الشرع والسنوار
محمَّد قَوَّاص*
قادَ يحيى السنوار هجومَ “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. حَمَلَ قطاعَ غزّة معه نحو مصيرٍ بدا مجهولًا آنذاك وباتَ معلومًا هذه الأيام. لم تَكُن المنطقةُ العربية على عِلمٍ بمعركةٍ جديدةٍ تُشبِهُ حكاياتَ المغامرين الانتحاريين تُبرِّرُ لغازي حمد، أحد قادة حركة “حماس” في الخارج، عَتَبهُ على عدمِ تَحَرُّكِ الجيوش العربية. لم يُبلّغ السنوار السلطة الفلسطينية والفصائل، وهذا يُمكِنُ فهمه، لكنه لم يُبلّغ أيضًا قيادةَ الحركة نفسها. ارتجلت قياداتٌ مثل اسماعيل هنيّة وخالد مشعل وموسى أبو مرزوق وغيرهم التحاقهم بـ “الطوفان” وراحوا يُنَظِّرونَ لفلسفته ومآلاته.
في سوريا قاد أبو محمد الجولاني، الذي عرفناه لاحقًا باسمه الحقيقي، أحمد حسين الشرع، هجومَ “هيئة تحرير الشام” وفصائل أخرى في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي الذي انتهى إلى إسقاط نظام بشّار الأسد في سوريا في 8 كانون الأول (ديسمبر) الجاري. تحرّكَ على رأس عملية “ردع العدوان”، فيما، لاحقًا، تحرّك “الجيش الوطني السوري” في عمليةٍ أخرى، في 30 من الشهر نفسه، باسم “فجر الحرية”، قبل أن تتحرّكَ السويداء ودرعا جنوبًا لإنجازِ مهمّةٍ لإسقاط النظام كانت ابتدأت في العام 2011.
نستنتجُ لاحقًا أنَّ وراءَ تحرُّكِ فصائل المعارضة “مايسترو” في تركيا شديد التواصل مع عواصم العالم في الجهات الأربع. بدا أنَّ سقوطَ النظام لم يكن ليحصل لولا همّة جماعية مُنسَّقة لكل قوى المعارضة، لكنه كان من المستحيل أن يحصل لولا تضافر ظروف ومصالح وأجندات وأمزجة إقليمية دولية اجتمعت لترفع، راضيةً أو مُكرَهة، كلَّ غطاءٍ عن النظام وأيّ رادعٍ بَحُول دون زواله. لم يَكُن الشرع سوى جُزءٍ من كلٍّ كبيرٍ واسعٍ ومُتشعّب. وحين تحدث إلى ال”سي أن أن” ( CNN) الأميركية وَعَدَ ببناءِ سوريا من خلال حوارٍ مع “الآخرين”.
لم يَملُك السنوار نعمةَ “المايسترو” وفضيلةَ التنسيق مع كافة الفصائل الفلسطينية. والأرجح أنَّ ظروفَ غزّة وفلسطين عامة لا تسمح أمنيًا ولضروراتٍ سرّية ما خطّط له أن يُلمّحَ ولو عَرَضًا بمغامرةٍ هي أقرب إلى المقامرة في “طوفانه” الموعود. وإذا ما كانت مدارسه العقائدية والسياسية تُبعده عن العرب وعواصمهم الرسمية، فإنَّ محوره “المقاوم” الذي تتزعمه إيران، اشتكى أيضًا الجهل بـ”طوفانه”. برعت طهران لاحقًا، على كافة المستويات القيادية، بما في ذلك المرشد الأعلى، علي خامنئي، في التبرُّؤ من الحدث. وحين حجّ قيادي “حماس”، اسماعيل هنيّة، إلى طهران، أنّبه المرشد، وفق تسريبات “مقصودة” إلى “رويترز”، وأبلغه أنَّ “إيران لن تُدافع عنكم”.
والفرقُ بين عدوّ السنوار وعدوّ الشرع شاسعٌ في طبيعته.، بدا النظامُ السوري وقد بات “رأسًا قد أينع” وكثر في العالم مَن يُريدُ “قطافه”. بالمقابل بدا أنَّ إسرائيل، التي علّمت الكتبُ السنوار وعلّمتنا أنها “رأسُ حربة لمخطّطات الخارج”، ما زال الغرب يعتبرها أيقونته، وعبّر عن دعم هستيري لها بعد ساعاتٍ من الـ”الطوفان”. كان مُستحيلًا على “المغامر” الفلسطيني، وحيدًا، من دون قيادة تنظيمه وقيادة محوره، ومن دون سندٍ عربي لم ينشده، وغطاءٍ إسلامي لم يهمّه، وبيئةٍ دولية مستحيلة، أن ينالَ من عدوٍّ له في العالم جذورٌ وحصانة وقوة.
انتهت غزّة إلى ما انتهت إليه فيما لا نعرف كيف ستنتهي “غزوة” الشرع. قتلت حرب “الطوفان” السنوار وكثيرًا من الغزّيين وما زالت تلك الحرب لا تحمل آمالًا كبرى للقطاع والضفة الغربية ومستقبل فلسطين في دولتها المنشودة. ما زال العالم يخفي خططه ل”اليوم التالي” في غزّة رافضًا وجودًا لـ”حماس” في مستقبل القطاع. بالمقابل تتبرّعُ العواصم بالتعبير عن “ارتياح” لما يجري في سوريا، بما في ذلك صحوة مفاجئة للرئيس الأميركي، جو بايدن، على وجودِ هذا البلد. وتُلمّحُ واشنطن ولندن، وستتبعهما عواصم أخرى، برفع الشرع و”هيئته” عن لوائح الإرهاب.
لا تحظَ غزّة بما تحظى به سوريا من اهتمام واحتضان. هو تَمَيُّزٌ يناله الشرع ولم يتوفّر للسنوار. يرى الغرب “حماس” إرهابًا مطلقًا، فيما يرى إرهابية “الهيئة” وجهة نظر يسهل إسقاطها. يبقى على الشرع الذي أجاد، حتى الآن، الاعتراف بشركاء الداخل، والاستفادة من عوامل الخارج جميعها، وعرف قراءة فنون المُمكِن والمستحيل، وأدركَ علم المصالح ومصطلحاته، أن يستنتجَ أنَّ لسوريا مكانةً ووظيفة في المنطقة والعالم، لا تحتمل زلّات ماضوية مقلقة للسوريين وعواصم القرار قد تحكم على “غزوته” مصيرًا يشبه “الطوفان”.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).