ليبيا تتراجَعُ خطوةً عن حافةِ الهاوية مرّةً أُخرى، ولكن…
ستكون الجهودُ الدولية المُوَحَّدة ضروريةً لدَعم مبادرات بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا والضغط على النُخَبِ الليبية عبر الحكومات المُتنافسة وجميع مؤسسات الدولة الرئيسة للانخراطِ في عمليةِ الاستقرار.
جوناثان فينتون هارفي*
مع تَراجُعِ ليبيا إلى أسفلِ قائمةِ أولوِيّات القوى الغربية، كاد “السلام البارد” الهَشُّ أن ينهارَ في آب (أغسطس) وسطَ نزاعٍ حول البنك المركزي الليبي، والذي كاد أن يُوقِفَ النظامَ المالي في البلاد. ورُغمَ أنَّ الأزمةَ تمَّ تجنّبها بصعوبة، فإنها تكشفُ عن كيف أنَّ المشهدَ السياسي الهشّ في ليبيا ما زال ضعيفًا بسبب صراعاتِ القوى الداخلية والافتقار إلى هياكل الحُكم المُتماسكة، وهي المشاكل التي لا يُمكنُ مُعالجتها إلّا من خلالِ جُهدٍ دوليٍّ مُوَحَّدٍ نحو استقرارِ البلاد.
اندَلَعَت الأزمة عندما سعى رئيس الوزراء المؤقت عبد الحميد دبيبة، الذي يرأسُ حكومةَ الوحدة الوطنية المُعتَرَف بها دوليًا ومقرها طرابلس، إلى الإطاحة بمحافظ البنك المركزي الصديق الكبير. كان دبيبة مُحبَطًا من الكبير -الذي مارسَ سلطةً كبيرةً على ماليةِ البلاد، مع احتياطاتٍ أجنبية تبلغ قيمتها حوالي 80 مليار دولار في متناول يده – لأنه قَيَّدَ وصولَ دبيبة إلى الأموال التي تُشكّلُ أهميةً حيوية لسلطة حكومة الوحدة الوطنية، بما في ذلك لتمويل الميليشيات الموالية لها. وقد أدّى ذلك إلى تهديد هذه الميليشيات الموالية لحكومة طرابلس للكبير بالقتل، ما أجبره على الفرار من ليبيا لإنقاذ حياته. وبفعله هذا، فقد خاطرَ بإطلاقِ موجاتِ صدمةٍ اقتصادية لليبيين العاديين، حيث أصبح النظام المصرفي في البلاد شبهَ مُجَمَّدٍ ومعزولًا خارج الشبكات المالية الدولية.
في غضون ذلك، ومع بدء تجسيدِ التهديدِ لحليفه في مصرف ليبيا المركزي، ردّ الجنرال خليفة حفتر -الذي يقود “الجيش الوطني الليبي” المُتمركِز في الشرق، والذي يتحالفُ مع حكومةٍ منافسة في طبرق التي يقودها مجلس النواب- بإغلاق حقول النفط الرئيسة في شرق ليبيا في 26 آب (أغسطس) للضغط على حكومة الوحدة الوطنية للتراجع عن إقالة الكبير. وقبل ذلك، في 7 آب (أغسطس)، قاد نجل خليفة، صدام حفتر، قوات “الجيش الوطني الليبي” في تقدّمٍ جريء غربًا نحو منطقة غدامس بالقرب من الحدود الجزائرية، للاستيلاء على المطار الاستراتيجي هناك. وبينما واجهت قوات حفتر ضغوطًا من الميليشيات المستقلة المحلية، ما أدّى إلى مواجهةٍ عسكرية، فقد انتهكَ التقدُّمُ فعليًا وقفَ إطلاقِ النار الذي توسّطت فيه الأمم المتحدة والذي أنهى الحرب الأهلية في البلاد في تشرين الأول (أكتوبر) 2020. وجاءت هذه التوتّرات المتزايدة في لحظةٍ مُتقلّبة أصلًا، في أعقابِ اشتباكاتٍ غير مسبوقة بين الميليشيات المُتنافسة في طرابلس في أوائل آب (أغسطس(.
لكنَّ الأطرافَ المَعنية الدولية تمكّنت من تنفُّسِ الصعداء، مؤقتًا على الأقل، في 26 أيلول (سبتمبر)، عندما استطاعت بعثةُ الأمم المتحدة للدعم في ليبيا من التوصُّلِ إلى اتفاقٍ بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة -الهيئة الاستشارية التي تتخذ من طرابلس مقرًّا لها والتي تعمل كوسيطٍ بين الحكومات المُتنافسة- لإنهاءِ المواجهة مع مصرف ليبيا المركزي. وستشهد الاتفاقية تعيين ناجي عيسى، نائب رئيس قسم الإحصاء السابق في مصرف ليبيا المركزي، محافظًا جديدًا، مع تعيين مجلس إدارة في الأسابيع المقبلة. كما تدعو إلى استعادة لجنة الرقابة المالية العليا، وهي هيئة رقابية مستقلة تأسست في البداية في تموز (يوليو) 2023 ولكن الكبير قَوَّضها.
وفي إشارةٍ مُطمئِنة، دَعمَ الدبيبة والميليشيات الموالية له والمجلس الرئاسي الذي يتّخذُ من طرابلس مقرًا له -والذي يدعمه أيضًا- الحوارَ لحلِّ أزمة قيادة مصرف ليبيا المركزي. كما أعربت الأسواق عن تفاؤلها بشأن الاتفاق، حيث ارتفعت قيمة تداولات السوق السوداء للدينار الليبي بنسبة 11 في المئة مقابل الدولار الأميركي، في حين انخفضت أسعارُ خام برنت بنحو 5 في المئة، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى الآمال في أن يؤدّي الاتفاق إلى إنهاءِ حصار حفتر لحقول النفط الشرقية. كما قد تساعد عودة اللجنة العليا للرقابة المالية على استعادةِ بعضِ الشرعية لعمليات البنك، وهو ما من شأنه أن يُعزّزَ الثقة في اقتصادِ البلاد. مع ذلك، في حين أنَّ إعادةَ هيكلة قيادة البنك قد تُعيدُ بعضَ التوازن، بدون مزيدٍ من التغييرات للحدِّ من قوة وسلطة البنك، فإنَّ الاتفاقَ يعكس أيضًا العودة إلى الوضع الراهن المألوف.
في الوقت نفسه، وبهدفِ تحسينِ سُبُلِ عَيشِ الليبيين، سيتولّى عيسى مهمّةَ استقرار اقتصاد البلاد، بما في ذلك تضييق الفجوة بين السوق السوداء وأسعار الصرف الرسمية، وخفض العجز العام والسيطرة على التضخُّم. ومع ذلك، لا تزالُ المخاوف قائمة بشأن ما إذا كان مصرف ليبيا المركزي سيميلُ إلى الاستفادة من احتياطات البلاد من النقد الأجنبي كحلٍّ قصير الأجل للمشاكل الاقتصادية في ليبيا، وهو ما قد يجعل الجماهيرية السابقة أكثر عُرضةً للخطر في الأمد البعيد.
والأمر الحاسم هنا هو أن مصرف ليبيا المركزي سوف يحتاج أيضًا إلى التخلُّصِ من سمعةِ خدمةِ النُخبة في البلاد، وهي السمعة التي اكتسبتها معظم المؤسسات الكبرى في ليبيا. وفي حين أنَّ البنك يُشكّلُ أهمّيةً حاسمة لاستقرارِ اقتصادِ ليبيا، فإنَّ العديدَ من الليبيين يرون أنه يعملُ ككيانٍ سياسي أكثر من كونه مؤسسةً مالية مُحايدة، وخصوصًا تحت قيادة الكبير. ولكي يُحقّقَ البنك مصالح الشعب الليبي حقًا، فسوف تكون هناك حاجةٌ إلى مزيدٍ من الشفافية والمُساءلة بشأنِ كيفية إنفاق بنك ليبيا المركزي لعائدات النفط في البلاد.
إنَّ استدامةَ الاتفاق سوف تتوقّف أيضًا على ردودِ أفعال الفصائل المُتنافسة المختلفة في ليبيا، وخصوصًا إذا ظهرت خلافاتٌ أخرى بشأن إطلاق الأموال بمجرّد أن تتلاشى النشوة الأوَّلية لحلِّ النزاع. إنَّ جهودَ دبيبة لتعزيز سلطته على البنك في طرابلس، كجُزءٍ من استراتيجيةٍ أوسع لتعظيم نفوذه في جميع أنحاء ليبيا، لا تزالُ تمثّلُ عقبةً أمام الوحدة السياسية والاقتصادية للبلاد. وعلى الرُغمِ من تأييد مجلس النواب للاتفاق، لا يزال حفتر يحتفظُ بسيطرةٍ كبيرة على حقول النفط الليبية، والتي أدّى الحصارُ الجُزئي المُستَمِرّ لها إلى انخفاضِ إنتاجِ النفط اليومي بنسبة 81 في المئة. وعلى الرُغمِ من التقارير التي تُفيدُ بأنَّ جميعَ حقول النفط الرئيسة سوف يُعادُ فتحها قريبًا، فإنَّ احتمالَ إعادةِ فَرضِ الحصارِ من قِبَلِ حفتر في المستقبل -وهو التكتيك الذي استخدمه بشكلٍ مُتكرر – يعني أنَّ خطرَ المزيد من عدم الاستقرار الاقتصادي من المُرجَّح أن يستمر.
بالإضافةِ إلى التحدّيات التي تفرضها الحكومات المُتنافسة، كانت مؤسسات الدولة الليبية أيضًا عقبةً في رحلتها نحو الاستقرار بعد الحرب. وعلى سبيل المثال، في حين أدّى حصار حفتر إلى الحدِّ جدًا من قدرة المؤسسة الوطنية للنفط على تشغيل شبكة الكهرباء الوطنية، فإنَّ الفسادَ الداخلي للمؤسسة وانعدامَ الشفافية أعاقا قدراتها بشكلٍ أكبر.
علاوةً على ذلك، واجهَ المجلسُ الأعلى للدولة انقساماتٍ داخلية في أعقابِ انتخاباتٍ مُثيرةٍ للجدل لرئاسة المجلس في آب (أغسطس) والتي أسفرت عن طريقٍ مسدود بين خالد المشري ومحمد تكالة. ينتمي المشري إلى الفصيل الإسلامي السياسي الليبي، “حزب العدالة والبناء”، في حين أنَّ تكالة شخصية غير حزبية. لكن كلاهما مُرتَبطٌ بدبيبة، الأمر الذي يُثيرُ تساؤلاتٍ حول الحيادِ الضروري للمجلس. في نهاية المطاف، بدون عملياتِ صُنعِ قرارٍ فعّالة وهيئاتٍ استشارية مُحايدة، ستظل وحدة ليبيا هدفًا بعيد المنال.
وهذا يُلخّصُ المأزقَ الذي تجدُ ليبيا نفسها فيه. لتحقيقِ الاستقرار، تحتاج البلاد إلى قوانين ومؤسّساتٍ مُوَحَّدة. لكن لتحقيقِ هذه الوحدة، يجب أوّلًا ترسيخ الاستقرار. وهذا يؤكّدُ الحاجة إلى أن يعملَ المجتمع الدولي، وخصوصًا القوى الغربية، على تعزيز جهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا نحو إرساءِ سيادة القانون وإجراء الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في كانون الأول (ديسمبر) 2021. ومع ذلك، وبسبب انشغالها بقضايا عالمية أخرى مثل الحرب في أوكرانيا والتوترات في الشرق الأوسط، عملت الدول الغربية على التقليل من أولوية ليبيا بشكل متزايد، وتقبل ضمنًا الوضع الراهن المُجَزَّأ والمُنقَسِم طالما لم تعد البلاد إلى الحرب.
وقد أدّى هذا الافتقار إلى المشاركة إلى ترك القوى الإقليمية، وخصوصًا تركيا ومصر، لملء الفراغ. وأصبح البلدان لاعبَين رئيسيين في ليبيا، حيث تدخلت تركيا عسكريًا في العام 2020 لدعم حكومة الوفاق الوطني، التي سبقت حكومة الوحدة الوطنية الحالية. من ناحيةٍ أخرى، تتحالف مصر مع الحكومة الشرقية ودعمت حفتر سابقًا خلال الحرب الأهلية. وقد أثارَ الاجتماعُ الذي عُقِدَ في الرابع من أيلول (سبتمبر) بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال أول زيارة رئاسية للأخير إلى تركيا منذ توليه السلطة في العام 2014 الآمالَ في أن يتمكّنَ البلدان من وضع خلافاتهما السابقة جانبًا والعمل على استقرار ليبيا. ومع تضاؤلِ الاهتمام الغربي، قد يكونُ التعاونُ بين أنقرة والقاهرة الخيارَ الأكثر براغماتية والأمثل لدفع ليبيا نحو حلٍّ سياسي، في عمليةٍ قد تحتاج إلى إشراكِ دولٍ إقليمية مُحايدة مثل الجزائر.
وإذا لم يتحقّق ذلك، وبينما تظلُّ فرنسا وإيطاليا مُنقسمتَين بشأنِ أجنداتهما السياسية وصفقات النفط في ليبيا، فإنَّ دولًا أوروبية أخرى لها مصالح في البلاد ــمثل إسبانيا والنروج والنمسا وألمانياــ قد تلعبُ دورًا في دَعمِ أهدافِ بعثةِ الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، إلى جانب المملكة المتحدة، التي تعملُ كحاملةِ قلمٍ للملفِّ الليبي في مجلس الأمن الدولي. وقد يرى صنّاعُ السياسات في أوروبا هذا الأمر بأنهُ بالغُ الأهمية على نحوٍ متزايد، نظرًا لأنَّ روسيا وسّعَت وجودَ مُرتزقتها إلى جانب قوات حفتر في الشرق، على الرُغم من خطر تفاقُم الانقسامات في البلاد.
في الوقت الحالي، ربما تكون ليبيا قد تَجَنّبَت التحوُّلَ إلى الأسوَإِ، ولكن إلى حدٍّ كبير من خلال إعادةِ تدويرِ النُخَبِ مرةً أخرى داخل المؤسسات الغامضة وغير الخاضعة للمُساءلة نفسها. وبدلًا من ذلك، ستكون الجهودُ الدولية المُوَحَّدة ضروريةً لدَعمِ مُبادراتِ بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا والضغطِ على النُخَبِ الليبية عبر الحكومات المُتنافسة وجميع مؤسّسات الدولة الرئيسة للانخراط في عملية الاستقرار. وإلى أن تَحدُثَ مثل هذه الخطوات، فمنَ المُرَجَّحِ أن تجدَ ليبيا نفسها مُحاصَرةً في حلقةٍ من عدم اليقين السياسي والاقتصادي.
- جوناثان فينتون هارفي هو محلل سياسي وصحافي بريطاني ركز عمله إلى حد كبير على شؤون مجلس التعاون الخليجي، فضلًا عن القضايا الجيوسياسية والاقتصادية المتعلقة بالشرق الأوسط الأوسع ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.