عادةٌ لبنانيةٌ قديمة: غطرَسةُ الطوائف والاستعانةُ بالخارجِ للهَيمَنة

كما حدث مع الطوائف الأخرى في لبنان، هل صنعت الغطرسة من “حزب الله” عدوًّا طائفيًا مُدَمِّراً؟

الرئيس نبيه بري: رجل الدولة الثاني هل يعيد طائفته إلى الدولة؟

مايكل يونغ*

من بين الأسئلة التي تطرحها الحرب في لبنان بين “حزب الله” وإسرائيل: ما هي الدروس المُستفادَة من هذه الحرب بالنسبة إلى العلاقات الطائفية في البلاد؟ والسبب هو أنَّ ما نشهده اليوم، رأيناه من قبل خلال السبعينيات والثمانينيات الفائتة.

كانت القصّة، مرارًا وتكرارًا، قصّةَ غطرسة – رغبةُ الطوائف الدينية في لبنان في التحالف مع قوة خارجية، واستخدام مثل هذه التحالفات لفَرضِ هيمنتها محلّيًا. ما تَعَلَّمَتهُ كلُّ طائفة هو أنَّ النظامَ الطائفي في البلاد، بغَضِّ النظرِ عن مدى تآكله لشعور الهوية الوطنية وتعزيز الطبقة السياسية التي تلاعبت بالعداوات الطائفية لإدامةِ سلطتها، لديه قواعد يتمُّ تجاهلها على مسؤولية كل طائفة.

مهما فعلت الطائفية، فقد خلقت نظامًا تعدُّديًا بطبيعته، حتى لو كان ديموقراطيًا بشكلٍ غير كامل. وهذه التعدُّدية سمحت بظهور قياداتٍ سياسيةٍ مُتنافسةٍ داخل كلٍّ من الطوائف اللبنانية (والتي غالبًا ما تندمج في مركزين متنافسين للقوّة)، كما إنها خلقت أيضًا حاجزًا طبيعيًا ضد طموحات الهيمنة لأيِّ طائفة على أخرى. وعلى مدى نصف القرن الفائت، كانت هناك محاولات من جانب كل الطوائف الرئيسة في لبنان –السنّة والدروز والموارنة والشيعة– لفَرضِ إرادتها على الجميع، ولكن كل واحدة منها فشلت في نهاية المطاف ـ ويبدو أن المحاولة الشيعية في طريقها إلى التقويض والفشل اليوم.

خلال سبعينيات القرن العشرين، كانت هناكَ جهودٌ مُشتركة بين السنّة والدروز للتحالف مع منظمة التحرير الفلسطينية بهدفِ تغيير النظام السياسي اللبناني، الذي كان يُمَيِّزُ الطائفة المارونية، وتثبيتِ نظامٍ جديد أكثر مُلاءمة لهم. ولم يحدث هذا الجهد من خلال مؤسّسات الدولة اللبنانية، بل كان عبر التمرّد المسلّح الأكثر تدميرًا في الشوارع، وخصوصًا خلال العامين الأوَّلَين من الحرب الأهلية في لبنان 1975 و1976. إنَّ حقيقةَ أنَّ الموارنة، بعد أن استشعروا اتجاهَ الأحداث، بَدَؤوا التسلُّح قبل العام 1975، لم تكن سوى إضافة إلى الخليط الشرير الذي انفجرَ في العام 1975.

ماذا كانت النتيجة؟ في العام 1976، تدخّلَ النظام السوري بقيادة حافظ الأسد عسكريًا في البلاد، خوفًا من أن يؤدّي استيلاء منظمة التحرير الفلسطينية على لبنان إلى استفزاز رد فعل إسرائيلي من شأنه أن يجرَّ سوريا إلى حرب مباشرة. وفي حين أُلقِيَ اللومُ على الزعامة المارونية في ما بعد لدعوتها السوريين إلى لبنان، فقد حظيت هذه الخطوة أيضًا بدعمٍ إقليمي ودولي، وأبرزها من جانب الولايات المتحدة، التي توسّطت في ما يُسَمّى باتفاقية “الخطوط الحمراء” بين سوريا وإسرائيل. وقد بدأ الانتشارُ السوري بصراعٍ قصيرِ الأمد بين الجيش السوري ومنظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها، قبل أن يتصالحَ الجانبان بعد زيارة أنور السادات إلى القدس في العام 1977.

كانت العواقبُ بالنسبة إلى حلفاء منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان سلبية عمومًا. فقد فشلت محاولتهم في تغيير النظام، واغتال السوريون الزعيم الدرزي كمال جنبلاط في آذار (مارس) 1977، وفرضت دمشق لمدة ثلاثة عقود تقريبًا هيمنتها على المُجتَمَعَين السنّي والدرزي. ورُغمَ أنها سمحت لاحقًا لشخصيةٍ سنّية، رفيق الحريري، بتولّي دورٍ رئيس في لبنان ما بعد الحرب، فقد ظلَّ دائمًا تحت رقابة شديدة، وفي العام 1998 ترك الحريري منصبه بعد أن جلب السوريون العماد إميل لحود رئيسًا للجمهورية. كان من بين الواجبات الرئيسة التي كُلِّفَ بها لحّود احتواء الحريري، ولم يتبدد أبدًا عدم ثقة السوريين في هذه الشخصية السنّية البارزة.

وسوف يتبعُ الموارنة مسارًا مماثلًا في العامين 1981 و1982، عندما تحالف زعيم “القوات اللبنانية” بشير الجميِّل مع إسرائيل استعدادًا لغزوها في العام 1982. وكان هدف الجميِّل أن يُصبحَ رئيسًا للجمهورية، وهو ما نجح فيه، حتى وإن أدرك بسرعة الثمن الذي سيدفعه لانتخابه على ظهر دبابة إسرائيلية. وفي النهاية، لم يكن الأمرُ ذا أهمية كبيرة لأنه اغتيل بعد ثلاثة أسابيع في انفجار قنبلة فجّرها حبيب الشرتوني، عضو الحزب القومي الاجتماعي السوري.

لقد تبع ذلك سنوات من الفوضى داخل صفوف “القوات اللبنانية”، حيث خاضت الميليشيا سلسلةً من صراعات الخلافة، بالتوازي مع صراعٍ في الجبال أدّى إلى طرد عشرات الآلاف من المسيحيين من الشوف وعاليه في العام 1983، ومن المناطق الواقعة شرق صيدا في العام 1985. وكانت ذروة سقوط الموارنة هي الحرب بين “القوات اللبنانية” بقيادة سمير جعجع والجيش اللبناني بقيادة ميشال عون في العام 1990. وقد أدّى هذا إلى تحطيم المجتمع المسيحي، مما أدّى إلى هجرة عشرات الآلاف من المسيحيين من لبنان، وتسبّب في تراجُع القوة المارونية التي لم تتعافَ منها الطائفة كلّيًا حتى الآن.

مع ذلك، فإنَّ أحدَ الأشياء التي خرجت من هذه التجارب هو أن الطوائف، بعد أن تُصاب، تقوم بتطويرِ علاقةٍ مختلفةٍ تمامًا مع الدولة. فقد أصبح السنّة، وخصوصًا بعد أن منح اتفاق الطائف رئيس الوزراء المزيد من السلطة، يرون مؤسّسات الدولة تجسيدًا لقوّتهم الطائفية. ومع الموارنة، كان التقدم مختلفًا. في شباط (فبراير) وآذار (مارس) 1989، عندما حاول عون، الذي كان آنذاك رئيسًا للحكومة العسكرية، إغلاق الموانئ غير القانونية للميليشيات، حَظِيَ بموافقةِ العديد من أبناء وطنه من مختلف الطوائف.

من بين المسيحيين على وجه الخصوص، كان هناك كثيرون مِمَن دعموا “القوات اللبنانية” في السابق، تحوّلوا بعد ذلك إلى عون، حيث رؤوا فيه مُمثّلًا لدولةٍ كان كثيرون يتوقون إليها أثناء الحرب الأهلية. وما سمح لهم بالقيام بهذه القفزة هو أنَّ عون كان يُنظَرُ إليه أيضًا باعتباره زعيمًا مارونيًا قويًا، وبالتالي فإنَّ التخلّي عن الميليشيا لم يُهدّد بالضرورة مكانة الطائفة. لذلك، كان احتضانُ الدولة متزامنًا مع الحرب، في حين كان التعلُّق السنّي بالدولة أكثر وضوحًا بعد انتهاء الحرب في العام 1990.

واليوم، السؤال هو: هل سيتبع المجتمع الشيعي اتجاهًا مُماثلًا؟ في أعقابِ الانسحاب العسكري السوري في العام 2005، بدأ “حزب الله” وَضعَ الأساس للهيمنة التي سيُديرها نيابةً عن إيران. بعد الحرب مع إسرائيل في العام 2006، عزّزَ الإيرانيون ووسّعوا مساعداتهم العسكرية ل”حزب الله”، حتى مع قيام زعيم الحزب، السيد حسن نصر الله، في العقد التالي بلعبِ دورٍ مُتزايد في شبكة إيران من التحالفات الإقليمية، من سوريا والعراق إلى اليمن.

في العام 2023، بلغ هذا ذروته بدخول “حزب الله” في مُخطّطٍ كان من شأنه منذ البداية أن يؤدّي إلى كارثة، ألا وهو استراتيجية “وحدة الساحات”. وهذا يعني أنه إذا هاجمت إسرائيل أحد أعضاء ما يُسَمّى “محور المقاومة” الإيراني، فإنَّ الأعضاءَ الآخرين سيأتون لمساعدته، مما يحيط إسرائيل فعليًا بحلقةٍ من النار. عندما فتح “حزب الله “جبهة “الإسناد” ضد إسرائيل في 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كان ذلك في الأساس لتعزيز هذه الاستراتيجية بعد هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، على الرُغم من أنَّ المخاطرَ كانت عالية بأن إسرائيل قد تردُّ على ذلك. لقد تجاهل الحزب تمامًا الدولة اللبنانية في هذا العمل الحربي ولم يُعلِم أو بستشِر المجتمعات اللبنانية الأخرى. وبغطرسةٍ وتهوُّرٍ شديدَين، أخذَ “حزب الله” لبنان إلى صراعٍ كان يعلم أنَّ البلاد، التي لا تزال تعاني من الانهيار الاقتصادي منذ 2019-2020، لا يمكنها تحمّله. لقد قبل الإسرائيليون المواجهة على مستوى منخفض لمدة عام تقريبًا، إلى أن وجّهوا ضرباتهم العنيفة إلى “حزب الله”، الأمر الذي أظهرَ أنَّ معادلةَ الردع التي اعتمدَ عليها “حزب الله” وإيران كانت غير كافية إلى حدٍّ كبير.

ومنذ ذلك الحين، انخرَطَ الإسرائيليون في التدميرِ المنهجي للمناطق الشيعية في الغالب، على غرار ما فعلوه بغزة في العام الماضي. لقد قضوا على المراكز الشيعية في مختلف أنحاء لبنان، وقتلوا زعيم “حزب الله” الكاريزمي وخليفته المُحتَمَل، وشرّدوا المجتمع الشيعي، حيث تهجّر نحو 1.2 مليون شيعي، ودمّروا العديد من المؤسّسات التي تربطهم ببعضهم البعض، وأحدثوا تغييرًا كاملًا في البيئة التي مارس فيها وعليها “حزب الله” سلطته. وقد يستغرقُ الأمرُ عقودًا حتى يتعافى المجتمع الشيعي من الدمار الذي يواجهه الآن. ورُغمَ أنَّ “حزب الله” لا يزال لديه الآلاف من المقاتلين، ودعم مجتمع كبير، فإنه يبدو من غير المحتمل إلى حد كبير، إن لم يكن مستحيلًا، أن يتمكّن من الانخراط في أيِّ نوعٍ من النشاط العسكري الفعّال ضد إسرائيل لسنواتٍ مقبلة، لأن تكلفة الهجوم الإسرائيلي كانت باهظة للغاية.

لن يتمكَّنَ “حزب الله” من العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) بعد انتهاء حرب لبنان، حتى لو انتهت الحرب بشكلٍ واضح. ويبدو أن الطوائف الأخرى لم تَعُد راغبة في الخضوع لإملاءات الحزب، وسوف تعني التكلفة البشرية المروّعة التي تكبّدتها الطائفة الشيعية أن قدرًا كبيرًا من اهتمام الحزب في السنوات المقبلة سوف ينصبُّ على إدارة وإحياء شؤون الطائفة، وسوف يفرضُ هذا على “حزب الله” علاقة جديدة مع الدولة، والتي من المتوقع أن تجلب وحدها المبالغ الضخمة اللازمة لإعادة بناء المناطق الشيعية.

وقد أشارَ بعضُ الزعماء السياسيين إلى أنَّ “حزب الله” قد يضطر إلى الانخراط في حوارٍ بشأن أسلحته، وهو الأمر الذي قاومه حتى الآن. وهذا بعيد كل البعد من اليقين اليوم في ظلِّ استمرار الحزب في إظهار المرونة في محاربة إسرائيل في جنوب لبنان. ولكن إذا فُرِضَ على لبنان اتفاقٌ دولي ما، مع إعطاء الجيش اللبناني حرية تنفيذ القرار 1701، فقد يواجه الحزب احتمالَ إما أن يضطرَّ إلى قبول مثل هذه التسوية بكل سماتها، أو الدخول في مواجهة مع الجيش، وأي قوة دولية تدعمه، والطوائف الأخرى، التي لا تريد شيئًا أكثر من رؤية “حزب الله” منزوع السلاح ودمج أسلحته في الدولة.

لكن هل من المرجح أن تتحقق هذه النتيجة؟ وهل تمثل لحظة الحقيقة بالنسبة إلى الشيعة، على النحو الذي مثلت به الكوارث الطائفية السابقة عدوًا لغطرسة السنّة والدروز والموارنة؟ وهل تعيد الشيعة إلى الدولة؟ إنَّ الزمن وحده هو الذي سيُخبرنا بذلك، ولكن “حزب الله” قد يضطر إلى قبولِ حقيقةٍ مفادها أنه إذا استمرَّ في تجاهُلِ القواعد الطائفية للعبة، فإنَّ العواقب قد تكون وخيمة، مع عزلة الشيعة على نحوٍ متزايد في وقتٍ يعتمدُ مجتمعهم إلى أقصى حد على حُسنِ نيّةِ مواطنيهم اللبنانيين من الطوائف الأُخرى.

  • مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى