الحَلُّ الأفضل للقضيّةِ الفلسطينية: مُبادرةُ سلامٍ جديدة تُرَكّزُ على الحقوقِ قبل المفاوضات حول إقامة دولة
التركيزُ على حقوق الإسرائيليين والفلسطينيين، وليس على المطالبات المتضاربة لحكومتيهما بالسيادة، من شأنه أن يدفعَ المُجتمَعَين نحو حلٍّ يُمَكِّنهما من العيش في سلامٍ وكرامة.
مروان المُعشّر*
منذُ بداية الحرب في غزة، أصرّ المسؤولون الأميركيون وأكّدوا مرارًا وتكرارًا على أنَّ إنشاءَ دولةٍ فلسطينية في نهاية المطاف جنبًا إلى جنب مع إسرائيل هو السبيلُ الوحيد لإنهاءِ الصراع في الشرق الأوسط. أعلن الرئيس جو بايدن خلال خطابه عن حالة الاتحاد في آذار (مارس) 2024: “الحلُّ الحقيقي الوحيد للوضعِ هو حلُّ الدولتين”. في أيار (مايو)، قال مستشار الأمن القومي جايك سوليفان إن “حلَّ الدولتين هو السبيلُ الوحيد لضمان دولة إسرائيل القوية والآمنة واليهودية والديموقراطية، فضلًا عن مستقبل من الكرامة والأمن والازدهار للشعب الفلسطيني”. وخلال حملتها الرئاسية هذا العام، بما في ذلك بعد اجتماعٍ مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تموز (يوليو)، رَوَّجت نائبة الرئيس كامالا هاريس لحلِّ الدولتين، ووصفته بأنه “المسارُ الوحيد” للمضي قُدُمًا.
لكن بالنسبة إلى العديد من الناس ــوخصوصًا الفلسطينيين ــ تبدو هذه الدعوات بعيدة من الواقع. فبعد مُعاناةِ سنواتٍ من الموت والدمار وعقودٍ من القمع، لا يعتقد أغلب الفلسطينيين أنَّ حلَّ الدولتين قابلٌ للتطبيق أو وشيك. كما إنَّ استطلاعاتَ الرأي تشيرُ إلى أنَّ غالبية الفلسطينيين تؤيد الآن المقاومة المسلّحة كوسيلةٍ لإنهاءِ الصراع. ومن السهلِ الفَهم لماذا يشعرُ هؤلاء بخيبةِ أمل كُبرى، حتى من دون عامٍ من الحرب. أمضت الولايات المتحدة عقودًا في الترويج لحلِّ الدولتين في الوقت الذي كانت تزَوِّد إسرائيل بالأسلحة، وسمحت لها بتوسيع المستوطنات في الأراضي المحتلة، كما بالاستيلاء على المزيد من الأراضي والموارد الطبيعية الفلسطينية. ودعمت واشنطن إسرائيل على المستوى الدولي تقريبًا بغضِّ النظر عما تفعله. بعبارةٍ أخرى، تجاهلت واشنطن باستمرارٍ حقوقَ الشعب الفلسطيني.
لقد حانَ الوقتُ لتحوُّلٍ جذريٍّ في الكيفية التي يتعامل بها العالم مع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وبدلًا من التركيز على حلِّ الدولتين باعتباره كل شيء ونهاية للنزاع، ينبغي للقادة الدوليين أن يُركّزوا أوّلًا على ضمانِ حصول الفلسطينيين والإسرائيليين على حقوقٍ مُتساوية. إنَّ الحكومات الخارجية لا بدَّ وأن تُمارسَ ضغوطًا على الشعبين لحملهما على الاتفاق على قواعد ومبادئ مشتركة ـ وترك شكلِ الحلِّ لوقتٍ لاحق. ويجب أن تسمح هذه الحكومات للدول العربية بقيادة الطريق نحو تعزيزِ حلٍّ قائمٍ على الحقوق للصراع. وإلّا فإنَّ أيَّ جهدٍ جديد من أجل السلام محكومٌ عليه بالفشل، كما حدث مع كلِّ المفاوضات على مدى السنوات الثلاثين الماضية.
تاريخٌ قذر
كانت هناك فترةٌ وجيزة، في تسعينيات القرن العشرين والسنوات الأولى من العقد الأول من القرن الجاري، عندما كان من المُمكن أن يَتّفقَ الإسرائيليون والفلسطينيون على رؤيةِ حلِّ الدولتين التي يُروّجُ لها المسؤولون الأميركيون اليوم. وقد نجحت جهودٌ دولية هائلة، بقيادة الولايات المتحدة، في جَمعِ زعماءٍ وقادةٍ من إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية ــالمُعترَف بها دوليًا كممثّلٍ شرعي للشعب الفلسطيني ــ وتحديد كيفية تقسيم أرضهم المشتركة. وفي اجتماعاتٍ عُقِدَت في أنحاءٍ مختلفة من العالم، من كامب ديفيد إلى أوسلو إلى القدس، تعهّدوا بالعمل الشاق المتمثّل في تحديدِ الطرف الذي سيَحكُمُ أيَّ منطقةٍ والفُرَص التي قد تُتاحُ لشعبه. وفي مرحلةٍ ما، اقترب الإسرائيليون والفلسطينيون حتى من توقيعِ اتفاقٍ دائم.
لكنَّ الجانبين لم يتمكّنا من التوصّلِ إلى اتفاق. والأسبابُ الدقيقة لهذا الفشل محلُّ نزاع، ولكن الأسباب الشاملة واضحة. لقد عملت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس جورج بوش (الأب) ثم الرئيس بيل كلينتون، على تشجيع الطرفين على التوصّلِ إلى اتفاقٍ أو إقناعهما به بدون تحديد ما ينطوي عليه هذا الاتفاق في النهاية. والأمر الأكثر أهمّية هو أنَّ أيًا من الرئيسين لم يُعلن صراحةً وبوضوح بأنَّ الطرفين لا بدَّ وأن يتوصّلا إلى اتفاقٍ لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. ونتيجةً لهذا، تحوّلت المفاوضات في كثيرٍ من الأحيان إلى مناقشاتٍ مفتوحة بدلًا من مناقشاتٍ ملموسة حول إنهاء الاحتلال، الأمرُ الذي أحبط الفلسطينيين وأنصارهم.
حاولت الدول العربية التعويض عن فشلِ واشنطن من خلال تقديمِ نهايةٍ مُغرية لإسرائيل. في مقابلِ القبول بدولةٍ فلسطينية ذات سيادة، ستمنح الدولُ العربية إسرائيل معاهدةَ سلامٍ جماعية، وضماناتٍ أمنية جماعية، واتفاقًا ضمنيًا بأنَّ الدول العربية لن تطرد الملايين من اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون داخل حدودها. كما وعدت بإنهاء جميع المطالبات الإقليمية عندما تنسحب إسرائيل. لكن هذه المقترحات لم تكن كافية لبيع اتفاق.
في العقود التي تلت انهيار هذه المحادثات، أصبحَ حلُّ الدولتين غير مُحتَمَل على نحوٍ متزايد. على مدى السنوات العشرين الماضية، سمحت الحكومة الإسرائيلية لمئات الآلاف من مواطنيها بالاستقرار في الضفة الغربية والقدس الشرقية (القسم من المدينة الذي يشكل جُزءًا من الأراضي الفلسطينية). ويقيم حوالي 750 ألف مستوطن في كلا المكانَين، وهو ما يمثل حوالي 25٪ من سكانهما المشتركين. وأصبح القادة الإسرائيليون أكثر صراحةً بشأن رغبتهم في الحفاظ على هذا الاحتلال إلى أجلٍ غير مُسمّى. إنَّ الساسةَ الإسرائيليين في الوقت الحاضر يتأرجحون بين القول بأنَّ غزة والضفة الغربية “متنازَعٌ عليهما”، وليستا مُحتلَّتَين بشكلٍ غير قانوني، وبين الادعاء بأنَّ الله أعطاهما لليهود.
كانَ بإمكانِ الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، أن يردَّ على ذلك عندما تخلّى الساسةُ الإسرائيليون عن عملية السلام التي دافعت عنها واشنطن. لكن بخلافِ الانتقادات العَرَضية التي لا معنى لها، لم يفعل المسؤولون الأميركيون شيئًا لوقف إسرائيل بينما استمرَّ المستوطنون في التعدّي على الأراضي الفلسطينية. كما تخلّت الدول العربية إلى حدٍّ كبير عن الترويجِ لأيِّ حل. فعلى مدى عقود، أعلنت غالبيتها أنها لن تُطبّعَ العلاقات مع إسرائيل إلّا إذا أعطى الإسرائيليون الفلسطينيين دولةً خاصة بهم — صيغة الأرض مقابل السلام. مع ذلك، في العامين 2020 و2021، أقام بعض الدول العربية علاقاتٍ مع إسرائيل على الرُغم من أنَّ إسرائيل لم تُقدّم أيَّ تنازلاتٍ ذات مغزى للفلسطينيين.
مع تلاشي احتمالاتِ حلِّ الدولتين، بدأ العديدُ من الناشطين والأكاديميين الترويجَ لبديل: حلّ الدولة الواحدة. في هذا الحل، يتقاسَمُ الإسرائيليون والفلسطينيون المُواطَنة المتساوية في دولةٍ ديموقراطية تمتدُّ من الحدود الأردنية إلى البحر الأبيض المتوسط. لكنَّ الكثيرين من الفلسطينيين والإسرائيليين على حدٍّ سواء أعربوا عن قلقهم إزاءَ مثل هذه المقترحات، وخشيوا أن تُمثّلَ نهايةً لتطلّعاتهم الوطنية. فالفلسطينيون يخشون أن تعني الموافقة على حلِّ الدولة الواحدة الموافقة على استمرار حكم الدولة الإسرائيلية الحالية ومحو هويتهم لاحقًا. أما الإسرائيليون فهم يخشون أن يُمثّل تقاسم الدولة الديموقراطية مع الفلسطينيين بالضرورة نهاية الدولة اليهودية. في نهاية المطاف، هناك عدد أكبر من الفلسطينيين مقارنة باليهود في إسرائيل والأراضي المحتلة.
النتيجة هي طريقٌ مسدود. يبدو حلُّ الدولتين بعيدَ المنال. لكنَّ حلَّ الدولة الواحدة يبدو أيضًا غير معقول الآن. المُجتَمعان أصبحا أكثر صرامةً وصلابة. وقد أدّى هجومُ “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، على وجه الخصوص، إلى تطرُّفِ كلٍّ من الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث انخفضت الثقة بينهما اليوم بشكلٍ كبير. على سبيل المثال، في تصويتٍ جرى في شهر تموز (يوليو)، صوّتَ البرلمان (الكنيست) الإسرائيلي بغالبيةٍ ساحقة لصالحِ قرارٍ يرفضُ إقامةَ حلّ الدولتين.
القيادة المحلّية
للوهلةِ الأولى، قد يبدو أنَّ العالم العربي غير مُستَعِد لقيادةِ عمليةِ سلامٍ جديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. لا يوجدُ زعيمٌ إقليمي بمكانة ولي العهد السعودي السابق الأمير عبد الله (الذي أصبح ملكًا لاحقًا)، الذي حمل الدول العربية على الموافقة بالإجماعِ على مبادرة السلام العربية في العام 2002. الواقع أنَّ “الربيع العربي”، في العامين 2010 و2011، والأولويات المُختلفة للقوى الرئيسة في المنطقة، دفعت العديد من الحكومات إلى تجاهُلِ الصراعِ تمامًا.
لكن على الرُغم من ضعف الدول العربية، فإنها قد تظلُّ في أفضلِ وَضعٍ لتقديمِ طريقٍ جديدٍ للمضي قدمًا. على مدى أكثر من عام، كانَ الغربُ غير راغبٍ أو غير قادرٍ على دفع إسرائيل إلى صنع السلام. ولا تتمتّع أيُّ حكومةٍ أو شعبٍ بالأرضية الأخلاقية العالية في ما يتّصل بالحقوق في الشرق الأوسط، سواء كانت إسرائيل أو الفلسطينيين أو الدول العربية أو الدول الغربية. مع ذلك، تتمتّع الدول العربية، من بعض النواحي، بسجلٍ أفضل في التوصُّل إلى حلول: فقد أجابت مبادرة السلام الجماعية التي طرحتها في العام 2002 على كل المخاوف التي أعلنتها إسرائيل. لكن على الرُغم من الانقسام الذي يعيشه العالم العربي اليوم، فلا يوجد سببٌ يدعونا إلى الاعتقاد بأنه لا يُمكن أن يجتمعَ العالمُ العربي من جديد.
لكن لكي نبدأ، يتعيّنُ على الدول العربية أن تتخلّى عن العديد من الأفكار القديمة. يجب عليها على وجه الخصوص أن تتخلّى عن الولاء لحلِّ الدولتين. بدلًا من ذلك، يتعيَّن على العالم العربي أن يُطلقَ عمليةَ سلامٍ تُركّز في المقام الأول على تأمين الحقوق التي يستحقّها الإسرائيليون والفلسطينيون على حدٍّ سواء.
إنَّ الخطّة التي تُركّزُ على الحقوق أوّلًا تتمتّعُ بمزايا عديدة مُقارنةً بالخطة التي تُركّزُ على شكلِ الحل. لكن ربما تكونُ أكبر هذه المزايا هي أنه على عكس مقترحات حلّ الدولتين أو الدولة الواحدة، من المستحيل تقريبًا على أيِّ شخصٍ أن يُبرّرَ رفضها، طالما أنها تستند إلى قِيَمٍ عالمية. قد لا يكونُ زعماءُ أكبر شركاء إسرائيل على استعدادٍ للدفعِ نحو إقامة دولة فلسطينية، لكنهم يتفقون على أنَّ الإسرائيليين والفلسطينيين يستحقّون الحقوق المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة. على سبيل المثال، صرّحَ بايدن في وقتٍ مُبكرٍ من إدارته أنَّ الإسرائيليين والفلسطينيين “يستحقّون تدابير متساوية من الأمن والحرية والفرصة والكرامة”. وأعلنت هاريس في مؤتمر الحزب الديموقراطي في آب (أغسطس) أنها تعتقد أنَّ الفلسطينيين يستحقّون تحقيق “حقهم في الكرامة والأمن والحرية وتقرير المصير”. وسوف يجد هؤلاء القادة صعوبةً بالغة في رفضِ خطةٍ تقومُ على تعزيز ذلك بالضبط، شريطة أن تكونَ خاليةً من القضايا المؤسّسية الشائكة.
للدفعِ بنهجٍ قائمٍ على الحقوق، ينبغي للدول العربية أن تضعَ وثيقةً، ثم تُقدّمها إلى الأمم المتحدة. إنَّ الحلَّ الوحيد الذي ينبغي أن يبدأ بالاعتراف الصريح بأنَّ أكثر من سبعة ملايين فلسطيني وسبعة ملايين إسرائيلي يعيشون في مناطق خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وأنَّ العنفَ بين الطرفيَن سوف يتزايد ما دامت الحرّيات التي يتمتّعُ بها الفلسطينيون أقل من الحريات التي يتمتّعُ بها الإسرائيليون. ثم ينبغي أن نُشيرَ إلى أنَّ الحلَّ العسكري لن يؤدّي إلى أي نتيجة، وأنَّ السبيلَ الوحيد لإقامةِ سلامٍ دائمٍ هو منحُ الشعبين كامل الحقوق السياسية والثقافية والإنسانية.
إنَّ المبادرة من شأنها أن تُلزِمَ الإسرائيليين والفلسطينيين بالمشاركة في مفاوضاتٍ ترعاها الأمم المتحدة. وسوف تَحكُمُ هذه المفاوضات القواعد والمبادئ المنصوص عليها في قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي وآراء محكمة العدل الدولية وميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي. كما سيتّفق الطرفان على أنَّ أيَّ حلٍّ نهائي سوف يلتزمُ بهذه القوانين والمؤسّسات ذاتها. وسوف تُوضّحُ الوثيقة أنَّ الشعبين يحقُّ لهما أن يعيشا في سلام مع بعضهما البعض وأن يتمتّعا بكلِّ طيف حقوق الإنسان، بما في ذلك الحرية والمساواة وتقرير المصير.
إنَّ هذه العملية لا يُمكنُ أن تكونَ مفتوحة: كجُزءٍ من التوقيع على المبادرة، يتعيّن على الطرفين أن يتّفقا على اختتام المفاوضات في غضون خمس سنوات، وسوف تُخَصّص السنوات الثلاث الأولى منها لمعالجة حقوق الإنسان والمساواة. وخلال هذه المرحلة، سوف تتفق الدولة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية على إيجاد وإبطال كل القوانين والسياسات والممارسات التمييزية أو التي تنتهك القانون الدولي. وسوف تعني هذه العملية، من بين أمور أخرى، وَضعَ حدٍّ لبناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فضلًا عن منع إسرائيل من ضم المزيد من الأراضي.
إنَّ المبادرة سوف تعمل أيضًا على إنشاءِ آليةٍ للمُساءلة، بقيادة الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الدولية. وقد تكون هذه الآلية عبارةً عن لجنة من البلدان –على سبيل المثال، تضمّنت ما يسمى بخريطة الطريق للشرق الأوسط، وهي مبادرة سلام أُطلِقت في العام 2003، لجنةً من روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. لكن هذه اللجنة لم تكن تتمتّع بصلاحياتِ إنفاذِ القانون. ولضمان سير المفاوضات بحسن نية واحترام الطرفين للقواعد المُتَّفَق عليها، فإنَّ هذه اللجنة سوف تتمتّع بسلطةٍ حقيقية. وسوف تُساعدُ هذه الآلية في ضمان التزام المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين بالجداول الزمنية المُتَّفَق عليها والعمل كمحكمين في الحالات التي يكون فيها لدى الطرفين تفسيرات متضاربة للقانون الدولي. كما سوف تقدم المساعدة الفنية والقانونية.
إذا فشل الطرفان في التوصُّل إلى اتفاقٍ في غضون الإطار الزمني المحدد، فسوف يحيلان الصراع إلى مجلس الأمن الدولي. وإذا فشل مجلس الأمن في تأمين صفقة، فإنَّ عمليةَ تحديد الاتفاق سوف تنتقل إلى محكمة العدل الدولية. وامتثالًا لقواعد ميثاق الأمم المتحدة، فإن الطرفين سوف يتفقان على اتباع وتنفيذ قرار المحكمة.
إنَّ العامين الأخيرين سوف يُخصّصان لتحديد شكل القرار، بما في ذلك ما إذا كانت هناك دولة واحدة، أو دولتان، أو أيّ شيءٍ آخر. وفي نهاية المطاف سوف يكون الأمر متروكًا للإسرائيليين والفلسطينيين لتحديد الإجابة. لكن منذ البداية، لا بدَّ وأن يتفق الطرفان على أنَّ الحلَّ لن يعني استيعاب الفلسطينيين في بنية الدولة الإسرائيلية الحالية أو طردهم إلى مصر والأردن وغيرهما من الدول العربية. بل لا بدَّ وأن يتمكّن كلٌّ من الطرفين من ممارسة حقه في تقرير المصير، فضلًا عن الحفاظ على هويته الثقافية والسياسية. وعلى نحوٍ مماثل، لا بدّ وأن تُحَلَّ مشكلة اللاجئين وفقًا للقانون الدولي. وإذا كان لليهود حق العودة (كما هو الحال الآن)، فلا بدَّ وأن يتمتع الفلسطينيون بهذا الحق أيضًا. ولا بدَّ وأن تكون القدس مدينةً مفتوحة، حيث يتمتع كلٌّ من الجانبين بفُرَصٍ متساوية للوصول إلى كل أجزائها. ومن جانبها، سوف تلتزم الدول العربية بإبرام اتفاقيات سلام وأمن جماعية مع إسرائيل.
إنَّ عناصرَ هذا الاقتراح مُستمدة من اقتراحاتٍ سابقة، بما فيها مبادرة السلام العربية وخريطة الطريق للشرق الأوسط. ولكن على النقيض من هذه الجهود، فإنَّ هذا الاقتراح الجديد لن يقومَ على تعزيز حلّ الدولتين. بدلًا من ذلك، سيتم التركيز على تعزيز حقوق وكرامة كلا المُجتَمَعَين.
التعامُل مع الحقيقة
إنَّ قبولَ هذه الرؤية وتنفيذها يتطلّبان زعامةً جديدة للإسرائيليين والفلسطينيين. بالنسبة إلى الجانبين، فإنَّ إنشاءَ مثل هذه الزعامة سوف يكون صعبًا. لكنه ليس مستحيلًا. فمن بين الفلسطينيين، هناك شخصٌ يتمتع بالمكانة والدعم المجتمعي اللّازِمَين لدَفعِ عجلةِ التحوُّل: مروان البرغوثي. والبرغوثي، أحد أبرز المسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية، يقضي الآن أحكامًا بالسجن مدى الحياة في السجون الإسرائيلية بسبب تورُّطه في الانتفاضة الثانية من العام 2000 إلى العام 2002. ونتيجةً لالتزامه بالاستقلال الفلسطيني، فهو يتمتّعُ بشعبيةٍ هائلة بين جميع الفصائل الفلسطينية. لكنه يدعمُ الحلَّ السلمي مع إسرائيل، مما يجعله أحد الزعماء القلائل الذين يتمتّعون بالمكانة والدافع اللازمَين للتوصُّل إلى اتفاق. لذلك فمن الضروري أن تُطلِقَ إسرائيل سراحه من السجن.
لكنَّ الإسرائيليين من جهتهم يواجهون طريقًا أصعب للمضي قدمًا إلى الأمام. من الواضح أن نتنياهو غير قادرٍ على تبنّي نهجٍ قائمٍ على الحقوق ــ أو أيِّ نهجٍ مُثمر. ورؤساء الأحزاب الرئيسة الأخرى في البلاد ليسوا أفضل حالًا. وبكلِّ بساطة، لا توجد في إسرائيل أيُّ كتلةٍ يهودية كبيرة تدعمُ المساواة في الحقوق للفلسطينيين.
لكن كيف يُمكنُ إذن أن نجعلَ إسرائيل تقبل نهجًا قائمًا على الحقوق؟ الجواب باختصار هو الضغطُ الدولي. حتى الآن، كانت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون سعداء بالتمسُّك بشعارِ الدولتين على الرُغم من اعترافهم بأنَّ فُرَصَ تحقيق هذا الشعار ضئيلة. وقد فعلوا ذلك لأنَّ هذا الشعار لا يتطلّبُ أيَّ عملٍ ملموس ولأنَّ إسرائيل التزمت به اسميًا في الماضي. لكن هذه البلدان لا تستطيع أن تستمرَّ في قبولِ الوضعِ الراهن ضمنًا بينما تزعَمُ أنها تدعم الدولة الفلسطينية. ومع استمرار إسرائيل في الاستيطان في الضفة الغربية وقمع الفلسطينيين بعنف، فسوف يضطرُّ أنصارُ إسرائيل إلى الاعتراف بأنها تتعامل مع نظامِ فصلٍ عُنصري وليس احتلال مؤقت. وهذا أمرٌ أصعب كثيرًا للدفاع عنه. لتجنّب العار الأخلاقي المُتمثّل في دعم مثل هذا النظام، سوف يضطرُّ الغرب في نهاية المطاف إلى اتخاذ موقفٍ أكثر صرامةً مع الحكومة الإسرائيلية.
لكن إذا أُرغِم الإسرائيليون على الرضوخِ لنهجٍ قائمٍ على الحقوق، فقد يظلُّ الكثيرون من الفلسطينيين يشعرون بعدم الارتياح في التفاوض معهم، ويخشون أن يؤدي الإطارُ، الذي لا يَضَعُ حلَّ الدولتين في المقدمة، في نهاية المطاف إلى دولةٍ واحدة تُذيبُ الهويّة الوطنية الفلسطينية في هويّة إسرائيل. لكن لا ينبغي لهم أن يخشوا ذلك. فعندما انهارَ نظامُ الفصلِ العنصري في جنوب أفريقيا في العام 1994، لم يَفقُد السكان السود في البلاد هوياتهم لصالح البيض في جنوب أفريقيا. كما لم يَفقُد البيض في جنوب أفريقيا هويتهم لصالح أقرانهم السود. بدلًا من ذلك، أُعيدَ بناءُ هيكل الدولة ذاته لضمان المساواة في الحقوق ضمن إطارٍ يُحافظ على الهوية الثقافية لكلا الطرفين. وينطبقُ الشيء نفسه هنا. فهناك العديد من الطرق التي يُمكنُ للإسرائيليين والفلسطينيين من خلالها تقسيم أو تقاسم الأراضي نفسها بدون أن يُهيمنَ أحدهما على الآخر، بما في ذلك الاتحاد الثنائي القومي الذي من شأنه أن يحافظ على حقِّ كلِّ جانب في تقرير المصير والهوية الثقافية.
ومن الواضح أنَّ محاولةَ التمسُّك بالنماذج القديمة لن تنجح. هناك دولةٌ واحدة قائمة بالفعل على الجانب الآخر من الأرض بين الأردن والبحر الأبيض المتوسط ــ وهي حقيقةٌ لا بدَّ وأن يتعامل معها العالم. إنَّ المشروع الصهيوني المُتمثّل في إقامة دولة سلمية وديموقراطية ويهودية على الأراضي الفلسطينية التاريخية ينهار، إن لم يكن قد مات بالفعل. بعبارةٍ أخرى، لم يعد المشروع الصهيوني قادرًا على تحديد مستقبل إسرائيل. ولا بدَّ وأن يحلَّ محلّه مشروعٌ مختلف، يقوم على المساواة في الحقوق.
إنَّ التركيزَ على حقوق الإسرائيليين والفلسطينيين، وليس على المطالبات المتضاربة لحكومتيهما بالسيادة، من شأنه أن يدفع المُجتمعَين نحو حلٍّ يُمَكِّنهما من العيش في سلامٍ وكرامة. وهذا هو البديل الوحيد القابل للتطبيق لكلا المُجتمعَين. وهو يتناسبُ مع إطارِ الدولتين، أو الدولة الواحدة، أو حتى الفيدرالية. وهو أفضل السُبُل لإنهاء المذبحة وتعزيز الأمن والاستقرار في منطقة مضطربة بشكل مأسوي.
- مروان المعشر هو نائب رئيس الدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام. وبصفته وزيرًا لخارجية الأردن من العام 2002 إلى العام 2004، ساعد على تطوير مبادرة السلام العربية لعام 2002 ومبادرة السلام لعام 2003 المعروفة بخريطة الطريق للشرق الأوسط. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @MarwanMuasher
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن أفِّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.