محطّات القطار بريشاتهم (1 من 2)
هنري زغيب*
حين بدأَ القطار أَن يكون وسيلة نقلٍ، محصورةً ثم شعبيةً، في عدد من بلدان العالَم الغربي، باتت محطاتُه واحاتٍ للقاءِ المسافرين في كل اتجاه، وراحت تكثر فيها المحالُّ التجارية والمخازن الكبرى والمكتبات. ومع الوقت، أَخذَت تلك المحطات تستقطب الرسامين يلتقطون فيها ومنها مناظرَ الناس ومشاهدَ القطارات في دخولها المحطة وخروجها منها.
في هذا المقال من جُزءَين باقة جميلة من لوحات جميلة لرسامين عاشوا لحظاتٍ حاسمةً في الزمن الذهبي لمحطات القطار.
هنا في الجزء الأَول أَربع لوحات.
متعة السفر والريشة
كان القطار، إِلى كونه وسيلةَ نقل، متعةً سياحيةً للكثيرين، خصوصًا إِبان عصره الذهبي في النصف الآخر من القرن التاسع عشر وبضعة عقود أُولى من القرن العشرين، إِذ كان الوسيلةَ الأَسرع يومها للتنقُّل بين المدُن والبُلدان.
مع انتشار محطات القطار في معظم دوَل العالَم، راحت تتأَنَّق في بنائها حجرًا وزجاجًا وأَشكالًا وهندسةً جميلة تُريح المسافرين وتوحي للشعراء والكتَّاب والرسامين خيالاتٍ وأَبعادًا لقصص ومسرح روايات ولوحات تشكيلية.
كان للرسامين حضورٌ في تلك المحطات، وكانت لهم اندهاشاتهم كسائر السيَّاح والركَّاب، فرسموا وعبَّروا بالخطوط والأَلوان عن انفعالاتهم ومشاعرهم.
هذه الآلةُ البخارية الضخمة وُلِدت في إِنكلترا (محصورة سنة 1825 ثم عامَّة سنة 1830)، وما زال القطار فيها أَكثر الوسائل شعبيةً وعراقة. من هنا أَن الرسامين الإِنكليز كانوا بين بأَوائل من رسموا محطاته محطاته الكبرى والأَقدم.
محطة “بادِنْغْتون”
من الرسامين الإِنكليز: وليام باول فْرِيْثْ (1818-1909) أَبرزُ رسامي المرحلة الفيكتورية. يظهر في لوحته مجموع مواطنين لندنيين أَنيقي اللباس، منتظرين وصولَ القطار في محطة “بادِنْغْتون” الأَنيقة الجميلة العريقة الباذخة بأَقواسها العالية. وهذه اللوحة هي من أَبرز وأَجمل لوحاته لِما تمثِّله من صدْقٍ في التعبير عن المشهد الذي ما كان يمكن أَن نراه لولا لوحته التي هي واحدةٌ من مجموعة لوحات له في اقتناص مشاهد الجموع إِبَّان ذاك العصر الفيكتوري. وفي هذه اللوحة تعمَّد الرسام أَن يكون ظاهرًا مع أُسرته بين جمْع المسافرين: يَظهرون إِلى يسار منتصف اللوحة، ملوِّحين بتحية المغادَرَة لولدهم الذاهب إِلى المدرسة، فيما أُمُّهُ تقبِّل وجْنته، من هنا سهولة التعرُّف إِليهما في اللوحة.
محطة “يورك”
هي لوحة للإِنكليزي الآخر هربرْتْ وليام غاراتْ (1864-1913)، وهو – إِلى كونه رسَّامًا – مهندس ميكانيكي وصاحب اختراع يحمل اسمه حول نظام القاطرات الكهربائية وسائر المقطورات. وعلى عكس لوحة فْرِيْثْ التي اهتمَّ فيها راسمها بالجموع البشرية وحماستها وزوغتها في محطة القطار، ركّز غارات في لوحته عن المحطة على الناحية الصناعية الميكانيكية التي هي اختصاصُهُ العلْمي كمهندس. وهو رسم لوحته هذه من داخل قاطرة تتهيَّأُ للدخول إِلى محطة يورك، ويبدو القطار في خلفية اللوحة، مع إِشارة واضحة إِلى الرصيف حيثُ الإِشاراتُ الضوئية الدالَّةُ السائقَ إِلى المحطة. من هنا أَنَّ جميع عناصر اللوحة تكنولوجية تدل على أَساس الرسام مهنيًّا، ما يوضح أَن معظم لوحاته هي عن القطارات ومحطاتها.
محطة “سان لازار”
أَنتجت فرنسا أَفضل وأَشهر لوحاتٍ لِمحطات القطار، بفضل التيار الانطباعي السائد فترتئذٍ، والذي ركَّز أَساسًا على نقل الحياة العصرية (عهدذاك) من مناظر طبيعية ومشاهد ناسٍ في أَوضاع وظروف مختلفة، من هنا كانت خطوط السكة الحديدية والقطارات ومحطاتها مواضيعَ رئيسةً في لوحات الانطباعيين. ومن هنا أَن الفرنسي كلود مونيه (1840-1926) المعروف بلوحاته التي يتكرر فيها الموضوع ذاته، رسَمَ مجموعة لوحات في موضوع واحد: “محطة سانت لازار” في باريس.
وهو رسم فيها القطارات داخلةً المحطة أَو مغادِرَتَها، من دون دخان البخار الذي يُخفي عادةً جزءًا من اللوحة.
وكان من الانطباعي الفرنسي الـمُحدَث ماكسيميليان لوس (1858-1941) أَن رسَم هو الآخر محطةً باريسية للقطار (“المحطة الشرقية”) جاءت مختلفةً عن ريشة مونيه، لكنها بقيَت ملتزمةً في خطوطها بالتيار الانطباعي.
في الحلقة المقبلة: عرضٌ لأَربع لوحات أُخرى.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.