غيابُ قيادةٍ مُوَحَّدة وفَعّالة يُؤجِّجُ أزمَةً وجوديةً للفلسطينيين
فيما يمرُّ الفلسطينيون بحالةٍ من الضياع وغيابِ التنظيم وعجزٍ عن الاستجابة بفعاليّة لأسوَإِ أزمةٍ يواجهونها منذ العام 1948، من الواضح أنّهم بحاجة ماسّة إلى بناء قيادة وطنية موحّدة.
عمر حسن عبد الرحمن*
يُواجِهُ الفلسطينيون منذ أكثر من عامٍ اعتداءً مَنهجيًّا بلا هوادة على وطنهم في أعمق أزمة يواجهونها منذ نكبة 1948. لقد شنّت إسرائيل حملةَ إبادةٍ جماعية ضد سكان قطاع غزة في أعقاب أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وصعَّدت أعمالها القمعيّة في الضفّة الغربية التي تسبّبت بمعاناة الفلسطينيين بدرجةٍ غير مسبوقة ونزوحهم بالملايين، فيما أحكمت قبضتها على الأراضي. ما يجري ليس مجرّد دوّامة جديدة من العنف، بل كارثة متعدّدة الأوجه تُهدّد نسيج الحياة الفلسطينية في جوهره.
في خضمّ هذه الأزمة العميقة، بَرَز غيابٌ لافت للقيادة الفلسطينية. فقد التزمت منظّمة التحرير الفلسطينية الصمت بشكلٍ ملحوظ. وتوارى محمود عباس، رئيس المنظمة ورئيس السلطة الفلسطينية، عن الأنظار ولم يَظهَر إلّا نادرًا في مُنتدياتٍ دوليّة مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة أو قمة جامعة الدول العربية. وحتى عندها، لم يتمكّن من التأثير في هذه المنصّات لحَشدِ الدعم العالمي. ولم يلجأ إلى مجلس الأمن الدولي طالبًا حماية شعبه، ولم يتحدّث إلى محكمة العدل الدوليّة. ففي تناقُضٍ صارخٍ مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي جابَ أرجاءَ العام بلا ملل ولا كلل سعيًا وراء الدعم الدولي، فشل عباس في الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة على الساحة العالميّة. ومن اللافت للنظر أنّه لم يطأ قدمه حتى في غزة التي يدّعي تمثيلها، خلافًا للكثيرين من عاملي الإغاثة والأطباء الذين خاطروا بحياتهم أو دفعوها ثمنًا لتأمين المساعدات على الأرض.
أمّا حركة “حماس”، التي حكمت غزة قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، علمًا أنّها لا تنتمي إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فتعاني هي الأخرى لتوفير أيّ قيادة فعّالة. وبينما يقاتل أعضاؤها في الأراضي المُحاصَرة من أجل بقائهم، كان قادتها السياسيون المقيمون في قطر منخرطين، حتى أخيرًا، في إجراء مفاوضات عقيمة لوقف إطلاق النار وإدارة تبعات وتداعيات قرار مهاجمة إسرائيل. وقد اغتيل قادة المنظمة في عواصم متعدّدة من الشرق الأوسط، ما ساهم في إضعاف قدرتها على العمل بفعّالية. لطالما كانت “حماس” منبوذة من الغرب، لا سيما من الولايات المتحدة، ما جعلها عاجزة عن اللجوء إلى الديبلوماسيّة لتحقيق أهدافها. ورُغمَ تنامي دعم الفلسطينيين العُزّل لمقاومتها المسلّحة، تبقى “حماس” مجرّدَ فصيلٍ غير قادر أساسًا على تمثيلهم كمجموعةٍ وطنية موحّدة، وهو دور أدّته منظمة التحرير الفلسطينية على مرّ التاريخ.
من سيِّئٍ إلى أسوَإٍ
بعد ثلاثة عشر شهرًا على السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أصبح الوضع في غزة كارثي. من المستحيل معرفة الحصيلة النهائية للضحايا تحت القصف الإسرائيلي المستمرّ، لكن على الأقل هناك حوالي 45 ألف فلسطيني قُتلوا -معظمهم من النساء والأطفال. ويُقدّر الخبراء أنّ عدد القتلى، بما في ذلك الإصابات غير المباشرة نتيجةً للجوع والأمراض ونقص الرعاية الصحيّة، قد يبلغ مئات الآلاف. وتَهَجَّرَ أكثر من مليوني شخص من منازلهم وباتوا مُعَرَّضين للمجاعة التي تستغلّها إسرائيل كسلاحٍ من خلالِ مَنعِ وصولِ المواد الغذائية الأساسيّة والإمدادات. وقد أصبح قطاع غزة اليوم في حالةِ دمارٍ تام بعدما مُحِيَت أحياءٌ كاملة عن الخارطة ودُمِّرَت البنى التحتية الحيوية في جميع أنحاء القطاع. بعبارةٍ أخرى، غزة اليوم غير صالحة للعيش، ومن شبه المؤكّد أنّه كان هدف إسرائيل منذ البداية.
في هذه الأثناء، شهدت الضفة الغربية تصعيدًا للعنف والقمع لم يسبق له مثيل منذ عقود. فقد بلغ معدّل القتلى في صفوف الفلسطينيين أعلى مستوياته منذ عشرين عامًا، وكَثَّفَ المستوطنون اليهود هجماتهم إلى حدٍّ لا سابقة له. وقد صادرت إسرائيل أيضًا أراضٍ فلسطينية أكثر من أيِّ وقتٍ مضى منذ توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993. ونزحَت مُجتمعاتٌ كاملة من الفلسطينيين في الوقت الذي كان المستوطنون، الذين يُحَفّزهم الشعور بالإفلات من العقاب، يهاجمون القرى على مرأى ومسمع من السلطات الإسرائيليّة وبدعمها.
وقد كثّفت إسرائيل، في إطارِ سَعيها إلى تحقيقِ أجندةِ ضَمِّ الأراضي، حملتها العسكريّة على شمال الضفّة الغربيّة، لا سيما حول مدن مثل جنين ونابلس وطولكرم. وسعى الجيش الإسرائيلي إلى تفكيك شبكات المقاومة المسلّحة من خلال استخدام القوة المُفرطة وتطبيق العقاب الجماعي على مجتمعاتٍ بأكملها. شمل ذلك غارات على مخيّمات اللاجئين، وعمليّات اعتقال جماعية، وتدمير البنى التحتيّة، وإغلاق هذه المناطق بشكلٍ شبه تام، وشلّ الاقتصاد المحلّي، وتخويف المدنيين من مواجهة مصير غزة نفسه. وأدّى انتشارُ الشعور بالرُعبِ والشلل الاقتصادي وتصاعد العنف إلى جعل الحياة لا تُحتمَل في معظم أنحاء الضفّة الغربية.
قد يسوءُ الوضعُ أكثر مع عودة دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة الأميركيّة في كانون الثاني (يناير) المقبل. لقد اتّخذ ترامب في ولايته الأولى خطواتٍ مُتعدّدة لصالح داعمي سياسة الضمِّ الإسرائيلي، وملأ إدارته المقبلة بأنصارٍ مُتشدّدين لليمين الإسرائيلي. من هذا المنطلق، قد تشعر حكومة بنيامين نتنياهو بأنّها باتت مستعدّة لضم الضفة الغربية بشكلٍ رسمي، ما سيكون له انعكاسات عميقة.
العقبات أمام إعادة الإعمار
لا يُشكّلُ غيابُ قيادةٍ فعّالة مشكلةً سياسية فحسب، بل أيضًا أزمة وطنية. لكي يتمكّن الفلسطينيون من التصدّي للتحدّيات الوجوديّة التي يواجهونها الآن، من الضروري إحياء قيادة موحّدة وتمثيليّة. منذ القطيعة السياسية بين السلطة الفلسطينية بقيادة “فتح” وحركة “حماس” في غزة في العام 2007، شهدت الحياة السياسيّة الفلسطينية حالةً من الجمود والتعطيل المتزايد. وسمح عدم إجراء الانتخابات وغياب الشرعية الديموقراطية للمسؤولين في السلطة بتعزيز سلطويّتهم وفسادهم وانفصالهم عن الشعب الذي من المفترض أن يمثّلوه. وفي ظلِّ غيابِ أيِّ رؤيةٍ واضحة أو إستراتيجية أو تفويضٍ من الشعب، أتى ردُّ القيادة الفلسطينية على هجوم إسرائيل ضعيفًا وغير مُنَظّم.
شهدت الأعوام الـ17 الماضية محاولاتٍ متعدّدة لرأبِ الصدعِ السياسي الفلسطيني، لكنّها باءت جميعها بفشلٍ ذريع. فقد فضّلَ كلُّ طرفٍ الاحتفاظَ بالسيطرة على أرضه –حركة “فتح” في الضفة الغربية وحركة “حماس” في غزة- على التنازُلِ عن أيِّ شبرٍ أو السعي إلى مصالحةٍ حقيقية. وأدّت الضغوط الخارجيّة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل دورًا أساسيًا في منعِ تحقيقِ الوحدة، اعتقادًا منها أنّ قيادةً فلسطينية مُتصالِحة تُشكّلُ تهديدًا مُحتَمَلًا لميزان القوى القائم، فأحبطت كلّ الجهود الرامية إلى إجراء انتخابات أو ترتيبات بشأن تقاسم السلطة لضمان استمرار الجمود السياسي. ولم يُبدِ عباس، الذي يعتمدُ بشكلٍ كبير على المساعدات الخارجية وعلى قبول إسرائيل بالمحافظة على عمليّات السلطة الفلسطينية، أيَّ استعدادٍ يُذكَر لإعلاء المصلحة الوطنيّة على تمسّكه بالسلطة.
رُغمَ ذلك، شهدت الأشهر الأخيرة محاولاتٍ لكَسرِ الجمود. فقد التقت الفصائل الفلسطينية في موسكو في شباط (فبراير) لإجراءِ محادثاتٍ تلتها جولةٌ أخرى في بكين في نيسان (أبريل). وتُوِّجَت هذه الاجتماعات باتفاقٍ بين 14 فصيلًا في تموز (يوليو) لتشكيل حكومة وحدة وطنيّة للضفة الغربيّة وغزة، بالإضافة إلى خططٍ لإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تُمثّل جميع الفلسطينيين بشكلٍ أفضل. لكن يُقال وراء الكواليس إنّ عباس رفض الاتفاق، ومنذ ذلك الحين لم يُحرز أيّ تقدّم يُذكر باتجاه تطبيق هذه الخطوات. يُؤكّد هذا الفشل على استمرار الانقسامات الداخلية والمصالح الخاصة في عرقلة كل المحاولات الجدّية لإعادة بناء المؤسّسات السياسية الفلسطينية.
ظهرت كذلك مبادراتٌ شعبية تهدفُ إلى إحياء منظمة التحرير الفلسطينية وهيكلتها بعيدًا من القيادة الحالية. وانبثق جهدٌ بارز عن المؤتمر الذي عُقد بقيادةٍ فلسطينية في الدوحة في كانون الثاني (نياير) 2023، حيث أسفرت المحادثات الجانبيّة بين بعض المشاركين عن مبادرةٍ تهدف إلى تنظيم مؤتمرٍ وطني بغية إعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية. وفيما اكتسبت المبادرة زخمًا بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، سارع عباس إلى التنديد بها كمؤامرةٍ أجنبية، ما صَعّبَ على المنظّمين مهمّة إيجاد مكان لعقد المؤتمر في ظلّ تردّد الدول الإقليمية التي خشيت أن تبدو وكأنها تتدخّل في الشؤون الفلسطينية الداخلية. وواجهت حركاتٌ شعبيّة أخرى تحدّياتٍ مُماثلة إذ أعاقتها الانقساماتُ حول ما إذا كان ينبغي العمل ضمن المؤسّسات القائمة أو إنشاء مؤسّسات جديدة من الصفر.
وقد أدّى هذا الفراغ في القيادة إلى نتائج كارثيّة، حيث تُرك الفلسطينيون بلا صوتٍ مُوحَّدِ للدفاع عنهم وعن قضيّتهم في المحافل الدوليّة. ولم تسعَ الإستراتيجيّة الظاهرة للقيادة في رام الله -الحريصة على تجنّب إثارة غضب إسرائيل خوفًا من مصيرٍ مشابه لغزة- إلى حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية أو دفع نضالهم قُدُمًا. وفي غيابِ أيِّ تمثيلٍ فعّال أو السماح لصحافيين دوليين بالدخول إلى غزة، أصبح الفلسطينيون هناك أفضل المدافعين عن أنفسهم، مُستخدمين وسائل التواصل الاجتماعي لتوثيق واقعهم الجهنّمي ولفَضح جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل. وقد لاقت جهودهم اهتمامًا وتضامُنًا عالميين، إلّا أنّها تفتقر إلى القيادة السياسية المنظمّة والإستراتيجيّة الضرورية تُمَكّنهم من تحويل هذا الدعم إلى تغييرٍ ملموس.
البناءُ على الدعم
حقّق الفلسطينيون، رُغمَ ذلك ورُغمَ إخفاقات قيادتهم، بعض النجاحات على الصعيد الديبلوماسي. فقد فتحت الحملة التي قادتها منظمة التحرير الفلسطينية في العام 2011 للحصول على اعترافٍ رسمي بدولةٍ فلسطينيّة في الأُمم المتحدة آفاقًا جديدة للعمل القانوني الدولي، منها الحكم الأخير الصادر عن محكمة العدل الدولية بشأن عدم شرعيّة الاحتلال الإسرائيلي. بَيدَ أنّ هذه العمليّة كانت بطيئة وتعرّضت لضغوطٍ من الولايات المتحدة وإسرائيل، أكانَ داخل الأمم المتحدة أم في الأراضي المحتلّة. وبالتالي، غالبًا ما احتاجَ الفلسطينيون إلى أطرافٍ ثالثة لانتهازِ الفُرَصِ على الساحة الدولية نيابةً عنهم، مثل القضيّة التي رفعتها جنوب أفريقيا بشأن الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية.
لكن من الواضح أنّ الهويّة الوطنية الفلسطينية أقوى اليوم من أيِّ وقتٍ مضى، وأنّ حقَّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم يحظى بدعمٍ عالمي غير مسبوق. ويُشكّلُ الاعتراف العارم بالدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى فتوى محكمة العدل الدوليّة التي تَعتبرُ أنَّ الاحتلالَ ونظامَ الفصلِ العنصري الإسرائيليَين غير قانونيَين، وقرار الجمعيّة العامة الداعي إلى تفكيك هذا النظام في غضون سنة، أدوات سياسيّة وديبلوماسيّة يمكن للفلسطينيين استخدامها لمواجهة أجندة إسرائيل التوسّعية ودعم حقّهم في تقرير المصير.
لكن في الوقت الراهن، تجد الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها في حالةٍ من الضياعِ وغياب التنظيمِ وعَجزٍ عن الاستجابة بفعاليّة لأسوَإِ أزمةٍ تواجهها منذ العام 1948. وفي ظلّ الأزمة الحالية وما تحمله من تحدّياتٍ وفُرَص، بات من الضروري أكثر من أيِّ وقتٍ مضى أن يعمل الفلسطينيون على بناءِ قيادةٍ وطنية جديدة ومُوَحّدة. فمن دون هذه القيادة، سيواجهون صعوبةً في حشد الدعم الدولي أو اغتنامِ الفُرَص الديبلوماسية أو رسمِ مسارٍ جديد نحو تحقيقِ التحرير.
- عمر حسن عبد الرحمن هو زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، حيث يُركّزُ على فلسطين وجيوسياسيات الشرق الأوسط والسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة. وهو محرّر “أفكار”، المدوّنة الالكترونية الصادرة عن المجلس لمعالجة التطورات الإقليمية وأهم القضايا التي تهمّ المنطقة. كان سابقًا زميلًا غير مقيم في معهد بايكر للسياسة العامة في جامعة رايس في هيوستن، ولاية تكساس الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.