“حماس” ضعفت، لكنها ستبقى

إنَّ الفشلَ الذي أصابَ “عملية السلام” الإسرائيلية-الفلسطينية على مدى أكثر من ثلاثة عقود دفع العديد من الفلسطينيين إلى الإحباط واليأس والغضب – وفي نهاية المطاف إلى “حماس”. وإذا استمرَّ هذا الواقع الذي يُحيطُ بالفلسطينيين، فلن يستغرقَ ظهورُ “حماس” من جديد، أو ولادة حركةٍ أكثر تطرُّفًا تحمل الراية نفسها، وقتًا طويلًا.

يحيى السنوار: مقتله شكل نكسة عسكرية ومعنوية لـ”حماس”.

خالد الحروب*

بعدَ مرورِ أكثر من عامٍ على حرب إسرائيل على غزة، عادت فلسطين وقضية تقرير المصير الفلسطيني إلى الأجندة الدولية. لكن التكلفة كانت باهظة للغاية. فقد أسفر سلوك إسرائيل في الحرب عن مقتلِ عشرات الآلاف من سكان غزة، وإصابةِ وتهجيرِ أعدادٍ أكبر بكثير، وتدميرِ البنية الأساسية المدنية بالكامل، ما أدّى إلى تأجيجِ الاتهامات من قبل المحكمة الجنائية الدولية بارتكابِ جرائم حرب واتهامات بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية.

إذا كانت إعادة القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء كانت بفضل حركة “حماس”، فإنَّ جُزءًا كبيرًا من اللوم يقع أيضًا على عاتقها بالنسبة إلى التكاليف الإنسانية للعام الفائت. إنَّ ردَّ الفعل الإسرائيلي على هجوم المجموعة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 قد تجاوز كل التوقّعات، لا سيما بالنسبة إلى “حماس” نفسها. لكن كيف ستنتهي الحرب يظلُّ سؤالًا مفتوحًا، كما هو الوضع مع أيِّ محاولةٍ للتنبؤ بالحالة التي ستخرج “حماس” منها. وهذا هو الحال بشكلٍ أكبر بعد مقتل زعيم “حماس” في غزة، يحيى السنوار، الأسبوع الماضي، وسطَ تكثيفٍ مُستَمرٍّ للضربات الإسرائيلية هناك.

سوف يَعتمدُ الكثير على الخسائر التي تتكبّدها كلٌّ من إسرائيل و”حماس” والمكاسب التي يحقّقها كلُّ طرفٍ بمجرّدِ انتهاءِ القتال. لكنَّ مستقبلَ “حماس” لن يتحدّد إلّا جُزئيًا من خلال القدرة العسكرية والسياسية والإدارية للحركة بعد الحرب. سوف يكونُ الأهم من ذلك مواقف إسرائيل والولايات المتحدة واللاعبين الإقليميين، الذين سيكون لهم في نهاية المطاف دورٌ رئيس في تشكيل مستقبل الحركة.

منذ السيطرة الكاملة على قطاع غزة في العام 2007، سعت “حماس” إلى ترسيخِ حكمها من حيث الأمن وإدارة الحُكم، في الوقت نفسه الذي كانت تواجهُ جهودًا إسرائيلية لإضعافها واحتوائها. شملت تلك الجهود الإسرائيلية حصارًا جويًا وبحريًّا وبرّيًا شبه كامل على غزة، باستثناء عمليات تسليم المساعدات الإنسانية الخاضعة لسيطرةٍ مُشَدَّدة؛ والحروب المتعاقبة على “حماس” في 2008-2009، 2012، 2014، 2018 و2021 المُصَمَّمة للحفاظ على قدراتها العسكرية ضمن الحدود – وهي استراتيجيةٌ أُطلِقَ عليها “قص العشب”؛ ولقد كانت هذه السياسات مصَمَّمة لتُفاقِم المصاعب بين سكان غزة من أجل إثارة الغضب والتمرّد ضد “حماس”. ورُغم أنَّ هذه الاستراتيجيات حققت نجاحات جُزئية، فإنها فشلت في نهاية المطاف بإطاحة “حماس” في غزة. فالمجموعة لم تبقَ في السلطة فحسب، بل عززت قدراتها العسكرية، وحسّنت بيروقراطيتها الحاكمة، وعزّزت حضورها داخل المشهد السياسي الفلسطيني، وعمَّقت تحالفاتها الإقليمية.

والآن، بعد أكثر من عام من الحرب، ضعفت “حماس” بشكلٍ كبير في مجالات القيادة والسيطرة العسكرية والحُكم والقيادة السياسية، بعد أن فقدت ليس فقط السنوار، بل وأيضًا إسماعيل هنية، الزعيم السياسي للجماعة خارج غزة الذي اغتيل على أيدي الإسرائيليين في طهران في تموز (يوليو). ومع ذلك، لا تزال الحركة تعمل كمنظّمةٍ مُوَحَّدة داخل غزة وخارجها، مع وجودٍ في الضفة الغربية فضلًا عن قيادةٍ سياسية سليمة خارج فلسطين. وهذا أمرٌ مُثيرٌ للدهشة بشكلٍ خاص، نظرًا لحقيقةِ أنَّ القصف الإسرائيلي لغزة، بدعمٍ من الإمدادات الهائلة التي لا تنتهي من الأسلحة والدعم الاستخباراتي من أميركا، كان واحدًا من أشدّ القصف في التاريخ، مع قوة تفجيرية وحجمٍ إجمالي يتجاوزان القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما في العام 1945.

لكن إلى جانب مجرّد البقاء على قيد الحياة من الحرب، فإنَّ هناك مصدرَ قلقٍ رئيسًا آخر ل”حماس” يتمثّلُ في الدعم الشعبي لها داخل غزة والضفة الغربية والخارج. كانت المجموعة دائمًا يقظة بشأن هذه القضية، وطوال فترة حكمها في غزة كانت تراقب عن كثب المشاعر العامة لهذا السبب. في تلك الفترة، كانت هناك ديناميكيتان رئيستان تدفعان إلى حدٍّ كبير التقلّبات في مستويات الدعم ل”حماس”: موقفها كحركة مقاومة ضد إسرائيل وأداؤها كحزبٍ حاكم. وفي بعض الأحيان، عملت هاتان الديناميكيتان على تحقيقِ أغراضٍ مُتعارِضة، حيث عملت المقاومة على تعزيز الدعم الشعبي بينما عملَ أداءُ الحكم على تقويضه.

ويبدو أنَّ معادلةَ المقاومة والحُكم هذه كانت أيضًا سببًا في تشكيل شعبية “حماس” أثناء الحرب الحالية. ففي حين أُعجِبَ الكثيرون من الفلسطينيين بصمود الحركة وأدائها العسكري في مواجهة أقوى قوة مسلحة في الشرق الأوسط، فقد انتقدوا فشلها في الاستعداد لتأثير الحرب على المدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك حمايتهم من الهجوم الإسرائيلي وضمان توفير المساعدات الإنسانية الكافية لهم. وقد سعت “حماس” على مدى العام الفائت إلى البقاء الوكيل الإداري الرسمي للسكان في غزة، على الرُغمِ من الحملة العسكرية الإسرائيلية المتواصلة لتدمير أجهزتها وبنيتها المدنية. ونتيجةً لهذا، فإنها أيضًا الطرف المسؤول “المُسَجَّل”. ومن المثير للاهتمام أن الناس في غزة ما زالوا حتى الآن يوجّهون طلباتهم للحصول على المساعدة، فضلًا عن غضبهم وشكواهم، إلى المسؤولين المدنيين وكوادر “حماس” هناك.

من الواضح إذن أنَّ “حماس” لم تنتهِ بَعد ككيانٍ فعّال، وفي حين ضعفت بشكلٍ خطير على كافة الجبهات، فإنَّ إسرائيل لن تتمكّنَ من القضاء عليها تمامًا. إنَّ طبيعةَ “حماس” المُتعدّدة الأوجه ومدى اندماجها اجتماعيًا ودينيًا بين السكان الفلسطينيين سوف يوفّران لها المساحة والأوكسِجين لإعادة البناء وإعادة التوجيه بعد انتهاء الحرب. وحتى لو انتهى الأمرُ بتحييد “حماس” تمامًا من حيث قدراتها العسكرية، فإنها سوف تحافظ على حضورها السياسي والاجتماعي ومكانتها بين الفلسطينيين. وأيُّ صيغةٍ سياسية تهدف إلى معالجة المستقبل السياسي للفلسطينيين في الأمد المتوسط ​​أو البعيد، سواء في غزة وحدها أو مجتمعة مع الضفة الغربية، سوف تتطلّب شكلًا من أشكال الإجماع الفلسطيني و/أو الهيئة المنتخبة. وعندما تأتي تلك اللحظة، سوف تكون “حماس” موجودة هناك، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

في حين أنَّ أيَّ تنبُّؤٍ في ظلِّ الظروفِ الحالية محفوفٌ بالمخاطر، فهناكَ ثلاثةُ سيناريواتٍ مُحتَملة لآفاق “حماس” بعد الحرب، مع إمكانيّةِ الجَمعِ بين عناصر الثلاثة.

الأول هو أن تكون حركةً منزوعة السلاح. تشتهر “حماس” بأنها حركةٌ سياسية دينية وحزبُ مقاومةٍ وطنية في الوقت عينه، حيث يتولى أيٌّ من الصفتين القيادة اعتمادًا على السياق والظروف المُعطاة. إذا تمَّ إسكاتُ جانب المقاومة في “حماس” بعد الحرب، سواءَ بالقوة أو بالاختيار، فمن المرجح أن تُعيدَ الحركة تركيز طاقاتها على الجانب السياسي الديني، جنبًا إلى جنب مع إعادةِ بناءِ بنيتها التنظيمية.

في هذه الحالة، قد تكون إحدى النسخ المُحتملة ل”حماس” منظّمة غير عسكرية تعملُ كحركةٍ سياسية دينية مُماثلة للأحزاب الإسلامية الأخرى في المنطقة. وتشملُ مجالات النشاط المُشارَكة في الانتخابات والعمليات السياسية، والإنخراطَ في المقاومة الشعبية السلمية ضد إسرائيل، والجهود الرامية إلى زيادة العضوية. ومن المفيد مقارنة ذلك بجماعة “الإخوان المسلمين” في الأردن، التي تعمل سياسيًا وفازت بأكبر حصة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في المملكة في أيلول (سبتمبر) الفائت، بحوالي ربع المقاعد. وهكذا، بمجرد تعافي “حماس” بعد الحرب، أو شكلها الجديد، فإنها سوف تظل جُزءًا كبيرًا من المشهد السياسي الفلسطيني وقوة لا مفر منها في أيِّ انتخابات مستقبلية.

أما السيناريو الثاني فهو يتلخّصُ في تدميرِ الحركة وظهورِ مجموعاتٍ مُنشقّة أصغر حجمًا وأكثر تطرُّفًا. وهذا السيناريو هو الأكثر قتامةً في نظر الجميع، لأنه قد يُحوّلُ غزة إلى ساحةِ فوضى لا نهاية لها. وفي هذه الحالة فإنَّ الصراعَ وانعدامَ الأمن لن يَحلَّا محلَّ حُكم “حماس” الصارم ـ والذي نجح من منظورٍ أمني ـ في غزة ذاتها قبل الحرب فحسب، بل قد يمتد بسهولة إلى الإقليم، بما في ذلك إلى الضفة الغربية وإسرائيل ومصر والأردن.

والسيناريو الثالث المُحتمل يتلخّصُ في إضعاف “حماس” ولكن عدم تدميرها، وقبولها لصيغة تقاسم السلطة في غزة بعد الحرب. والجُزءُ المُغري من هذا السيناريو –السماح ل”حماس” بأن تكونَ جُزءًا من الإدارة المستقبلية في غزة — من شأنه أن يضمنَ عدم تبنّي المجموعة لدورِ المُفسد. ولن تكونَ هذه جائزة بسيطة، لأنَّ “حماس” الضعيفة بشكلٍ كبير والمُحَيَّدة عسكريًا قد تحشدُ بقاياها بفعالية لجعل حياة أيِّ هيئةٍ حاكمة في غزة لا تُطاق.

مرة أخرى، إنَّ أيَّ سيناريو ما بعد الحرب بالنسبة إلى “حماس” والفلسطينيين سوف يعتمدُ على الطريقة التي تنتهي بها الحرب، فضلًا عن مدى الجدّية التي يُبديها اللاعبون الدوليون –وفي المقام الأول الولايات المتحدة — في الانخراط في الجهود الهادفة إلى إقامة دولة فلسطينية، والتي تظل الحل العادل والدائم الوحيد للقضية الفلسطينية. وإلى حدٍّ كبير، فإنَّ الدعمَ الذي تحظى به “حماس” بين السكان الفلسطينيين يتأرجح بين المدّ والجزر يتعلق مباشرة بمدى توافر أو افتقار الخيارات الأخرى.

إنَّ الفشلَ الذي أصاب “عملية السلام” على مدى أكثر من ثلاثة عقود؛ وتعميق الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب ضم الأراضي الفلسطينية وظهور نظام الفصل العنصري؛ والشعور بالتخلي والإذلال من جانب المجتمع الدولي؛ والصعوبات الاقتصادية المتزايدة في غزة والضفة الغربية: كل هذه العوامل دفعت العديد من الفلسطينيين إلى الإحباط واليأس والغضب – وفي نهاية المطاف إلى “حماس”. وإذا استمر هذا الواقع الذي يحيط بالفلسطينيين، فلن يستغرقَ ظهورُ “حماس” من جديد، أو استبدالها بحركةٍ أكثر تطرُّفًا تحمل الراية نفسها، وقتًا طويلًا.

  • خالد الحروب هو كاتب وأكاديمي أردني، مُقيم حاليًا في قطر ومحاضر في سياسات الشرق الأوسط المعاصر والدراسات الإعلامية العربية في جامعة نورث وسترن في قطر، وكان سابقًا محاضرًا في جامعة كامبريدج. وقد ألّف كتابين عن حركة “حماس”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى