التَخلُّصُ من قيودِ الديون السيادية: كيفَ يُمكِنُ للدائنين والمدينين إنهاءَ الأزمة العالمية
على الرُغمِ مما قد يعتقده الدائنون، فإنَّ أزمة الديون السيادية لها عواقب بعيدة المدى وطويلة الأمد على العالم بأسره، وليس فقط على البلدان التي تُعاني من أعباءِ ديونٍ غير مُستدامة.
مارتن أبريغو، وكريستال سيميوني، وندونغو سامبا سيلّا*
يعيشُ أربعةٌ من كلِّ عشرةِ أشخاصٍ في العالم في بلدٍ يُنفِقُ أموالًا أكثر على خدمة فوائد ديونه السيادية مُقارنةً بما يُنفقهُ على التعليم أو الرعاية الصحية. قد تبدو مثل هذه الأرقام مُجرّدة للدائنين، الذين هم في المقام الأول البلدان الغنية والبنوك المُتعدّدة الأطراف وحاملي السندات الكبار، لكنها تُشكل مسألةً أكثر أهمّية بالنسبة إلى الدول المُثقلة بالديون. كلُّ دولارٍ يُنفَقُ على سدادِ الديون السيادية هو دولارٌ كان من الممكن إنفاقه على الخدمات العامة – بناء الطرق، وإصلاح المدارس، والبنية الأساسية المقاومة للتغيّر المناخي، ودفع رواتب الأطباء والموظفين المدنيين. وبهذه الطريقة تساعد خطط السداد، وكثيرٌ منها استغلاليٌ، على إبقاء البلدان النامية تحت وطأة الديون التي تبدو غير قابلة للتزعزُع.
إنَّ البلدانَ المُنخَفِضة والمتوسّطة الدخل ــدول الجنوب العالميــ لديها رصيدٌ جماعي من الديون العامة الخارجية يبلغ 3 تريليونات دولار، وهو رقم تضاعف منذ العام 2010. ويُشكّلُ هذا العبءُ تهديدًا كبيرًا للاستقرار العالمي. فالبلدانُ الأكثر عُرضةً لتغيُّر المناخ، على سبيل المثال، هي أيضًا الأكثر عُرضةً للتعثُّر بسبب مدفوعات الديون. وهذا يعني أنَّ البلدانَ المُنخفضة والمتوسّطة الدخل التي تُواجهُ ضغوطًا مناخية حادة لا تستطيع الاستثمار في تدابير التخفيف والبُنية الأساسية التي تحتاج إليها أكثر من غيرها. ولكنَّ تحقيقَ أهداف المناخ والتنمية يتطلّب تمويلًا كبيرًا. ووفقًا لبعض التقديرات، تحتاج أفريقيا إلى 2.8 تريليونين دولار بحلول العام 2030 فقط للعمل المناخي، حوالي 90 في المئة منها من مصادر خارجية، بما فيها تحمّل المزيد من أعباء الديون. ويُهدّدُ عدم كفاية العمل بشأن الانبعاثات الاستقرار العالمي، من خلال تأجيج الفقر وتكثيف الهجرة.
إنَّ هذا الوضعَ ليس نتيجةً لنظامٍ اقتصادي دولي مُعطَّل؛ بل هو التصميمُ المقصودُ للنظام. في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت البلدان الأكثر ثراءً والمستثمرون من القطاع الخاص طُرُقًا لكسب المال من البلدان المُنخَفِضة والمتوسّطة الدخل في كلِّ منعطف. ويشمل ذلك هايتي، التي دمرها زلزالٌ في العام 2010. وقد قُدِّرت الأضرار بأكثر من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وبالتالي اعتمدت هايتي بشكلٍ كبير على القروض لإعادة البناء، مما زاد من عبء ديونها. ومن الأمثلة الحديثة الأخرى سريلانكا، التي شهدت أزمة ديون في العام 2022 ناجمةً عن انخفاض الإيرادات الحكومية إلى جانب الديون الخارجية المرتفعة. وقد أدى ذلك إلى انهيارٍ اقتصادي واضطرابات اجتماعية. وعلى مستوى العالم، وصل العبء الجماعي إلى نقطة الانهيار: حيث تُنفقُ البلدان المُنخفضة الدخل، فضلًا عن البلدان الأكثر عُرضةً لتغيُّر المناخ، ضعف ما تتلقّاه من تمويلِ المناخ على خدمة ديونها.
حتى الآن، لم يَكُن لجهود الإصلاح تأثيٌرٌ يُذكَر، بسبب فشل الخيال والتنفيذ. لقد فشلت آلياتٌ مثل الإطار المشترك الذي أطلقته مجموعة العشرين في معالجة جذور المشكلة. ولإحداث التغيير الحقيقي، يتعيّن على الدائنين والمدينين بناء شراكات في ما بينهم، ولكن أيضًا العمل بشكلٍ مستقل. ويتعيّن على الدائنين أن يُدركوا ليس فقط الحوافز الأخلاقية، بل وأيضًا الحوافز الاقتصادية والبيئية والسياسية المترتبة على إعادة هيكلة الديون أو إلغائها. ويتعيّن على المدينين أن يعيدوا النظر بجدية في كيفية وتوقيت إصدار الديون، وخصوصًا تلك التي تصدر بالعملات الأجنبية، وأن يُشدّدوا الضوابط المفروضة على عائدات صادراتهم، وهو ما من شأنه أن يُقلّلَ من الحاجة إلى تحمُّل ديونٍ باهظة في المقام الأول.
التحصيل
إنَّ الديونَ البنيوية التي تُعاني منها بلدان الجنوب العالمي تنبعُ من الطريقة التي يَفرُضُ بها النظام المالي العالمي الحالي على البلدان المُنخفضة والمتوسّطة الدخل تجميع العملات الأجنبية، مثل الدولار الأميركي، من أجل شراء السلع أو الخدمات الأجنبية المُباعة بهذه العملات. في سبعينيات القرن العشرين، على سبيل المثال، وسّع العديد من البلدان الأفريقية ديونه لتمويل التنمية بعد الاستقلال. ولكن بحلول العقد التالي، أدّى ارتفاعُ أسعار الفائدة العالمية وانخفاضُ أسعارِ السلع الأساسية إلى أن يُكافحَ العديد من هذه البلدان فجأةً للوفاء بالتزاماته المُتعلّقة بالديون. ونتيجةً لهذا، فرضت المؤسّسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إصلاحات اقتصادية على البلدان المدينة، مما تسبّبَ في تخفيضات كبيرة في الإنفاق العام ومجموعة من تدابير التقشّف. ولم يؤدِّ هذا إلّا إلى تفاقُم ما أصبح أزمة عالمية للديون السيادية. في العام 1987، وصف توماس سانكارا، رئيس بوركينا فاسو آنذاك، مثل هذه الديون بأنها “استعادةٌ ماهرة لأفريقيا، تهدفُ إلى إخضاعِ نموّها وتطوّرها من خلال قواعد أجنبية”. كان يبدو كأنه يتحدث عن العديد من المناطق في جميع أنحاء العالم.
في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008، خلقت السياسات النقدية غير التقليدية للبنوك المركزية في الشمال العالمي –ولا سيّما سياسات أسعار الفائدة الصفرية والتيسير الكمّي– كميات هائلة من السيولة والعائدات المنخفضة. وقد أثار هذا شهيةَ المموِّلين العالميين للأسواق “الغريبة” حيث يمكنهم تأمين عائدات أعلى. في الوقت نفسه، اغتنمت الحكومات في الجنوب العالمي هذه الفرصة لبيع السندات بالعملات الأجنبية لهؤلاء الدائنين من القطاع الخاص، لأنَّ هذا الشكل من الديون كان يُنظَرُ إليه على أنه أكثر جاذبية. وعلى النقيض من أزمة الديون في الثمانينيات، حيث كانت البلدان المُنخفضة والمتوسّطة الدخل مدينة بديون للبنوك الغربية، فإنَّ غالبية الديون الخارجية الحالية مستحقة لدائنين من القطاع الخاص، بما في ذلك مستثمري السندات، مثل شركات إدارة الأصول، ودول دائنة عالمية جديدة، مثل الصين ودول الخليج المختلفة. ساهمت هذه التطورات في تضخّم أعباء الديون. على سبيل المثال، بلغ الدين السيادي هذا العام لغانا أكثر من 80% من ناتجها المحلي الإجمالي؛ الأرجنتين ومصر، كلاهما أكثر من 90 في المئة؛ ولاوس، أكثر من 108 في المئة؛ ولبنان أكثر من 201%.
إنَّ الديونَ السيادية تشلُّ إمكانات أي دولة. ففي القرن التاسع عشر، كان على هايتي أن تدفعَ تعويضات لفرنسا ــالمستعمر السابق ــ كثمنٍ لاستقلالها. وللقيام بذلك، اضطرّت إلى الاقتراض، أوّلًا من فرنسا ثم من البنوك الأميركية لاحقًا، لتمويل المدفوعات. وقد أثقل عنصر الديون السيادية في هذا المخطط كاهل هايتي بشدة لأكثر من قرن، ولا تزال العواقب تتردد حتى الآن: إذ يُقدِّرُ الباحثون أنه لولا عبء الديون هذا، لكان الناتج المحلي الإجمالي لهايتي في العام 2020 أعلى بثماني مرات مما كان عليه في السابق.
وفي محاولةٍ لتخفيف العبء، يتمُّ تحفيزُ البلدان النامية المُثقلة بالديون على متابعة المشاريع التي تُحقّقُ أكبر عوائد نقدية يمكن تحويلها بعد ذلك إلى عملةٍ صعبة، مثل الطرق والأوتوسترادات السريعة ذات الرسوم، وتنمية السياحة، والتعدين واستخراج الموارد الطبيعية. ولكن هذه المشاريع نادرًا ما تتماشى مع المصالح الفضلى للمواطنين. إنَّ هذه السياسات تأتي على حساب الاستثمارات في التعليم والرعاية الصحية وغيرهما من الخدمات، وخصوصًا تلك التي تفيد النساء والأطفال ــ بما فيها رعاية صحة الأم والوصول إلى رعاية الأطفال ــ والتي تميل إلى أن تكون من بين الأهداف الأولى لتدابير التقشُّف. وهذا يعني أن قدرًا كبيرًا من الضغوط المادية الناجمة عن أعباء الديون التي تتحمّلها أي دولة تنتقل مباشرة إلى مواطني تلك الدولة، وبخاصةٍ إلى أسرها، وبشكلٍ خاص إلى النساء.
على الرُغمِ مما قد يعتقده الدائنون، فإنَّ هذه المحنة لها عواقب بعيدة المدى وطويلة الأمد على العالم بأسره، وليس فقط على البلدان التي تُعاني من أعباءِ ديونٍ غير مُستدامة. فالبلدان النامية تَميلُ إلى أن تكونَ أكثر عُرضةً لعواقب تغيُّر المناخ وأقل تجهيزًا للتكيُّف معه. كما تضاعفت أقساط الديون من قبل البلدان الخمسين الأكثر عُرضةً لآثار تغيُّر المناخ منذ بداية جائحة كوفيد-19، مما أعاق قدرتها على الاستثمار في مشاريع التخفيف أو التكيُّف. وقد أدت هذه الديناميكية إلى نشوءِ حلقة مفرغة وسيئة لا معنى لها: من المُفترَض أن يساعد الدائنون الأثرياء البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط على تمويل تدابير المرونة المناخية أو إصلاح الأضرار المُرتبطة بتغيُّر المناخ؛ ثم يأتون لتحصيل أقساط الديون ذات الفائدة المرتفعة من البلدان نفسها! وعلاوةً على ذلك، تضطر البلدان الضعيفة في بعض الأحيان إلى الحصول على قروضٍ جديدة لإعادة البناء بعد الكوارث التي لم تكن مُستعدّة للتعامل معها في المقام الأول، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى أنَّ الأموالَ التي كانت ستُنفقها على البنية الأساسية الضرورية أو جهود الاستعداد استُخدِمَت بدلًا من ذلك لسداد القروض السابقة.
الإصلاح والوظيفة
إنَّ الحكومات والمؤسّسات الدولية تُدركُ حجمَ وتعقيدَ هذه الأزمة المُعقّدة واتّخَذت بعض الخطوات لمعالجتها. في العام 2020، على سبيل المثال، أنشأت مجموعة العشرين الإطار المشترك، والذي كان من المفترض أن يعملَ فيه المقرضون التقليديون، مثل الحكومات الغربية، والحكومات الأحدث، مثل الصين، مع البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل لإعادة هيكلة الديون وتعليق بعض سداد الديون. في ذلك الوقت، أشاد كثيرون بالإطار باعتباره خطوة جادة نحو تخفيف أعباء الديون عن الجنوب العالمي. ومع ذلك، فقد ثبت في الممارسة العملية أنه غير كافٍ تمامًا – ولم ينتج، وفقًا لكبير خبراء الاقتصاد في البنك الدولي، “دولارًا واحدًا من تخفيف الديون”. العديد من البلدان المتوسطة الدخل التي تعاني من أعباء ديون ثقيلة، مثل سريلانكا، لا يمكنها التأهّل للإطار المشترك، بسبب عتبات الدخل التعسّفية للبرنامج. وغالبية البلدان المدينة المؤهّلة لم تتقدّم بطلب للحصول على البرنامج. ويرجع هذا إلى أن مجموعة متنوّعة من الدائنين، الذين لديهم وجهات نظر وحوافز مختلفة، يتعيّن عليهم التوصُّل إلى إجماعٍ بشأن استراتيجيات إعادة هيكلة الديون في الإطار المشترك، وهو ما قد يتسبب في تأخيراتٍ مُطَوَّلة في تخفيف الديون. كما يمكن للدائنين أن ينظروا إلى مشاركة المدين في الإطار المشترك بشكل سلبي، ما يؤدي إلى خفض تصنيفه الائتماني وزيادة تكاليف الاقتراض في المستقبل، لذا فإنَّ عددًا من البلدان، الذي كان من الممكن أن يستفيدَ من الإطار، امتنعَ عن المشاركة فيه.
وفي مواجهةِ مثل هذه الإخفاقات، تتزايدُ الضغوط من أجل الإصلاح. ويدفعُ القادةُ في مختلف أنحاء الجنوب العالمي باتجاهِ التغيير من خلال جماعات المجتمع المدني الدولية مثل تحالف الديون المستدامة، الذي يوفر إطارًا للتعاون بين الدائنين والمدينين؛ والاتحاد الدولي للنقابات العمالية، الذي يدافع عن حقوق العمال من خلال التعاون بين النقابات الدولية؛ ومجموعة العشرين، وهي تضم بلدانًا مُعرَّضة بشكل خاص لتغيّر المناخ. وتُمارسُ مجموعةٌ من المنظّمات والحركات المعنية بالعدالة الاقتصادية في الجنوب العالمي ــ مثل المنتدى الأفريقي والشبكة المعنية بالديون والتنمية، وحركة الشعوب الآسيوية المعنية بالديون والتنمية، وتحالف مكافحة التفاوت ــ الضغوط لحل أزمة الديون بوسائل أكثر إنصافًا، بما في ذلك من خلال زيادة إشراك أصوات الجنوب العالمي في أماكن مثل مجموعة العشرين.
لكن في نهاية المطاف، قد يكون من الضروري أن ترتفعَ الضغوط إلى هيئةٍ أكبر، ولهذا السبب دعت منظمات المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم إلى إنشاء “إطار قانوني مُتعدّد الأطراف تحت رعاية الأمم المتحدة” من شأنه أن يُعالجَ قضية الديون غير المستدامة على نحوٍ أكثر شمولًا. ومن بين أمور أخرى، من شأن هذا الإطار المُتعدّد الأطراف أن يُعطي الأولوية لتقاسُم الأعباء بشكلٍ عادل بين جميع المُقرضين، بما في ذلك الدائنين من القطاع الخاص، والوساطة المستقلة في النزاعات، وهو ما من شأنه أن يحمي من ممارسات الإقراض الاستغلالية. والأمرُ الحاسم هو أنه من شأن ذلك أيضًا أن يُشجّعَ على إلغاء الديون.
وهناكَ أداةٌ أخرى تتمثّل في الرؤية. فقد استضافت إندونيسيا والهند والبرازيل قمم مجموعة العشرين الثلاث الماضية؛ وستستضيف جنوب أفريقيا قمة العام المقبل. وقد سلّطت هذه البلدان الضوءَ على أزمة الديون في رسائلها حول الاجتماعات. وتماشيًا مع مطالب دُعاة تخفيف أعباء الديون والبلدان المُثقلة بالديون، كررت رئاسة البرازيل التزام مجموعة العشرين “بمعالجة نقاط الضعف العالمية المرتبطة بالديون، بما في ذلك من خلال تكثيف تنفيذ الإطار المشترك”؛ وقد استند هذا إلى رئاسة الهند، التي منحت خلالها الكتلة الاتحاد الأفريقي وضع العضوية الكاملة. ولكنَّ الخطاب الديبلوماسي، مهما كانت نواياه حسنة، لا يُغني عن العمل الجاد. والمشكلة في الأساس هي مشكلة الوكالة: رفض الدائنين الأجانب تعديل النظام المميز الذي ورثوه بشكل إيجابي، وإهمال حكومات الجنوب العالمي التفكير بشكل إبداعي وشجاعة حول الكيفية التي قد تتمكّن بها من المناورة باقتصاداتها لإعطاء الأولوية لمصالح شعوبها.
من جانبهم، يتعيّن على الدائنين أن يُفكّروا بجدية في إلغاء الديون غير المستدامة. لقد بدأت آخر عملية كبرى لإلغاء الديون العالمية قبل ثلاثين عامًا، وساعدت بشكل كبير البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على الاستثمار في الرعاية الصحية والتعليم والبنية الأساسية واقتصاداتها، ما أدّى في بعض الحالات إلى ارتفاع معدلات النمو وتحسين مستويات المعيشة. وإذا قرر الدائنون الأثرياء أنهم يريدون إنهاء أعباء الديون هذه، فيمكنهم ذلك. وما يتطلبه الأمر هو أن يُنظَرَ إلى إعادة هيكلة الديون الخارجية ليس فقط باعتبارها قرارًا أخلاقيًا أو إنسانيًا، بل وأيضًا باعتبارها قرارًا حكيمًا ماليًا وسليمًا سياسيًا ومنتجًا بيئيًا. ويتعيَّن على الدائنين أن يُدركوا أنهم سيتحمّلون أيضًا تكاليف أعباء ديون البلدان الفقيرة. فالاقتصاد العالمي مترابط، وعدم الاستقرار في البلدان المدينة يمكن أن يؤدّي إلى عواقب اقتصادية سلبية على الدائنين، بما في ذلك الأسواق المضطربة والصراعات الاجتماعية وانخفاض إمكانات النمو في المستقبل. وإذا أخذنا هذه العوامل مُجتمعةً، فإنها تشكّلُ فرص استثمار ضائعة للدائنين.
لفترةٍ طويلة، انحرفت المحادثات حول إلغاء الديون عن مسارها بسبب المناقشات حول حلولٍ وسط غير كافية في نهاية المطاف. وقد شملت هذه الحلول مقايضات “الديون بالمناخ”، حيث يتم تخفيض أعباء الديون في مقابل اتخاذ إجراءات مناخية – وهي فكرة معقولة من الناحية النظرية، ولكنها عرضة لخلق أشكال خبيثة من “الاستعمار الأخضر” وتشجيع ممارسات الحفاظ على البيئة الإشكالية. في نهاية المطاف، يجب على الدائنين أن يدركوا أن الضربة القصيرة الأجل لميزانياتهم العمومية قد تكون بالضبط ما هو ضروري لتأمين الاستقرار السياسي للكوكب ورفاهته البيئية – وحماية مصالحهم الخاصة في الأمد البعيد.
من جانبها، يجب على البلدان في جميع أنحاء الجنوب العالمي أن تدرك أنها تستطيع دائمًا تمويل المشاريع عندما تمتلك القدرات الفنية والمادية المحلية لإكمالها: وهذا جانب حاسم من السيادة النقدية، وامتلاك عملة خاصة بها. على سبيل المثال، تتمتع اليابان والولايات المتحدة وكندا بنسب ديون سيادية باهظة إلى الناتج المحلي الإجمالي (254٪، و144٪، و113٪، على التوالي)، ومع ذلك فهي ليست في أزمة ديون. إنَّ السببَ وراء ذلك هو أن ديون هذه البلدان مقوّمة في الأساس بعملاتها الخاصة. ونتيجةً لهذا، فإنها تظل قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية دائمًا، لأن بنوكها المركزية تسيطر على أسعار الفائدة ولا يمكنها أن تنفد أموالها الخاصة. ومن ناحية أخرى، تصدر حكومات بلدان الجنوب العالمي بشكل روتيني ديونًا بالعملات الأجنبية، انطلاقًا من اعتقادٍ خاطئ بأنها تفتقرُ إلى الأموال أو المدّخرات اللازمة لإنفاقها الخاص. وفي كثير من الأحيان، يفوق نمو ديونها الخارجية نمو عائدات صادراتها، مما يؤدي إلى أعباءِ ديونٍ غير مستدامة، كما حدث في إثيوبيا وغانا وكينيا وزامبيا ولبنان. ويمكن لدول الجنوب العالمي أيضًا أن تجدَ المزيد من الفرص لتعبئة أنظمتها المالية الخاصة لتلبية بعض احتياجاتها.
إنَّ تحسين الرقابة المالية على عائدات التصدير من شأنه أن يساعد أيضًا. فعلى مدى السنوات التي سبقت الجائحة، عانت القارة الأفريقية ككل ماليًا أكثر من تحويلات أرباح المستثمرين الأجانب ومن التدفقات المالية غير المشروعة مقارنةً بسداد الديون الأجنبية. وهذا يعني أن غالبية البلدان الأفريقية الغنية بالموارد يمكن أن تقلل من حاجتها إلى إصدار ديون سيادية إذا تمكنت فقط من الاستحواذ على حصة أكبر من عائدات التصدير الآتية من قطاعاتها الاستخراجية. وهذا هو نموذج الجزائر وبوتسوانا، البلدان اللذان لديهما نتيجة لذلك ديون سيادية قليلة نسبيًا بالعملات الأجنبية ويمتنعان عن الاقتراض من الدائنين من القطاع الخاص.
الواقع أنَّ البُلدان في مختلف أنحاء الجنوب العالمي ينبغي لها أن تنظرَ إلى شعوبها من أجل إيجاد الطريق إلى الأمام، ويتعيّن على المؤسسات الدولية أن تمنح هؤلاء الناس ــ بما في ذلك أعضاء المجتمع المدني، وقادة الحركات، والاقتصاديين ــ مقعدًا على الطاولة. ومن الضروري أن يكون للناس الأكثر تضرّرًا بأعباء الديون صوتٌ في تشكيلِ طريقهم لمعالجتها والخروج منها.
- مارتن أبريغو هو نائب رئيس البرامج الدولية في مؤسسة فورد.
- كريستال سيميوني هي مديرة مجموعة ناوي-أفريفيم للاقتصاد الكلي، وهي منظمة أفريقية غير ربحية مقرها كينيا.
- ندونغو سامبا سيلا هو رئيس قسم البحوث والسياسات الخاصة بأفريقيا في “International Development Economics Associates“، وهي شبكة من خبراء الاقتصاد التنموي.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.