ماذا تُخَبِّئُ ولايةُ ترامب الثانية للمُستَقبلِ الاستراتيجي لدولِ الخليج العربي؟

جمعت علاقات إيجابيّة بين الدول الخليجيّة ووالرئيس الأميركي المُنتَخب دونالد ترامب في ولايته الأولى، لكنَّ المشهدَ الجيوسياسي المُتغيّر يضعُ هذه العلاقات أمامَ تحدّياتٍ جديدة.

الإتفاق السعودي-الإيراني: هل تهدده عودة ترامب إلى البيت الأبيض؟

الدكتور خالد الجابر*

أعادت ولاية الرئيس الأميركي المُنتخَب دونالد ترامب الأولى رَسمَ معالم العلاقات الأميركيّة-الخليجيّة، إذ تركّزت مقاربته على بناءِ علاقاتٍ شخصيّة مع قادة مجلس التعاون الخليجي وتوقيع صفقات أسلحة ضخمة، من دون أن تتناولَ في غالبيّتها قضايا متعلّقة بحقوق الإنسان. وقد رحّب معظم القادة الخليجيّين بهذه المقاربة التي قدّمت ضمانات دفاعيّة فوريّة من دون أن تتحدّى سيادتهم. لكن مع عودة ترامب إلى سدّة الرئاسة، تُواجِهُ الدول الخليجيّة حالةً من عدمِ اليقين، لا سيّما أنّ الصراعات العالميّة، بدءًا من حرب أوكرانيا ووصولًا إلى الصراعات المُتصاعدة في غزة ولبنان وإيران واليمن، تُكثّفُ الضغوطَ الإقليميّة القائمة. ويواجه القادة الخليجيّون عالمًا مُتعدّد الأقطاب بشكلٍ مُتزايد، حيث قد توفّر التحالفات مع الصين وروسيا بدائل من الولايات المتحدة بينما يتعاملون مع التحديات الإقليمية.

تَجَذّرت إستراتيجيّةُُ إدارة ترامب السابقة بعُمقٍ في منطق الصفقات ومقاربةٍ مُتَمَحورة حول إسرائيل. لكن في ظلّ التعقيدات التي يشهدها المشهد الجيوسياسي في الدول الخليجية، يتساءلُ صانعو السياسة في هذه الدول عمّا إذا كانت الشراكات القائمة على الصفقات وحدها قادرة على تلبية احتياجاتهم في تحقيق الأمن المُستدام والنمو الاقتصادي، اللذين يُشكّلان مسارَين متلازِمَين.

إرث ترامب في منطقة الخليج

نَسَجَ ترامب علاقاتٍ فريدة مع أعضاء مجلس التعاون الخليجي من خلال التركيزِ على الصفقات التي رَكّزت بشكلٍ خاص على الروابط العسكريّة والأمنيّة، ومُمتنِعًا عن انتقادِ سياساتهم المحليّة. وقد عزّزت صفقاتُ الأسلحة المُربحة والدعمُ العسكري أنظمةَ الدفاع في الدول الخليجيّة، لا سيما ضد التهديدات المُتَصَوَّرة على غرار إيران. وتَناقَضَ ذلك بشكلٍ كبير مع مقاربة إدارة باراك أوباما التي كانت، على الأقل إلى حدٍّ ما، تنتقد الحوكمة الداخليّة وقضايا مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان على حساب العلاقات الجيّدة بين الولايات المتحدة وبعض الأنظمة الخليجيّة.

بَيدَ أنّ مُقاربةَ ترامب القائمة على الصفقات لم تأتِ من دون ثمن، إذ أغفلت عن مسائل جوهريّة ومتجذّرة في الدول الخليجيّة وسائر المنطقة. لقد تناولت إدارة ترامب الأولى مسائل مُتعلّقة بنفوذِ إيران المُتنامي والصراع أو بالأحرى الصراعات في اليمن وتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) إنّما بطريقةٍ مُبَسَّطة لم تأخُذ بعين الاعتبار بالضرورة أسباب الاضطرابات الجذريّة أو الاحتياجات الإستراتيجيّة الأعمق للدول الخليجيّة. وتجد هذه الدول نفسها أمامَ مشهدٍ أكثر عدائية في الشرق الأوسط في ظلّ توسّع الحرب على غزة وغياب إستراتيجيّةٍ أميركية مُتماسكة طويلة الأمد للتخفيف من هذه التهديدات.

من أبرز التحدّيات الأمنيّة التي ينبغي على الدول الخليجيّة مواجهتها استمرار نفوذ إيران ووجودها العسكري في شتى أنحاء الشرق الأوسط. لقد وسّعت طهران نطاق نفوذها، بدءًا من دعم “حزب الله” في لبنان وصولًا إلى مساندة المتمرّدين الحوثيين في اليمن والفصائل الفلسطينيّة في غزة، وغالبًا ما استهدفت مصالح المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة. وشملت استراتيجيّة “الضغط الأقصى” التي انتهجها ترامب الانسحابَ من الاتفاق النووي مع إيران وفرضَ عقوباتٍ صارمة بُغية شلّ إيران والحدّ من نفوذها.

على الرُغم من أنّ الرياض وأبو ظبي والمنامة رحّبت بهذه المقاربة، فقد فشلت استراتيجيّة “الضغط الأقصى” بنهاية المطاف في إيقاف أنشطة طهران المُزعزِعة، لا بل استفزّت في الواقع إيران وشركاءها الإقليميين وحضّتهم على معاقبة هذه الدول من خلال مهاجمة منشأت شركة “أرامكو” السعوديّة في العام 2019 ولاحقًا الإمارات. بالتالي، أدركت الدول الخليجيّة الأكثر دعمًا لسياسات ترامب المُتشدّدة أنّها على الخطوط الأماميّة للمواجهة الإقليميّة مع إيران وقد تكون الأكثر تضرُّرًا بسبب مساندتها لحملة الضغط، ما يعني أنّ سياسات ترامب جعلتها هشّة أكثر منها آمنة.

مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) 2025، لا ترغب هذه الدول الانجرارَ مُجَدّدًا إلى مواجهةٍ مع إيران التي رمّمت علاقاتها معها أخيرًا من أجل تهدئة التوتّرات وتعزيز الاستقرار في المنطقة. بالفعل، تبرز مخاوف كبيرة من أن تعودَ الإدارة الجديدة إلى موقفٍ عدائي في غياب أيّ مسارٍ باتّجاهِ حلٍّ نهائي قابلٍ للاستمرار مع طهران. في نهاية المطاف، لا يرغب أعضاء مجلس التعاون الخليجي أن تتعاملَ الإدارةُ الأميركيّة المقبلة مع الجمهوريّة الإسلاميّة بطريقةٍ تُهدّد الانفراجَ السعودي والإماراتي مع إيران.

لقد زادت الحرب على غزة من تعقيد المخاوف الأمنيّة الخليجيّة. لقد حاولت قطر والكويت والإمارات التوسّط بين الأطراف المختلفة و/أو تأمين مساعدات إنسانية، لكنّها تتعرّضُ لضغوطٍ مُتزايدة لتحقيقِ توازُنٍ بين مصالحها المتعدّدة. ينبغي على أعضاء مجلس التعاون الخليجي كافةً، كونهم تحت المظلّة الأمنيّة الأميركيّة، أن يأخذوا في الحسبان كيف يمكن أن يكون لاستجاباتهم للحرب على غزة صدى سلبي في واشنطن. في الواقع، لا تسعى الدول الخليجيّة إلى أيِّ مُواجهة مع إسرائيل، البلد الإقليمي النافذ الذي يملك أسلحة نوويّة. لكن في الوقت عينه، يجب على القادة الخليجيين أن يأخذوا بعين الاعتبار ناخبيهم المحلّيين والإقليميين، وبالتالي فإنّ تجاهُلَ المشاعر المناهضة لإسرائيل لدى الشعوب العربية ليس خيارًا.

في هذه الأثناء، أثارَ دعمُ إدارة بايدن المُطلَق لإسرائيل استياءَ القادة الخليجيين الذين شعروا بأنّ الولايات المتحدة تتجاهل مخاوفهم الإقليمية لصالح تحالُفها الراسخ مع إسرائيل. ويمكن أن يُعمّق ترامب هذا الشرخ في حال حافظ على موقفٍ مُماثل. في المقابل، قد تتيح ولايته الثانية للقادة الخليجيين فرصةً للدفاع عن مقاربةٍ أكثر توازُنًا إزاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. في غياب هذا التوازُن، يُهدّد الدعمُ الأميركي لإسرائيل بتأجيجِ الاضطراباتِ الإقليمية وقد يؤدّي إلى توتّر العلاقات الأميركيّة-الخليجيّة.

ويستمرّ الوضع المضطرب في اليمن أيضًا في زعزعة الدول الخليجيّة. لقد قضت الرياض السنوات القليلة الماضية في محاولةٍ للتواصل مع الحوثيّين عبر ديبلوماسيي الأمم المتحدة والمحاورين العُمانيّين في مسعى للتفاوض على انسحاب المملكة من اليمن في أعقاب حملتها العسكريّة الكارثيّة ضد المتمرّدين المدعومين من إيران والتي استمرّت لسنوات. ورُغمَ توقّف الاشتباكات بين السعوديّة والحوثيين في العام 2022، يُساورُ المملكة قلقٌ من أن تؤدّي الظروف الإقليميّة إلى استئناف القتال، ربما على حساب الانفراج السعودي-الإيراني. لقد أثار القصف الأميركي-البريطاني لأهدافٍ حوثيّة في اليمن ردًّا على الهجمات البحريّة توتّرَ معظم الدول الخليجيّة واضطرابها المتزايد بفعل قرارات واشنطن المُتعلّقة بالسياسة الخارجية. سيرغب القادة الخليجيّون في أن يدفع ترامب باتّجاه وقفٍ لإطلاق النار في غزة عوضًا عن مواصلة سياسات إدارة بايدن بشنّ عمليّاتٍ عسكريّة ضد الحوثيين كوسيلةٍ لإعادة الاستقرار إلى خليج عدن والبحر الأحمر.

تحوّل عالمي: الدول الخليجيّة تتّجه نحو الصين وروسيا

دفع الشعورُ بالاستياء من السياسات الأميركيّة المُتغيّرة القادةَ الخليجيين إلى السعي بشكلٍ متزايد إلى شراكات وتحالفات بديلة مع الصين وروسيا. لقد عمّقت الصين، من خلال مبادرة الحزام والطريق، استثماراتها في البنى التحتية والتكنولوجيا والطاقة في منطقة الخليج، ما أمّن التنويع الاقتصادي الضروري من دون مطالب سياسية مقابلة، وهو نموذجٌ يتماشى جيّدًا مع تفضيل القادة الخليجيين للحفاظ على استقلاليّتهم وسيادتهم.

في غضون ذلك، رسّخت روسيا مكانتها كشريكٍ حيوي لمنطقة الخليج في مجالَي الطاقة والدفاع. لقد ساهم نفوذ موسكو في سوريا واستعدادها للانخراط الديبلوماسي مع كلٍّ من إيران ودول مجلس التعاون الخليجي في اكتسابها صفة الوسيط النافذ والشريك الأمني. علاوةً على ذلك، سمح تعاون روسيا مع الدول الخليجيّة في مجال الطاقة من خلال “أوبيك+” لموسكو بتمتين روابطها مع المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة، ما أثّر في إنتاج النفط وأسعاره عالميًّا. وبالنسبة إلى القادة الخليجيين، فإنَّ نسجَ روابط مع روسيا لا يقتصر على مكاسب اقتصاديّة فحسب، بل يوفّر أيضًا فرصةً لموازنة النفوذ الأميركي، لا سيما أنّ الحرب في أوكرانيا تبيّن حدود التحالفات التقليديّة وأهميّة الاستقلاليّة الإستراتيجيّة.

إذا استمرّ ترامب بتبنّي مقاربته القائمة على الصفقات القصيرة الأمد التي اعتمدتها إدارته السابقة، قد تُسرّع الدول الخليجيّة شراكاتها مع الصين وروسيا لحماية استقرارها الاقتصادي وضماناتها الأمنيّة. وإذا استمرّت الولايات المتحدة في التركيز على المعاهدات الدفاعيّة وحدها من دون معالجة الاحتياجات الاقتصاديّة والديبلوماسيّة الأوسع، قد تدفع الدول الخليجيّة أكثر إلى دائرة نفوذ بكين وموسكو، ما يُغيّرُ تحالفات المنطقة بشكلٍ جذري ويَحُدُّ من نفوذ واشنطن.

التعامُل مع مستقبلٍ غامض من العلاقات الأميركيّة-الخليجيّة

فيما تُواجِهُ الدول الخليجيّة مشهدًا مُتقلّبًا تُحدّدُ معالمَه الصراعاتُ الإقليميّة والتحوّلاتُ في القوى العالميّة والمنافسة المكثّفة بين القوى العظمى، فإنها تُعيدُ تقييم تحالفاتها الإستراتيجيّة. قد تُحقّقُ إدارة ترامب الاستقرار المرجوّ في الشراكات الدفاعيّة، لكنَّ المُقاربة القائمة على الصفقات التي انتهجها في ولايته الأولى قد أثبتت أنّها غير كافية للتعامل مع احتياجات منطقة الخليج المُعقّدة. في غيابِ التزامٍ أعمق بالانخراط الديبلوماسي وتسوية الصراعات ودعم التنويع الاقتصادي، تُخاطر الولايات المتحدة بفقدان نفوذها في الدول الخليجية لصالح الصين وروسيا، اللتين تعتبرهما هذه الدول قوّتَين أسهل التعامل معهما من الولايات المتحدة في نواحٍ متعدّدة.

حين يتسلّم ترامب مقاليد الرئاسة مُجَدّدًا، ستواجه إدارته ضغوطًا لتحقيق توازُنٍ بين الشراكات والتحالفات الفوريّة من جهة، وإستراتيجيةٍ طويلة الأمد تُعالج التحدّيات في منطقة الخليج من جهة أخرى. قد يؤدّي الفشلُ في تحقيقِ هذا إلى إعادةِ اصطفافٍ كبرى في شبكة العلاقات المعقّدة في الشرق الأوسط، فيلجأ القادة الخليجيّون إلى شركاءٍ جُدد. لكي تزدهر العلاقات الأميركيّة-الخليجيّة في السنوات المقبلة، لا بدّ من أن تتكيّفَ واشنطن مع الأولويّات المُتغيّرة في المنطقة،، لا سيّما تهدئة الصراعات الإقليميّة لتتمكّن من التركيز على التنويع المحلّي وبرامج الإصلاح، وإلّا فإنّها تخاطر بفقدان موقعها وتأثيرها في منطقةٍ ذات أهميّة إستراتيجيّة حاسمة.

  • الدكتور خالد الجابر هو باحث في الدراسات الخليجية والعربية والدولية التي تركز في بحوثها على وسائل الاتصال الجماهيري وقياس الرأي العام والعلوم السياسية والعلاقات الدولية و.هو مدير مركز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للبحوث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى