شبكةُ أمانٍ أُمَميَّةٍ فوقَ سماءِ النجف
محمّد قوّاص*
امتنعَ المرجع الشيعي الأعلى، السيّد علي السيستاني، منذ العام 2015 عن استقبالِ قادةِ العراق تَبَرُّمًا من أدائهم واستنكارًا لما وصلت إليه حال البلاد. وأن يطلَّ في الأيام الماضية ليُطلق مواقف حازمة في أصول الحكم وإدارة الدولة ويُسلّط مجهرًا على تدخّلات الخارج، فذلك أنَّ في الأمر عجالةً داهمة تستدعي وضع كثير من النقاط على الحروف.
ليس مصادفة أن يَكشُفَ مكتبه انه أطلقَ هذه المواقف خلال لقائه ممثل الأمين العام للأمم المتحدة الجديد لدى العراق، العماني محمد الحسان. وكأنَّ في تمرينه مُخاطبةٌ للمجتمع الدولي برمّته بشأنِ ثوابت يُصدِرها تأخذُ بُعدًا له صداه الخاص لدى العراق وشيعته وشيعة العالم أجمع. ولئن تنافست تاريخيًا مرجعيات النجف في العراق ومرجعيات قُم في إيران، فإنَّ النجف، في ما يشبه الفتوى، تُحدّدُ، على لسان السيستاني قواعد وأصول إدارة الحكم في البلد.
يُشبهُ النقاشُ القديم الجديد في العراق منذ العام 2003 ما يجري في لبنان منذ العام 2000. من داخل البلدين خرجت مطالب تدعو إلى حصر السلاح بيد الدولة وحدها، بمعنى زوال الدويلة لصالح الدولة الواحدة. وفي لبنان كما في العراق خرجت ظواهر مُعانِدة، عبر المؤسّسات الدستورية والإعلامية، كما من داخل المجتمع المدني وحراك الشارع الشعبي. وفي لبنان كما في العراق أسالَ حماةُ السلاح دماءً ضد منطق الدولة وظلّها الوطني الواحد.
في كل مفاصل التحوّلات في تاريخ العراق ظهرت النجف لتُدلي بدلوها الوطني. صحيحٌ أنَّ المرجعية سقف الدين وحصنه الساهر، لكنها حاضرةٌ لتحديد المواقف في لحظات العراق الحرجة. والواضح أنَّ صدورَ مواقف السيستاني الأخيرة عائدةٌ إلى حراجةِ وَضعٍ تمرُّ به البلاد. فكما امتدّت حربُ غزّة نحو لبنان ووجدت لها جولات في اليمن وسوريا قد يكون لها ما بعدها، فإنَّ العراق بات جاذبًا لبراكين تلك الحرب.
تحدّثَ المرجعُ أمام ضيفه “الأممي” عن عِبَرٍ وَجَبَ استخلاصها “لبناءِ مستقبلٍ أفضل ينعمُ فيه الجميع بالأمن والاستقرار والازدهار”. في قلبِ القول استنتاجٌ لتجربةٍ عاشها العراق منذ زوال نظامه السابق لم تنجح في نقله إلى ما هو استقرار وازدهار. وحين يدعو المرجع إلى اعتمادِ مَبدَإِ الكفاءة والنزاهة في تقلُّد المسؤوليات، فذلك يُسدّدُ صفعةً إلى منظومة المحسوبيات المُتأسّس على تقاسُمٍ مذهبي ينهلُ قواه من ما وراء الحدود. لكن أبرز ما تصدّرَ مواقف السيستاني هو ما يخاطب واقعًا قد يدفع بالبلد نحو أتون حروب إسرائيل الجارية تحت رعاية الكبار وبحمايتهم.
يعيش العراق لحظاتَ قلقٍ وخوف. تتدافع تقارير دولية، لا تنفيها إيران، عن نيّة طهران شنّ ردّ “مزلزل” على الردّ الإسرائيلي الأخير على إيران من خلال العراق. كانت طهران قد كشفت أنَّ “مقاتلات المُعتَدين استخدمت الأجواء العراقية”. نشطت في إيران سيناريوهاتُ ردٍّ من خلال فصائلها الموالية في العراق. وفق هذا التطوّر فإنَّ العراق قد يدخل حربًا لا تريدها بغداد، تمامًا كما دخل لبنان حربًا لا تريدها بيروت.
يُدلي هنا السيستاني بدلوه. يُطلقُ رسائل دقيقة مُوجَّهة إلى مقاصدها بعينها. فالأمن والازدهار والاستقرار يعتمد على “منع التدخّلات الخارجية، وتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة”. بمعنى آخر فإنَّ النجف ترفضُ أن يكون شيعة العراق وبلدهم جُزءًا من ميادين ولاية الفقيه في إيران وتدخّلات طهران في هذا الصدد، وترفضُ أن يكونَ السلاح الخارج عن سلطة الدولة مُمسِكًا بمفاتيح الحرب والسلم ومُحَدِّدًا مداخل ومواقيت الأمن والاستقرار.
بدا أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عجّل بإرسال ممثله للقاء المَرجع الشيعي في النجف. بدا أيضًا مما أعلنه الحسان من مواقف في ذلك اللقاء أنَّ المنظمة الأممية تنصُبُ شبكةَ أمانٍ تحمي النجف من شطط حروب غزّة. كانَ إعلامٌ إسرائيلي نشر صورةً للسيستاني ضمن قائمةٍ لأهداف اغتيال مُحتَملة إلى جانب شخصيات أخرى، مثل عبد الملك الحوثي (اليمن) ونعيم قاسم (لبنان) وإسماعيل قاآني، والمرشد علي خامنئي (إيران) وغيرهم. ندّدت بها بغداد ودعت المجتمع الدولي إلى التحرّك.
في النجف، تحدث ممثل الأمين العام للأمم المتحدة عن مكانةِ السيستاني في العالم الإسلامي والدولي، مُضيفًا بكلماتٍ حازمة: “لا نقبلُ أيَّ مساسٍ بمقام المرجعية، ومشورة السيد السيستاني تحظى باحترام المبعوثين الخاصين”. تَفرُشُ المنظمة الدولية مظلّتها فوق النجف التي تكاد تُعلِنُ تَصدّعًا في وصاية طهران على العراق وتقادُمًا لزمن فصائلها هناك.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).