قمّة قازان تفك عُزلةَ بوتين

دكتور طوني وهبه*

اختتم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مساء الخميس الفائت القمة السادسة عشرة لمجموعة “بريكس” للاقتصادات النامية في مدينة قازان عاصمة جمهورية تتارستان الروسية والتي استمرّت ثلاثة أيام، بمشاركة وحضور زعماء وممثلين ل36 دولة ومنظمة عالمية، ما يُسجّلُ نجاحًا كبيرًا لبوتين على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

تأسست مجموعة “بريكس” رسميًا في حزيران (يونيو) 2009 في “يكاترينبورغ”  في روسيا، حين عُقِدت أول قمّة بين زعماء روسيا والصين والبرازيل والهند، حاملةً في بدايتها اسم “بريك ” (BRIC) اختصارًا للأحرف الأبجدية الأولى باللغة اللاتينية لكلٍّ من البرازيل وروسيا والهند والصين، قبل انضمام جنوب أفريقيا إلى المجموعة في العام 2010، ليُضاف إلى المسمّى الحرف “S” الخاص باسمها ويصبح اسم المجموعة “بريكس” ((BRICS، ومدينة شنغهاي مقرًّا لها. وتُمثّلُ هذه الدول حوالي 45 في المئة من سكان العالم مُمتدةً على 34 في المئة من مساحة اليابسة، و30 في المئة من الناتج الاجمالي العالمي، وهي تُعَدُّ الأسرع نموًّا في الاقتصاد العالمي.

ورُغمَ أنَّ الغاياتَ الاقتصادية والتنموية تغلُبُ على أهدافِ تجمُّعِ “بريكس”، إلّا أنَّ ذلك لا يخفي التطلُّعات السياسية لقادةِ هذه الدول والتي تتعلّقُ بمحاولةِ كَسرِ الهيمنةِ الأميركية وتحقيقِ عالمٍ مُتعدّد الأقطاب، والتفتيشِ عن منصّاتٍ يُديرون فيها مصالحهم بعيدًا من التحكُّم الكامل للولايات المتحدة، وكسر هيمنتها على النظام المالي والاقتصادي العالمي، وكيف يمكنهم خلقَ نظامٍ مالي مُوازٍ؟ وأن تكونَ مجموعتهم بما تملك من مقوّماتٍ اقتصادية وبشرية قاطرة تقطرُ الاقتصادَ العالمي وتُعزّزُ دورَ المجموعة كقوّةٍ مُضادة للغرب في استراتيجيته وتسعى إلى تفكيكِ النظام الليبرالي وإنشاءِ نظامٍ جديد يتماشى مع قيمها، وبالتالي كبديلٍ من مجموعة الدول السبع (كانت روسيا عضوًا رسميًا فيها من العام 1997 حتى 2014 باعتبارها عضوًا من مجموعة الثماني)، إلّا أنَّ هناكَ خلافاتٍ داخل دول “بريكس” تُعيقُ تشكيل جبهة مُوَحَّدة، فالبرازيل والهند اتخذتا موقفًا مُتوازنًا تجاه الولايات المتحدة، كما إنَّ مصر تُعتَبرُ حليفًا لواشنطن.

وتكتسبُ قمة قازان أهمّيةً خاصة في هذه الدورة بعد توسُّعِ التكتُّلِ ليصل الى تسعِ دول بعدما كان خمسًا، وكانت القمة السابقة للمجموعة التي عُقدت في جوهانسبرغ قررت دعوة 6 دول جديدة، لبى الدعوة منها: مصر، الامارات العربية المتحدة، إيران وإثيوبيا، أمّا الأرجنتين فقد رفضت المشاركة بعد انتخاب الرئيس اليميني خافيير ميلي، وولي عهد المملكة العربية السعودية لم يحضر لأنَّ الرياض لم تحسم أمرها بعد حول الانضمام الى التكتل، وهكذا أصبح عدد الدول المنضوية في التكتل تسعًا. وتُوجَدُ دولٌ كثيرة تريد الانضمام كماليزيا وتايلندا وفنزويلا، والأمرُ المثير للاهتمام أنَّ تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) كانت تقدّمت بطلبِ انضمامٍ رسمي، لما تربطها من علاقات اقتصادية خاصة مع روسيا.

وتكمن أهمّيتها هذه القمة أيضًا في توقيتها، فبوتين يُحاولُ الإثباتَ بأنَّ العزلةَ الدولية المفروضة عليه من قبل الولايات المتحدة والغرب فاشلة، وأنَّ الحربَ في أوكرانيا لم تعزله أو تجعله منبوذًا، خصوصًا بعد مشاركة وحضور زعماء وممثلين عن 36 دولة ومنظمة عالمية. وما قامَ به يُشكّلُ استعراضًا للقوة تجاه الغرب، مُشيدًا بدور مجموعة “بريكس” كقوّةٍ موازنة لما أسماه “الأساليب المنحرفة” للغرب.

كما لا يُمكنُ النظر إلى القمة بمعزلٍ عن التنافُس المُتنامي على النفوذ والهيمنة في منطقة آسيا الوسطى بين كلٍّ من الولايات المتحدة والصين وروسيا، على خلفية دوافع واعتبارات عدّة اقتصادية وجيوسياسية، وكذلك أمنية وعسكرية، تدفع كل دولة من الدول الثلاث إلى تعزيز علاقاتها مع دول آسيا الوسطى، لتوطيد مركزها في مواجهة الأخرى. فتعمل روسيا على تعزيز نفوذها وحضورها في هذه المنطقة للاستفادة من الثروات الاقتصادية للمنطقة، ولا سيما النفط والغاز. كما إنَّ هذه الدول قد تُمثّلُ مَخرجًا مُهمًّا لها، كمصدرٍ بديل، للالتفاف على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بسبب غزو أوكرانيا.

وبدورها، تُبدي الصين اهتمامًا كبيرًا بهذه المنطقة، في ضوء غناها بمصادر الطاقة التي تحتاج إليها بكين لتحقيق تنميتها الصناعية، فضلًا عن كون هذه الدول جُزءًا مهمًّا من مُبادرة “الحزام والطريق” الصينية، إذ يشكل أحد الممرات المهمة للمبادرة، وهو الممر الاقتصادي بين الصين وآسيا الوسطى وغرب آسيا، عبر دول آسيا الوسطى الخمس.

وتضمن البيان الختامي لقمة قازان 134 بندًا تشمل جوانب متعددة من التعاون بين دول “بريكس”، ومن أهم النقاط التي تم الاتفاق عليها:

– تعزيز التعددية: التأكيد على ضرورة إصلاح المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ليصبح أكثر تمثيلًا وفعالية، مع تعزيز دور الدول النامية في اتخاذ القرارات الدولية.

-التعاون الاقتصادي : الالتزام بتعزيز التعاون في المجالات الاقتصادية والمالية وتشجيع استخدام العملات المحلية في التبادلات التجارية والمالية لتقليل الاعتماد على العملات الأجنبية.

– التنمية المستدامة: التركيز على تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، وخصوصًا في مجالات الصحة، التعليم، والمناخ، مع التأكيد على الحاجة لتقديم التمويل اللازم من الدول المتقدمة للدول النامية.

أما البنود الإضافية المتعلقة بالصراعات الإقليمية، فأعربت دول “بريكس” عن قلقها البالغ إزاء تدهور الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا سيما التصعيد الأخير للعنف في قطاع غزة والضفة الغربية نتيجة الهجوم العسكري الإسرائيلي.

ودعا الإعلان إلى وقفٍ فوري وشامل لإطلاق النار في غزة، والإفراج غير المشروط عن جميع الرهائن والمحتجزين، وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق.

كما نددت دول “بريكس” بالهجمات على العاملين في العمليات الإنسانية ودعت إلى الالتزام بالقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.

وأبدت الدول الأعضاء إنزعاجها إزاء الوضع في جنوب لبنان، حيث أدانت الخسائر الكبيرة في أرواح المدنيين والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية نتيجة للهجمات الإسرائيلية على المناطق السكنية.

ودعا الإعلان إلى الوقف الفوري للأعمال العسكرية والحفاظ على سيادة لبنان وسلامة أراضيه، مع التركيز على ضرورة الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي 1701 (لعام 2006) و2749 (لعام 2024).

  • الدكتور طوني وهبه هو أكاديمي لبناني واستاذ الجغرافيا السياسية في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى