على ترامب أن يُرَكِّزَ على إعادةِ بناءِ الشرق الأوسط المُمَزَّقِ بالحرب
الدكتور ناصر السعيدي*
أصبحَ الرئيس الأميركي المُنتَخَب دونالد ترامب أوّلَ مرشّحٍ جمهوري منذ عشرين عامًا يفوز بالتصويت الشعبي.
ويمنحه فوزه التاريخي السيطرة على مجلسَي الشيوخ والنواب (الكونغرس) والحزب الجمهوري، إلى جانب المحكمة العليا ذات الميول المحافظة القوية. فكيف سيتم نشر هذه السلطة؟
إذا أخذنا خطاب ترامب الانتخابي حرفيًا، فإنَّ أجندته “ماغا الاقتصادية” (جعل أميركا عظيمة مرة أخرى) سوف تكون على رأس الأولويات. سوف تُركّزُ السياسة المحلية على الحماية، وإلغاء القيود التنظيمية، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وخفض الضرائب، والتراجع عن الالتزامات المُتعلّقة بالمناخ، وتعزيز صناعة النفط والغاز ل”الهيمنة على الطاقة”.
وقد قال ترامب إنه سوف يفرضُ تعريفاتٍ جمركية بنسبة 20% على جميع المجالات و60% على الصين، إلى جانب القيود التجارية. وإذا تمَّ فرضُ هذه التعريفات، فإنَّ صادرات النفط والغاز والألمنيوم والصلب من دول مجلس التعاون الخليجي سوف تُعاني.
ومن المرجح أيضًا أن تؤدّي سياسات “ماغانوميكس” إلى تأجيجِ التضخّم، ما يؤدّي إلى قمع قدرة بنك الاحتياطي الفيدرالي على خفض أسعار الفائدة بقوّة في العام 2025. وسوف تعمل أسعار الفائدة المُرتفعة على تقييد خطط الاقتراض والتمويل الجديدة لكلٍّ من الأُسَر والشركات.
في سياقِ غيابِ شبكات الأمان الاجتماعي أو الإعفاءات الضريبية، فإنَّ ارتفاعَ التضخُّم سيؤثر بشكل غير متناسب في الأُسَرِ ذات الدخل المُنخَفض، مما يزيد من عدم المساواة.
ينبغي للمستثمرين أيضًا أن يشعروا بالقلق إزاء التكاليف المالية. فالدين العام الأميركي يتجاوز بالفعل 120% من الناتج المحلي الإجمالي، وتشير تقديرات “نموذج موازنة بن وارتون” (Penn Wharton Budget Model) إلى أنَّ خطط ترامب ستؤدّي إلى زيادة العجز الأميركي بنحو 5.8 تريليونات دولار على مدى العقد المقبل ــ وهو ما يعادل العجز في زمن الحرب في سيناريو التشغيل الكامل. احذروا، فاقتصاد الولايات المتحدة يُعاني من ارتفاعِ درجةِ الحرارة!
والخلاصة هي أنَّ سياسات ترامب “أميركا أوّلًا” ستُمهّدُ الطريق لاضطرابات سلسلة التوريد العالمية والتوترات التجارية مع الصين والمكسيك وكندا والاتحاد الأوروبي.
كما ستفرضُ هذه السياسات ضغوطًا على أعضاء حلف شمال الأطلسي لتعزيز الإنفاق الدفاعي. وبدون التحوُّل بعيدًا من هذه المواقف، يصبح الاقتصاد العالمي عُرضةً لمزيدٍ من التفتّت الجغرافي-الاقتصادي.
خطة ترامب لأوكرانيا؟
تواجه إدارة ترامب بعد الانتخابات ثلاث قضايا جيوسياسية استراتيجية رئيسة: الحروب بين روسيا وأوكرانيا وإسرائيل وفلسطين ولبنان، فضلًا عن التوترات المتزايدة مع الصين.
إنَّ موقف ترامب الجيوستراتيجي “السلام من خلال القوة”، ورغبته في عدم إشراك الولايات المتحدة في أيِّ حرب، يعني التوصل إلى اتفاقٍ مع روسيا وإنهاءٍ سريعٍ للمواجهة العسكرية المُكلفة من خلال أوكرانيا محايدة غير عضو في حلف شمال الأطلسي.
الخطوة التالية هي إعادة الإعمار. سوف تتطلّب عملية إعادة الإعمار بعد الحرب تمويلًا ضخمًا، من المرجّح أن يتجاوز 600 مليار دولار. كيف يمكن تمويل هذا؟
في أحد السيناريوات، يُمكنُ تمويل “خطة ترامب لأوكرانيا” بشكلٍ مشترك من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مع التركيز على إعادة بناء البنية الأساسية والتكامل المتجدّد لقطاعَي التصنيع والزراعة المُوَجَّهَين للتصدير من أوكرانيا إلى أوروبا. ومن شأن مثل هذه الاستراتيجية، بدعمٍ من المساعدات الأجنبية، أن تعملَ كمُحرّكٍ للنموِّ الاقتصادي.
مؤسّسات جديدة للاستقرار
مع تزايُد نفوذه، يتمتّع ترامب بفرصةٍ فريدةٍ للعمل نحو إنهاء الصراعات بين إسرائيل وغزة ولبنان كجُزءٍ من اتفاقيةِ سلامٍ أوسع في الشرق الأوسط. يمكن لهذا النهج أن يدافع عن الفوائد الاقتصادية المُحتملة التي قد يجلبها السلام والاستقرار لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والاقتصاد العالمي.
ستكونُ نقطةُ البداية إعادة إعمار وإعادة تنمية قطاع غزة. قدرت الأمم المتحدة في أوائل العام 2024 أن الأمر سيستغرق 15 عامًا لإزالة أنقاض الحرب فقط و70 عامًا لاستعادة القطاع إلى مستويات الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022.
تُقدّرُ الأمم المتحدة أن المنطقة ستحتاج أيضًا إلى أكبر جهد لإعادة الإعمار بعد الحرب منذ العام 1945، مع تقديرات تكلفة إعادة البناء تصل إلى 80 مليار دولار.
في لبنان، يدفع الدمار والنزوح المتصاعد البلاد نحو أزمةٍ شبيهة بغزة، الأمر الذي سيؤدي إلى تفاقُم عدمِ الاستقرار الاقتصادي والمصرفي والمالي الشديد.
وجّهت حرب العام 2006 ضربةً قوية للبنان، حيث تجاوزت تكاليف إعادة الإعمار 10 مليارات دولار. لكن هذه المرة قد تتجاوز التكاليف 25 مليار دولار، مع احتمالِ انكماشِ الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 20 و25%. وسوف يتعيّن على التمويل اللازم لإعادة الإعمار والتنمية في غزة ولبنان أن يأتي من المساعدات والمنح المُتعدّدة الأطراف. وبمجرّد التوصُّل إلى تسوية سلمية مستدامة (بعد وقف إطلاق النار الأخير)، تستطيع دول مجلس التعاون الخليجي أن تلعبَ دورًا رئيسًا في إعادة التنمية، ليس فقط من حيث تمويل إعادة الإعمار الحكومي، بل وأيضًا في تعبئة القطاع الخاص للمساعدة في إعادة بناء الدول التي مزّقتها الحرب.
من الضروري أن نتعلّم ونأخذ العبر من إخفاقات إعادة الإعمار السابقة، مثل تلك التي حدثت في العراق وأفغانستان، وأن نُطبّقَ الدروس المُستفادة من الجهود السابقة بعد الحرب. إنَّ الشفافية والمُساءلة وتدابير مكافحة الفساد والفَهم بأنَّ بناءَ الأمة هو التزامٌ طويل الأجل، كلُّها أمورٌ بالغة الأهمية لتحقيق النجاح.
إذا كان لترامب أن يجلبَ الاستقرار إلى المنطقة، فمن الضروري أن يُعالِجَ إعادة بناء الدول التي دمّرتها الحرب. لن يكونَ الطريق إلى الأمام سهلًا.
بعد الحرب الأهلية اللبنانية، استغرق الأمر عشرين عامًا حتى يتعافى الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى مستويات ما قبل الحرب. واستغرق الأمر سبع سنوات طويلة للكويت للتعافي بعد حرب الخليج.
نحن بحاجة إلى مؤسّسات جديدة لمعالجة بناء الأمة. ومن الأفضل لإدارة ترامب، بالشراكة مع دول مجلس التعاون الخليجي والبنوك المتعددة الأطراف، أن تنشئ بنك تنمية للشرق الأوسط.
يُمكن لمثل هذه المؤسسة أن تُركّزَ على تمويل إعادة الإعمار بعد الصراع، ومشاريع البنية التحتية الإقليمية، وتعزيز التنمية والتكامل بين القطاعات الاقتصادية والمالية في جميع أنحاء المنطقة.
- الدكتور ناصر السعيدي هو رئيس شركة ناصر السعيدي وشركاه؛ كان سابقًا وزير الاقتصاد والتجارة ووزير الصناعة في لبنان ونائبًا لحاكم مصرف لبنان.