هو مدير “شركة كرم شعّار الاستشارية المحدودة”، وهي شركة استشارية تُركّزُ على الاقتصاد السياسي في سوريا.
- بنيامين فيفي هو باحث في “شركة كرم شعّار الاستشارية المحدودة”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.