هل أميركا ما زالت بحاجةٍ إلى مصر؟
عندما اندلعت الحربُ في غزة، احتاجَ الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي – لكن حسابات الرئيس المُنتَخب دونالد ترامب قد تختلف.
مايكل وحيد حنا*
في أيار (مايو) الفائت، بعدما أدّى الهجومُ العسكري الإسرائيلي إلى إغلاقِ معبر رفح الحدودي من مصر إلى جنوب غزة، والذي كان الطريق الرئيس للمساعدات الإنسانية إلى الجَيبِ الفلسطيني، رفضت الحكومة المصرية السماح للمساعدات بالمرور عبر المعبر الذي تسيطر عليه إسرائيل في كرم أبو سالم القريب. لقد شعرت مصر وأدركت مدى يأس سكان غزة، لكنها كانت أيضًا غير سعيدة أبدًا بنشر القوات الإسرائيلية على حدودها، وكان منعُ إعادةِ توجيه المساعدات عبر كرم أبو سالم إحدى الأدوات القليلة التي تمتلكها لتسجيل استيائها من الهجوم الإسرائيلي.
أعربَ بعضُ المسؤولين الأميركيين عن مخاوفهم الخاصة من أنَّ مصر ستتمسَّكُ بموقفها إلى أجلٍ غير مُسمّى، وبالتالي تُعَرِّضُ عمليات المساعدات الإنسانية في غزة للخطر بشكلٍ أساسي. لكن بدلًا من ذلك، وبعدَ محادثٍة هاتفية مع الرئيس الأميركي جو بايدن، وافقَ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على السماح بتدفُّقِ المساعدات من مصر عبر معبر كرم أبو سالم كإجراءٍ مؤقت. علمًا أنه قبل أربع سنوات، كان مثل هذا التنازُل من جانب السيسي لبايدن أمرًا لا يُمكِنُ تصوُّره. مع ذلك، كان الاتفاق انعكاسًا لعلاقةٍ جديدة بين الزعيمَين، وهو تحوُّلٌ يَعكُسُ شراكةً ثُنائية مُحَسَّنة على نطاقٍ واسع بين الولايات المتحدة ومصر بشأنِ مجموعةٍ من المسائل الديبلوماسية المُلحّة.
منذ ابتعاد مصر عن الفضاء السوفياتي في أعقاب الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1973، أصبحت البلاد مركزًا محوريًا للسياسة الإقليمية للولايات المتحدة ومتلقيةً كبرى للمساعدات الأميركية الواسعة النطاق. مع ذلك، على مدى العقد الماضي، كانت العلاقة بين أميركا ومصر غالبًا محورًا للتدقيق الشديد والإحباط. لفترةٍ من الوقت، لم يكن من الممكن حتى أن نتخيَّلَ إعادةَ تقييمٍ للعلاقة تأخذُ في الاعتبار القمع المحلي الذي يمارسه السيسي وتراجُع أهمية مصر الاستراتيجية في الشرق الأوسط. خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، دعمت مصر دونالد ترامب بشكلٍ فعّال، وربما ذهبت إلى حدِّ المساهمة بشكلٍ غير قانوني في حملته. وبحلول الوقت الذي تولّى فيه بايدن منصبه في العام 2021، كانت القاهرة مستعدة تمامًا لعودة التوتّرات الثُنائية التي ميَّزت عهد باراك أوباما، عندما أدى فشل انتقال مصر إلى الديموقراطية إلى ظهورٍ استبدادي شرس دَفَعَ الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في المنطق الاستراتيجي للعلاقة بين البلدين. ويبدو أن هذا الخوف تأكّدَ في أواخر العام 2021، عندما حجب وزير خارجية بايدن، أنتوني بلينكن، 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية بسبب مخاوف بشأن سجل مصر القاتم في مجال حقوق الإنسان.
مع ذلك، فإنَّ القوة الخاملة للترتيبات الأمنية القائمة منذ فترة طويلة وانحراف الأحداث في المنطقة قد حالت فعليًا دون أي إعادة فحص جادة لأساسيات العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر. ومع تصاعُدِ التوتّرات الإقليمية، برزت مصر كلاعبٍ مركزي (إلى جانب قطر، التي استضافت المكتب السياسي ل”حماس”) في الجهود التي تقودها واشنطن للتوسّط في اتفاق وقف إطلاق النار بين “حماس” وإسرائيل. لا تزال القاهرة ترى نفسها زعيمةً بين الدول العربية، وقد جعلها دورها الأخير في ديبلوماسية وقف إطلاق النار محاورًا دائمًا للولايات المتحدة. هذا البروزُ الجديد هو بَلسَمٌ لصورة مصر الذاتية وعَكسٌ لعدم الاهتمام الذي تلقّته في وقتٍ سابق من ولاية بايدن.
مع تزايُد المخاوف من تصعيدٍ شاملٍ في الشرق الأوسط بسبب الحرب في غزة، تمكّنت الولايات المتحدة ومصر من التركيز على تفاعلاتهما على الأمن الإقليمي والديبلوماسية، حيث تتوافق مصالحهما بشكلٍ متزايد. في الماضي غير البعيد، تسبّبَ التحوُّلُ الاستبدادي في مصر في دفع العديد من الأشخاص في واشنطن إلى الاحتجاج ضد الحفاظ على العلاقة الوثيقة. ولكن في الآونة الأخيرة، دفعت الحاجة إلى التعامل مع الآثار الجانبية للحرب في غزة صنّاع السياسات في الولايات المتحدة إلى ترك مخاوفهم المُعلَنة بشأن الديموقراطية وحقوق الإنسان. بدلًا من ذلك، سعت واشنطن بشكلٍ متزايد إلى الحفاظ على علاقاتٍ مُستقرّة مع شركائها التقليديين بغضِّ النظر عن سجلّهم في الحُكم.
مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) المقبل، يُمكِنُ لمصر أن تشعرَ بالاطمئنان إلى أنَّ المخاوف بشأن الديموقراطية وحقوق الإنسان لن تُشكّلَ أهمية بارزة في تفاعلاتها مع الإدارة المقبلة. ولكن سيكون من الخطَإِ أن تكتفي الولايات المتحدة بالتوفيق بين نفسها وبين الوضع الطبيعي الجديد الذي يأخذ النموذج الاقتصادي غير الفعّال والقمع السياسي في مصر كأمرٍ مُسَلَّمٍ به. ورُغمَ أنَّ هذا النموذج والقمع أثبتا قدرتهما على دعم السيسي في السلطة، إلّا أنهما تركا مصر عُرضةً لأزماتٍ مستقبلية ولم يعالجا احتياجات السكان المتزايدين في البلاد.
توتّرات ماضية
إنَّ الدفءَ الأخير في العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر يُمثّلُ تحوُّلًا كبيرًا عمّا كانت عليه العلاقة حتى العام 2020. فعندما كان بايدن يترشح للرئاسة في ذلك العام، أعلن بعباراتٍ لا لبسَ فيها أنه لن يكون هناك “شيكات على بياض” للسيسي، الذي وصفه ترامب بأنه “ديكتاتوره المُفَضَّل”. وفي جُزءٍ منه، أراد بايدن أن يُقارِنَ التزامه بالديموقراطية وحقوق الإنسان بتقارُب ترامب الظاهري مع الحكّام المستبدّين.
لكن موقف بايدن يَعكُسُ أيضًا “الأمتعة” التي حملها من فترة عمله كنائبٍ للرئيس باراك أوباما. وصلت العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر إلى أدنى مستوياتها بعد الانقلاب العسكري في تموز (يوليو) 2013 الذي مهّدَ الطريق لصعود السيسي إلى السلطة. في تشرين الأول (أكتوبر) من ذلك العام، بعد شهرين من تفريق المتظاهرين الذين دعموا الرئيس محمد مرسي، المخلوع وحامل لواء “الإخوان المسلمين”، علّقت الولايات المتحدة الجُزءَ الأكبر من المساعدات العسكرية لمصر. بعد نقاشٍ داخليٍّ مُحتَدِم، أعادت إدارة أوباما المساعدات العسكرية لمصر في آذار (مارس) 2015، لكنها أنهت ممارسة التمويل النقدي، الذي كان يسمح لمصر في السابق بشراء المعدات العسكرية بالائتمان. كما فرضت الإدارة قيودًا على كيفية استخدام مصر للمساعدات التي تتلقّاها.
ورُغمَ استئناف المساعدات، اتسمت العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر بالشكوك الشديدة والاحتكاك. فبدلًا من ترسيخ السياسة الأميركية في الشرق الأوسط كحليفة، كانت مصر تُعَدُّ مشكلة يتعيّن إدارتها. وكانت الولايات المتحدة قلقة بشكل خاص إزاء المسار الاستبدادي الذي تسلكه البلاد، والذي استمر على نحوٍ ثابت على الرُغم من المحاولات الفاترة من قِبَل واشنطن لاستخدام مساعداتها العسكرية كضابطٍ على حكومة السيسي.
وكما جادلتُ في مجلة “فورِن أفّيرز” في العام 2015، بدا أنَّ العلاقات بين البلدين تفتقرُ إلى أيِّ رسوٍ استراتيجي حقيقي. وبدا أن التوترات تُوفّرُ فرصةً للولايات المتحدة لتحديث وتعديل شراكتها مع مصر. لكن إعادة هيكلة العلاقات على هذا النحو كانت لتشعل معركة بيروقراطية كبرى داخل الإدارة الأميركية. كما إنَّ مثل هذه الإعادة الهيكلية، إذا نجحت، ربما كانت تنطوي على بعض المخاطر، لأنَّ العلاقة مع مصر كانت ركيزة أساسية للسياسة الإقليمية الأميركية منذ اختار الرئيس أنور السادات إخراج بلاده من الفلك السوفياتي في سبعينيات القرن العشرين.
من جانبها، كانت مصر مُستاءةً للغاية من إدارة أوباما لدرجة أنها ربما انخرطت في مناورةٍ محفوفة بالمخاطر للتأثير في انتخابات العام 2016 وإبعاد رئيس ديموقراطي آخر عن منصبه. في آب (أغسطس) من هذا العام، كشفت صحيفة “واشنطن بوست” أن وكالات الاستخبارات الأميركية تعتقد أن السيسي سعى إلى التبرع بمبلغ 10 ملايين دولار لترامب لحملته الرئاسية لعام 2016. وقد أدّى تحويلٌ غامضٌ من البنك الوطني المصري المملوك للدولة إلى تأجيج تحقيق أجرته وزارة العدل في العام 2019 حول ما إذا كانت مصر تدعم حملة ترامب بشكل غير قانوني. مع ذلك، وفقًا لصحيفة “واشنطن بوست”، أغلق المدّعي العام لترامب، ويليام بار، هذا التحقيق. (نفى متحدث باسم حملة ترامب الرئاسية هذا الادعاء).
ذوبان مفاجئ
بعد هزيمة ترامب في انتخابات العام 2020، شعر المسؤولون المصريون بالقلق بشأن ما قد تعنيه إدارة بايدن الجديدة للعلاقات الثنائية. بدا قلقهم مُبَرَّرًا في البداية. وقد تجلّى تشكُّكُ بايدن تجاه مصر من خلال تجنّبه للمكالمة الأولى التقليدية مع السيسي بعد انتخابه. (على النقيض من ذلك، كان الرئيس المصري أول زعيم أجنبي يتحدث مع ترامب بعد فوزه في الانتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016). مع ذلك، في أواخر أيار (مايو) 2021، أجبرت الأزمة في غزة بايدن على التحرّك. عملت الولايات المتحدة ومصر معًا للمساعدة في التفاوض على وقف إطلاق النار، وقد خفف هذا المثال من التعاون الناجح بعض التوتر بين الزعيمَين.
طوال الحرب الحالية في غزة، اعتمدت إدارة بايدن مرة أخرى على مصر في جهودها الديبلوماسية لتأمين وقف إطلاق النار. أيَّدت الولايات المتحدة علنًا معارضة مصر لأيِّ نزوحٍ قسري للفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء. كما دعمت الإدارة موقف مصر القائل بأنَّ إسرائيل يجب أن تنسحبَ من الشريط الضيق من الأرض بين مصر وغزة المعروف باسم ممر فيلادلفيا أو محور صلاح الدين، والذي احتلته إسرائيل كجُزءٍ من هجومها على رفح. وفي محاولةٍ لمنع إعادة احتلال إسرائيل الدائم للمنطقة في رفح وحولها، كان المسؤولون الأميركيون صريحين بشأن الحاجة إلى إعادة فتح معبر الحدود.
إنَّ إعادةَ فتح المعبرِ في نهاية المطاف سوف تكون مرتبطة بالضرورة بإصلاحات الحكم في غزة. وعلى الرُغم من أنَّ الولايات المتحدة ومصر تعملان بالتوازي لإنشاء نظيرٍ فلسطيني لإدارة الجانب الغزّي من نقطة التفتيش، إلّا أنَّ احتمالات التوصُّل إلى اتفاقٍ بشأن الحكم قد تضاءلت إلى حدٍّ كبير مع تعثُّرِ محادثات وقف إطلاق النار. وعلاوةً على ذلك، أدّى بعض التعليقات الأخيرة الذي أدلى به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى تكثيف الشكوك في القاهرة حول قدرة واشنطن على التأثير في نتيجة التفاوض.
لكنَّ المسؤولين المصريين وجدوا بعض الراحة في مواقف إدارة بايدن واستعدادها للمشاركة. وكما قال لي ديبلوماسي مصري أخيرًا: “من الواضح أننا نشعر بالإحباط إزاء غزة، ولكننا نُقدّرُ أيضًا مدى التعاون في الوقت الحالي وقابلية التنبّؤ بتفاعلاتنا”. وعلى نحوٍ مماثل، أعلن المسؤولون الأميركيون عن سعادتهم لاستعداد مصر لمناقشة دورها على الأقل في ضمان أمن غزة بعد الحرب. تقليديًا، كانت مصر متردّدة في التورّط في شؤون غزة. لكن في الآونة الأخيرة، أثارت المناقشات الديبلوماسية إمكانية نشر قوة دولية قد تشارك فيها مصر.
يمتدُّ التقارُب الأميركي-المصري الأخير إلى قضايا تتجاوز غزة. في بعض الأحيان، اتَّخذَ هذا التقاربُ شكلَ تخفيفِ العقبات السابقة. ففي ما يتعلق بليبيا، على سبيل المثال، حيث كانت الولايات المتحدة قلقة منذ فترة طويلة بشأن دعم مصر للسلطات الليبية في شرق البلاد، أخبرني أحد المسؤولين الأميركيين أن “مصر لم تعد تعتبرها الإدارة الأميركية غير مفيدة”. وفي أحيان أخرى، يتخذ التنسيق بين البلدين شكلًا أكثر إيجابية. وقد أشار مسؤولون أميركيون إلى أنَّ مصر كانت مفيدة بشكل مدهش للولايات المتحدة في سعيها إلى حشد الدعم الدولي لأوكرانيا، حتى وإن كانت مصر متردّدة في الاعتراف بذلك علنًا.
ولعلَّ أوضح مثال على علاقة العمل الجديدة يتعلّق بالسودان. في السابق، كانت الولايات المتحدة تَنظُرُ إلى موقف مصر تجاه جارتها الجنوبية برَيبةٍ عميقة. وكان المسؤولون الأميركيون يشتبهون في أنَّ القاهرة أعطت موافقة ضمنية على الانقلاب الذي شنّه القادة العسكريون السودانيون في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 والذي أطاحَ القيادة المدنية الانتقالية في البلاد. ولقد صبغ الحذر الأميركي من النوايا المصرية الجهود الديبلوماسية التي بذلتها واشنطن عندما اندلعت الحرب الأهلية في السودان: فقد استند النهج الأميركي الأوَّلي إلى فكرة مفادها أن مصر مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقوات المسلحة السودانية وبالتالي تُشكّلُ عقبةً أمام صنع السلام.
لكن في الآونة الأخيرة، غيّرت الولايات المتحدة مسارها. فقد أصبحت القاهرة شريكًا رئيسًا في جهود واشنطن غير الناجحة حتى الآن للتفاوض على وقف إطلاق النار في السودان. وكانت التنازلات الصغيرة، مثل فتح المعابر الحدودية مع تشاد للمساعدات الإنسانية، تعتمد على الجهود المصرية للتأثير على الجيش السوداني. كما لاحظت الولايات المتحدة ضبط النفس المصري في دعم الجيش السوداني. وقد تقاربت وجهات النظر الأميركية والمصرية أخيرًا بشأن ضرورة حماية مؤسّسات السودان والحفاظ على سلامة أراضيه.
تحدّياتٌ يُمكنُ التغلُّب عليها
في حين تلاشى الكثير من انعدام الثقة والقلق الذي مَيَّزَ العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر قبل عقد من الزمان، فإنَّ بعض المزعجات لا تزال قائمة. وأهمها القرار السنوي للولايات المتحدة بشأن تمديد التمويل العسكري لمصر. فعلى مدى عقود، كانت مصر ثاني أكبر مُتلقٍّ للمساعدات العسكرية الأميركية، بعد إسرائيل. في الوقت الحالي، يُخصّص الكونغرس حوالي 1.3 مليار دولار من المساعدات لمصر على أساسٍ سنوي، لكن بعض هذا التمويل مشروطٌ باستيفاء متطلّبات حقوق الإنسان. في أيلول (سبتمبر) 2021، اعتُبِرَ رفض بلينكن التنازل عن هذه المتطلبات ــوالذي تسبب في حجب 130 مليون دولار من المساعدات العسكريةــ بمثابة مؤشّر محتمل إلى جدّية موقفه بشأن حقوق الإنسان ونيّته في الانفصال عن تساهُل إدارة ترامب.
لقد أثار هذا القرار قلقًا في مصر. لكن مع تحسُّن علاقاتها مع واشنطن، اتخذت القاهرة نهجًا أكثر هدوءًا في التعامل مع المراجعة السنوية. كما شهدت القاهرة فوائد من تعاونها مع الإدارة بشأن غزة. في أيلول (سبتمبر)، وللمرة الأولى، تنازل بلينكن عن بعض متطلبات حقوق الإنسان وصادق على الامتثال لمتطلبات أخرى، الأمر الذي سمح لمصر بتلقّي الشريحة الكاملة من المساعدات الأميركية. وكان القرار إيذانًا بنهاية التظاهر بأنَّ المساعدات العسكرية تمنح الولايات المتحدة نفوذًا ذا مغزى على الديموقراطية وحقوق الإنسان. مع ذلك، فقد شجّع القرار أيضًا استئناف الحوار الاستراتيجي مع القاهرة، الأمر الذي عزّزَ الشعور بتحسّن العلاقات خارج نطاق ديبلوماسية وقف إطلاق النار.
وكانت هناك شوكة أخرى أزعجت العلاقة هذا العام عندما أُدينَ السيناتور بوب مينينديز، الديموقراطي من نيوجيرسي ورئيس لجنة العلاقات الخارجية القوية في مجلس الشيوخ، بتُهمةِ تلقّي رشاوى من رجال أعمال يعملون لصالح مصر وقطر. (استقال مينينديز بعد ذلك من مجلس الشيوخ). لقد غذَّى التدقيق العام تصوُّرًا بأنَّ مصر كانت على استعدادٍ تام للتدخُّل في السياسة الأميركية وأدّى ذلك إلى بعض الإحراج في القاهرة.
لكن حتى الآن، لم تفسد هذه التحدّيات الأجواء الإيجابية بين البلدين. لقد حوّلت مصر نقاطَ ضعفها بمهارةٍ لصالحها، وأبرزها ترجمة القلق الدولي بشأن اتساع نطاق الحرب الإقليمية إلى مساعدات اقتصادية مطلوبة بشدة. ولكن على الرُغم من أنَّ الأزمات والصراعات أعادت ترتيب الأولويات الإقليمية المباشرة للولايات المتحدة، فلا ينبغي لواشنطن أن تنسى أنَّ المشاكل الداخلية الكبرى لا تزال تُربِكُ مصر.
مستقبلٌ غامض
إنَّ القصور في الرؤية الحاكمة لمصر كان سببًا في إعاقة قدرتها على الاضطلاع بدورٍ إقليمي مهم. في كثير من الحالات، دفع هذا شركاءَ مصر الديبلوماسيين الرئيسيين إلى التركيز في المقام الأول على تجنُّب أسوَإِ السيناريوات. ورُغم أنَّ هذا الوضع الراهن سمح لمصر ببعض المرونة في ما يتّصلُ بشركائها الرئيسيين (بما في ذلك الولايات المتحدة)، فإنه لا يُشكّلُ الأساس لمستقبلٍ مُستدام ومُزدهر حيث تتمكّن البلاد من تحمُّلِ دورها التاريخي كزعيمةٍ في العالم العربي. وسوف يعتمد استقرار مصر في الأمد البعيد على معالجة التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها بشكلٍ موثوق، وسوف يكون من الخطَإِ أن تتقبّلَ الولايات المتحدة النهج الاقتصادي المتعثّر والاستبداد المُتجذِّر في مصر.
ومن غير الواقعي أن نتخيّلَ إمكانية إعادة هيكلة العلاقات الأميركية المصرية بشكلٍ كبير في خضمِّ الاضطرابات التي تشهدها المنطقة. فاهتمامُ الحكومة الأميركية أصبح مشتتًا، وتلعب مصر دورًا حاسمًا في جهودها لإدارة الصراع في غزة. لكن التزام واشنطن مُجَدَّدًا بنظامٍ استبدادي في مصر في وقتٍ من عدم الاستقرار الإقليمي المتنامي يحمل في طياته مخاطره الأطول أجلًا. في حين لا تقف مصر على أعتابِ تكرار الانتفاضات الشعبية التي أطاحت نظام مبارك في العام 2011، فإنَّ نقاط ضعفها الاقتصادية والسياسية من شأنها بلا أدنى شك أن تُقَوِّضَ الحكم وقد تهدّدُ استقرارها في نهاية المطاف. لا يزال الاقتصاد المصري هشًّا، ولم تُقَدِّم القاهرة بَعد نموذجًا مُستدامًا للتنمية قادرًا على مواكبة احتياجات المجتمع المصري. وعلاوةً على ذلك، خلق نهج القاهرة المُنعَزِل في الحُكم نقاطًا عمياء لقادة مصر. فقد أصبح صنّاع القرار في البلاد محرومين من النقد العام والنقاش الضروريين، كما ضيَّقوا المساحة المُتاحة للحوار الداخلي داخل الحكومة. ونتيجةً لهذا، أصبحوا غير قادرين على الاستجابة بفعالية لمخاوف القطاع الخاص والمجتمع المدني وعناصر البيروقراطية.
قبلَ الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، لم تُظهِر مصر تفضيلها لأيٍّ من المرشحين. لكن بعد فوز ترامب، تواجه العلاقات الثُنائية مستقبلًا غير مؤَّكد إلى حدٍّ ما. من المرجح أن يُكرّرَ ترامب احتضان مصر الخطابي الذي مَيَّزَ ولايته الأولى، إلى جانب الافتقار إلى الاهتمام بالديموقراطية وحقوق الإنسان. لكن تأييده المحتمل لأجندة إسرائيل المتطرِّفة يعني بالضرورة أنَّ محور العلاقات الأميركية-المصرية الحالي، ديبلوماسية وقف إطلاق النار، سوف يفقد أهميته. وفي المدى القريب، من غير المرجح أن تواجه مصر احتكاكًا كبيرًا مع إدارة ترامب، ولكن من غير المرجح أيضًا أن تكون لها مكانة بارزة في السياسة الخارجية للرئيس العائد إلى البيت الأبيض.
مع ذلك، ورُغمَ أن ترامب ربما لن يدفع باتجاه إعادة ضبط السياسات الرئيسة، فإنَّ إدارته ينبغي لها أن تضغط على القاهرة لسنِّ نوعٍ من الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي ستكون ضرورية لاستقرارها في المدى الأطول. وقد ساعدَ ضخُّ التمويل الجديد من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، إلى جانب الاستثمارات الجديدة الكبرى من الإمارات العربية المتحدة، في استقرار الاقتصاد في الوقت الراهن. إنَّ تحقيق المزيد من الاستقرار ممكن من خلال إقناع مصر بإلغاء تأميم شركاتها المملوكة للدولة ــوخصوصًا الشركات العسكريةــ والتي تُشكّلُ عقبةً كبرى أمام القطاع الخاص. وعلى الصعيد السياسي، يظلُّ بعضُ أشكالِ تصحيحِ المسار ضرورةً حتمية. فالسماح بالنشاط السياسي المستقل والإفراج عن السجناء السياسيين من شأنهما أن يُعزّزا النوايا الحسنة بين الجمهور المصري والشركاء الخارجيين مثل الولايات المتحدة وأوروبا. ولكن الأهم من ذلك أن هذه الخطوات من شأنها أن تساعد مصر على تعزيز قدرتها على التعامل مع الأزمة المستمرة في غزة والتحديات المقبلة.
- مايكل وحيد حنا هو مدير برنامج الولايات المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية وزميل أول غير مقيم في مركز رايس للقانون والأمن في كلية الحقوق في جامعة نيويورك.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.