أوروبا تُساعِدُ على تأجيجِ الصراعِ في السودان بينما تُغلِقُ أبوابَها أمامَ ضحاياه

يَتعيَّن على الاتحاد الأوروبي أن ينظرَ إلى اللاجئين السودانيين باعتبارهم “جُزءًا من الجوار” وأن يُقدّمَ لهم الدعم نفسه الذي يُقدّمه للأوكرانيين.

قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان وقائد “قوات الدعم السريع” الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي): الحرب أنهكت شعبهما ولم تنهكهما!

سُهى موسى*

بعد أكثر من 18 شهرًا على الصراع في السودان، يبدو الحلُّ السلمي أبعدَ من أيِّ وقتٍ مضى. ومع سقوط مئات القتلى في غضون أيامٍ قليلة في ولاية الجزيرة على أيدي “قوات الدعم السريع”، ومُعاناة ما يقرب من 26 مليون شخص من الجوع الحاد، ونزوح 10 ملايين شخص، فإنَّ الواقعَ المرير هو أنه حتى لو جاء وقف إطلاق النار غدًا، فإنَّ الآثارَ الطويلة الأجل ستستمرُّ لأجيالٍ مُقبلة.

إنَّ الأزمة الإنسانية المُستَمرّة التي تمتدُّ عبر حدود السودان هي واحدة من أكبر الأزمات في التاريخ الحديث – وربما أكبر أزمة لاجئين في العالم منذ العام 1947، عندما خلّفَ تقسيمُ الهند أكثر من 15 مليون نازح. مع ذلك، وعلى الرُغم من الإحصاءات والقصصِ والصورِ المُروِّعة التي تخرج من السودان، فإنَّ أعضاءَ المجتمع الدولي، مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وقفوا إلى حدٍّ كبيرٍ مُتفرِّجين، غير راغبين في دعم النازحين الجدد بأيِّ طريقةٍ ذات مغزى، وحرمانهم من الحماية نفسها الممنوحة للنازحين من أماكن مثل أوكرانيا.

رَكَّزت الدولُ الأجنبية بشكلٍ خاطئ مُشاركتها في السودان على محاولةِ جَلبِ القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع إلى المفاوضات، وبالتالي إضفاء الشرعية على أعضاء الكيانَين كقادةٍ مُحتَمَلين للسودان ما بعد الحرب. لقد فعلوا ذلك بدلًا من تحميلِ كلِّ طرفٍ المسؤولية وإعادة توجيه الدعم إلى منظّمات المجتمع المدني وجماعات المقاومة التي تُمثّلُ الشعبَ السوداني بشكلٍ أفضل. في أحدث نسخة من المفاوضات الفاشلة في آب (أغسطس)، حاول الأميركيون والسعوديون والسويسريون إحضارَ الأطراف المُتحاربة إلى طاولة المفاوضات في جنيف – ولكن لم يحضر أيٌّ منهم.

بدلًا من تنظيم الإجتماعات و”التوسّط”، يجب على أعضاء المجتمع الدولي أن يتدخّلوا لدَعمِ مجتمع النازحين المُتنامي في السودان – لكنهم يرفضون. وباعتبارهما قوَّتَين أجنبيتين مسلحتَين بقوةٍ اقتصادية كبيرة ونفوذٍ بعيد المدى في تشكيل المعايير الدولية، تجاهلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي السودان إلى حدٍّ كبير، وتبعهما المجتمع الدولي الأكبر.

على سبيل المثال، أكمل الاتحاد الأوروبي اجتماع مجلسه الأخير في نشرين الأول (أكتوبر)، والذي ركّزَ بالكامل تقريبًا على الهجرة، مع خِطَطٍ للحدِّ من المهاجرين وتصديرهم. لقد بدأت إيطاليا في نفي المهاجرين الذكور إلى ألبانيا لفحص طلبات اللجوء ومعالجتها، وحثَّ أعضاءُ المجلس الأوروبي اليمينيون، إلى جانب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، بقية دول الاتحاد الأوروبي على محاكاة الإجراءات الرامية إلى تقييد الهجرة وتسهيل عمليات الترحيل من خلال إنشاء “مراكز هجرة” لمعالجة “المهاجرين غير النظاميين” في الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ويشار إلى هذه الدول باسم “الدول الثالثة”.

لقد بدأت سياسة الهجرة في أوروبا تكرارَ التكتيكات التي شُوهِدت في الولايات المتحدة، مثل استخدام دونالد ترامب (في ولايته الأولى) لمراكز الاحتجاز لسجن الأطفال أو طرد حاكم ولاية تكساس الجمهوري “غريغ أبوت” القسري للمهاجرين إلى الولايات ذات الميول الديموقراطية. وفي حين اختتم الاتحاد الأوروبي جهوده بعباراتٍ أكثر أناقة – فهو يفخر بشكلٍ خاص بالإشارة إلى المهاجرين باعتبارهم “غير نظاميين” بدلًا من “غير شرعيين” – فإنَّ المظهرَ اللامع سرعان ما يتلاشى. وهذا واضحٌ بشكلٍ خاص وسطَ دعواتٍ من وكالات، مثل وكالة الأمم المتحدة للاجئين والمنظمة الدولية للهجرة، لتقديم المساعدة والدعم للاجئين من مناطق الصراع، مثل السودان.

بدلًا من ذلك، تظل حكومة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما ثابتة في تحديد جهودها في السودان بالمساعدات المالية، غير راغبة في الاعتراف بأنه بلدٌ على وشك الانهيار، غالبًا ما تكون الأموال والمساعدات الإنسانية غير قابلة للتوصيل عندما تمنعها مجموعات مثل قوات الدعم السريع، التي فشلت القوى الأجنبية في إحضارها إلى طاولة المفاوضات. عندما تصل المساعدات، تكون قليلة جدًا ومتأخّرة جدًا.

قدم بيتر ستانو، المتحدث الرئيس باسم الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، قضية السودان باعتبارها قضية إقليمية، قائلًا: “إنها ليست منطقتنا. نحن نعترف بقيادة جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي لأن السودان هو دولة أفريقية، كما إنه دولة إسلامية أو عربية”. ولأن ستانو هو ممثل منظمة رفيع المستوى، فقد حاول بيانه، الذي ألقاه أمام مجموعة من الصحافيين الأميركيين والكنديين، إبراز الصورة الخارجية المرغوبة للاتحاد الأوروبي – منظمة لا تنخرط في سياسات تدخلية. ولكن ما يفعله الاتحاد الأوروبي بدلًا من ذلك هو تجاهل الوضع تمامًا.

الواقع أنَّ الاتحاد الأوروبي، حتى لو كان راغبًا في احترام المبادرات الإقليمية، أصبح هو نفسه مُتواطِئًا في إطالةِ أمدِ الحرب من خلال تمويل قوات الأمن في المنطقة لردع الهجرة، ومن خلال عدم فرض المساءلة على الشركاء الإقليميين مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. في منتصف تشرين الأول (أكتوبر)، عقد الاتحاد الأوروبي قمته الأولى مع مجلس التعاون الخليجي، حيث لم تكن هناك مناقشات حول تمويل الإمارات لقوات الدعم السريع أو تورط السعودية مع القوات المسلحة السودانية. وللمفارقة أنَّ مسؤولي الاتحاد الأوروبي لا يفوِّتوا الفرصة، كما اعترف ستانو لمجموعة من الصحافيين الأميركيين والكنديين: “نحن نُموّلُ الصراعَ في الأساس”.

وهو مُحِقٌ وغير مُخطِئ. إنَّ قوات الأمن المُموَّلة من الاتحاد الأوروبي في مصر هي التي استُخدِمت في حملة اعتقالاتٍ جماعية وترحيل للاجئين الآتين من السودان في وقت سابق من هذا العام، وفقًا لمنظمة العفو الدولية. لذلك، فإنَّ تأكيدَ الاتحاد الأوروبي على ضرورة ترك هذا الصراع للمنطقة، أو أنه “ليس جوارنا”، كما قال ستانو، هو ببساطة وسيلة للتهرُّب من المسؤولية – وسيلةٌ لتجنُّب معالجة الفرص ذات المغزى للمساعدة، وخصوصًا في إعادة التوطين.

في الولايات المتحدة، تمَّ حصر المشاركة في الصراع في محاولات الوساطة الفاشلة والدعم المالي. لكن واشنطن هي أكبر مساهم في خطة الاستجابة الإنسانية لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية. المال موجود، لكن الضغط على القوات المسلحة السودانية للسماح بدخول المساعدات إلى المناطق المتضررة كان خفيفًا للغاية. كما كان افتقار الولايات المتحدة للضغط على الإمارات لتحمل المسؤولية عن دورها أمرًا لافتًا.

بعد أيامٍ قليلة من سلسلةِ تغريداتٍ ثلاث حول الولاء للشعب السوداني من الرئيس جو بايدن، رحب بالرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في البيت الأبيض، مُشيدًا بشراكتهما الاستراتيجية بينما رسما معًا “مسارًا طموحًا للمستقبل”. لقد مكنت مثل هذه الجهود الفاترة لمعالجة الصراع وآثاره الحكومة الأميركية من غضِّ الطرف عن أزمة النزوح المتزايدة في المنطقة.

مع مثل هذه الجهود الصارخة لإبقاء المهاجرين في وَضعٍ حرج في جميع أنحاء الغرب، يُصبحُ من الصعب بشكلٍ مُتزايد تجنُّب مقارنة ظروف اللاجئين السودانيين بالاستقبال المفتوح المقدم للاجئين الأوكرانيين. في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، أصدر الاتحاد الأوروبي قرارًا بالإجماع لتوجيه الحماية المؤقتة لأولئك الفارين من الحرب في أوكرانيا، والذي تم تمديده حتى آذار (مارس) 2026. وتشمل هذه الحماية تصاريح الإقامة؛ والوصول إلى فرص العمل والطبابة والرعاية الاجتماعية والتعليم؛ وحرية التنقل داخل الاتحاد الأوروبي؛ وامتيازات إضافية.

حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، حصل أكثر من 4.2 ملايين شخص من أوكرانيا على حمايةٍ مؤقتة، مما يوفر الاستقرار لملايين النازحين قسرًا. وقد اعتُبِرَ الأوكرانيون جُزءًا من الجوار.

لكن من المؤسف أنَّ الشيء نفسه لا ينطبق على السودان. في حين تمنح الولايات المتحدة اللاجئين السودانيين وضع الحماية المؤقتة حتى نيسان (أبريل) 2025، لم يتمكّن سوى أقل من 1200 شخص من إعادة التوطين بنجاح، ويُهدد فوز دونالد ترامب في الانتخابات أي تمديد أو استمرار لهذه الحماية. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، مكّنت عمليات الاعتراض، التي يدعمها الاتحاد الأوروبي عبر شمال أفريقيا، تونس وليبيا والمغرب من منع اللاجئين السودانيين، من بين آخرين، من العبور إلى أوروبا ــ وهو ما أدى في كثير من الأحيان إلى الصور المحزنة التي نراها للقوارب المقلوبة في البحر الأبيض المتوسط.

غالبًا ما تؤدّي عمليات الاعتراض في البحر من قبل قوات شمال أفريقيا إلى موجة من انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك الاحتجاز في ليبيا، والطرد إلى البلدان المجاورة من قبل السلطات التونسية، وحتى العمل القسري والاتجار بالبشر. وبدلًا من توجيه الأموال لحماية وتزويد مخيمات اللاجئين، ذهبت الأموال الأوروبية إلى مراقبة البحر الأبيض المتوسط ​​ــ على أمل الحد من أيِّ هجرة.

والذين نجحوا في إعادة التوطين فعلوا ذلك بأعداد قليلة للغاية. كانت ألمانيا هي الدولة التي أعادت توطين أكبر عدد من طالبي اللجوء السودانيين في العام 2023، حيث بلغ عددهم 472 شخصًا. ويشير هذا العدد الضئيل إلى الافتقار إلى مسارات إعادة التوطين الواضحة المُتاحة للنازحين السودانيين. ومن بين 10 ملايين نازح، لا يزال أكثر من ثمانية ملايين في الدولة التي مزّقتها الحرب. وقد عملت عمليات اللجوء البطيئة، والافتقار إلى مجتمعٍ مُرَحِّب، والتكامل الاقتصادي التدريجي -وهي انتكاسات لم تمنع المهاجرين من أوكرانيا بالطريقة نفسها- كحواجز أمام مغادرتهم، حتى قبل أن يبدأ الاتحاد الأوروبي فرض قيود أكثر صرامة على الهجرة.

إنَّ المعاملة التي يتلقاها اللاجئون الأوكرانيون والسودانيون على مدار اليوم والليلة تُمثّل قضايا أكبر داخل الاتحاد الأوروبي. لقد أثار اللاجئون الأوكرانيون شعورًا بالأخوّة في العديد من دول الاتحاد الأوروبي. ومن المؤكد أن الروابط الثقافية والدينية والتاريخية تُقرّبهم من العديد من الدول الأعضاء، ولكن اللامبالاة والعداء تجاه اللاجئين غير البيض وغير المسيحيين الذين يفرّون أيضًا من صراعٍ مُدمّر يشير إلى معايير مزدوجة مقلقة.

مع تخطيط الاتحاد الأوروبي لتبنّي نهج إيطاليا، وتهديد فوز ترامب في الانتخابات الأميركية سياسة الهجرة الحالية، وأستمرار الحرب في السودان مع القليل من المساعدات أو الوعد للمواطنين السودانيين، يتم التشكيك في المعايير الدولية للعمل الإنساني. وبصفتهما مراقبين دوليين، يجب على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حشد مواردهما المتاحة لدعم السكان الذين يُعانون من خلال تقديم مسارات مماثلة لإعادة التوطين والضغط على القوات المسلحة السودانية للسماح بمرور المساعدات التي أنفقت عليها الملايين.

والسبب… لأنه جوارنا أيضًا.

  • سُهى موسى هي باحثة في شؤون السودان والشرق الأوسط الكبير مُقيمة في نيويورك. يمكن متابعتها عبر منصة (X) على: @suhamusa23

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى