العِراقِيُّ الغامِض

قِراءَةٌ مُتَأخِّرَةٌ في عَقلِ صدّام حسين

عزة إبراهيم الدوري: أوكل إليه صدام حسين الإشراف على تنفيذ “الحملة الإيمانية” بكل تشعّباتها.

(14)

المُؤمِنُ

سليمان الفرزلي*

راكِعٌ، يرفعُ يديه للدُعاء، وقد أدّى الرَكعةَ الثانية، كما فَرَضَت السننُ الرواتبُ لصلاة المَغرب، تنعَكِسُ على قسماتِ وجهه رقّة نفس، هادئة، مُتلطفة، متوسِّلة، فالرجلُ يُجيدُ الاختباءَ وراء الصلاة.

على خصرِهِ بيتٌ من الجلد البنّي اللون، يُخفي مسدَّس “طارق”، الذي لا يُفارقه حتى في الصلاة، التي حَرَّمها الله على مَن يُقدِمُ عليها وهو مُسَلَّح، (بدأ تصنيع هذا النوع من المسدسات في بغداد سنة 1981 بترخيصٍ وتعاوُنٍ مع “بيريتا” الإيطالية، وقد سُمي “طارقًا” تيمُّناً بطارق بن زياد، الذي فتح إسبانيا سنة 711 من الميلاد).

لم تَقتَحِم عين الكاميرا الزجاجية البصَّاصة، خلوة صلاة “الرئيس المؤمن” عنوةً، أو على غفلة منه، إنَّما كانت تراه، وتطبعُ صورته، برضاه، فهو أراد، بعدما استمكنت منه فكرة “الحملة الإيمانية”، أن يُتَوِّجَها بهذه الصورة، فنشرتها صحفُ الداخل، وهلَّلت لها صحفُ الخارج، التي تقتات من مائدة بغداد ونظامها.

ليس غريبًا تصرُّفُ صدام حسين هذا، فهو متأهبٌ لكلِّ الظروف التي تسنَحُ له، ليبقى قابضًا على ناصيةِ الحكم، سيِّدًا مُهابًا ومسموعَ الكلمة، وعندما استشعرَ أنَّ الظرفَ هو ظرفُ “الدعوة” و”الرجعة” الى الدين، حاولَ مُزاوَجَةَ الفكر القومي مع الفكر الإسلامي. فوقع في الالتباس والتناقُض، فلم يخدم الفكرة القومية ولم يأتِ بالنفع للفكرة الإسلامية، وكاد أن ينفضَّ البعثيون القدامى من حوله، وهُمُ المُتشبّعون من فكرة العلمانية في الحزب، ويعتبرون أنَّ الفكرَ الديني فكرٌ مُتخَلِّف.

***

لم يُعرَف عن صدّام حسين في طفولته، ولا عندما بلغ الحلم، وتعرُّفه على “البعث” وفكره وعقيدته، أنه   كان لا يقوم عن سجادة الصلاة، مُغرقًا في التديُّن وإقامة الفروض.

إلّا أنَّ ترعرعه في بيئةِ خاله خير الله طلفاح، جعله يكتسبُ ثقافةً عربية بدائية، وفهمًا سطحيًا للدين، لكن بإيمانٍ صادق، لا يستفسر، ولا يتجشّم عناء التوغُّل في فقه الدين وأصوله.

لم تكن “البيئة الطلفاحية”، بعيدة من الإطار العام لفكر “حزب البعث”، على الأقل لجهة المُواءَمة بين “العروبة” و”الإسلام”. وكان هذا الأمرُ مُريحًا لصدام حسين، فهو توجَّسَ، خلال مرحلة تعرُّفه على الحزب، أن يؤدّي أيُّ تفسيرٍ لأفكارِ” البعث” إلى تناقُضٍ نافرٍ بين “العروبة” و”الإسلام”.

لذلك، لم يُغادِر “النزعة الإسلامية”، التي تنغلُ في عقله وتستحوذ على تفكيره، حتى بعدما أصبح في صفوف “البعث “…  فتلك النزعة، كانت ساكنة في نفسه منذ صغره، وملجأ آمنًا، في كنف بيئته العشائرية الحاضنة.

استمرَّ الصراعُ الداخلي، الفكري والنفساني، يتأجّجُ في تصرُّفات ومَسلكية صدام حسين، وقد جهد كثيرًا في ما بعد، قبل بلوغه السلطة العليا، ليطابق بين “عقيدته البعثية”، كمُناضِل حزبي، وبين “عقيدته الإسلامية” كرجلٍ مُؤمن.

في مرحلةٍ من مراحل عمله الحزبي، وَجَدَ صدام حسين نفسه على نقيضٍ مع بعضِ القياديين الأوائل، في “حزب البعث”، فهؤلاء كانوا يميلون الى “العلمانية “غير “الإلحادية”، خلافًا للشيوعيين المنافسين لهم، الذين كانوا في أدبياتهم يُجاهرون بالإلحاد.

وهذا يُفسِّر غوامض عديدة، في المرحلة الملكية، وفي المرحلة الجمهورية الأولى، حيث كان الحزب الشيوعي العراقي أوسع انتشارًا، وأصلب عودًا، وأوسع ثقافةً، من حزب البعث الوليد.

من تلك الغوامض، وجود حركات علمانية “إيمانية” منافسة للحركة الشيوعية الإلحادية؛ ومنها ايضًا، أنَّ الحركات العلمانية “الإيمانية”، التي سادت بين “القوميين العرب”، غير البعثيين، خصوصًا الذين هم من بقايا “الثورة العربية الكبرى”, (ثورة الشريف حسين ضد الأتراك العثمانيين المستحوذين على “الخلافة الإسلامية” خلال الحرب العالمية الأولى)، كانت في جوهرها حركات إسلامية، يمكن وصفها بأنها “معتدلة”، من حيث انفتاحها على الأديان الأخرى، وإن كانت حاولت أن تُماشي الأوروبيين (الإنكليز)، في المظهر الديموقراطي العلماني.

كان صدام حسين يُعايش تلك النزعات المتناقضة، والمتنازعة، التي كانت تؤثّرُ في الحياة الفكرية والسياسية، سلبًا وإيجابًا، ولم تسعفه الالتباسات، والتناقضات في التوجّهات البعثية، بالنسبة إلى “المسألة الإسلامية”، فظلَّ فكره يتأرجح بينها كلّها.

***

لمَّا بدأ صدام حسين يُعِدُّ العدَّة لمواجهة إيران في الميدان، وَجَدَ أنه لن يستطيعَ خوض غمار تلك التجربة الدامية والمدمّرة بسلاحٍ عقائدي مُلتبِس، فراحت تظهر على تفكيره وتصرّفاته مظاهرُ “تديُّن”، من الناحية الشعائرية، لم يكن يُعِرها بالًا من قبل، بل كان يتجنّبها بدوافع أمنية “شخصية”.

حدث “افتراقٌ” ملحوظ بين صدام حسين “المؤمن” وبين “القيادة القومية” لحزب “البعث”، حيث رأت تلك القيادة خطر “النزعة الدينية” المستجدّة في صفوف المحازبين، خشية أن يتمَّ الشرخ بين هؤلاء وبين المتمسّكين بعلمانية الحزب، وعقيدته التي ناضلوا على هديها، وأُسِروا في سبيلها.

لكن صدام حسين مضى في غيِّه ودمج في الأساس العقائدي للحرب ضد “الجمهورية الإسلامية” في إيران “القومي بالإسلامي”، بحيث بقي الجانب الديني المستجد فيه مُختفيًا في السنوات الأولى من الحرب وراء القناع القومي المتطرّف نسبيًا، إلى درجة “الصراع العنصري” بين العرب والفرس، وأعلن عن هويته الإسلامية من خلال طرح ذلك الصراع، وكأنه صورةٌ طبق الأصل، إسمًا وفعلًا، من الفتح العربي الإسلامي لبلاد فارس في القرن السابع الميلادي، بقيادة سعد ابن أبي وقَّاص، وأطلق على تلك الحرب اسم “قادسية صدام”، أو “القادسية الثانية”، باعتبار أنَّ قادسية سعد هي الأولى، وقادسية صدام هي الثانية!

لقد أدركَ صدام حسين، قبل اندلاع الحرب مع إيران في أواخر العام 1980، أنه لا يستطيع أن يخوضها من غير “غطاءٍ عقائدي”… وأيقنَ، بما لا يرقى إلى الشك، أنه بغير “الغطاء الإسلامي” المُضاد، لن تُبرَّرَ تلك الحرب… ولذلك، حرص من البداية على الربط بين حربه على” إيران الخمينية”، وبين حرب الإسلام، في بداية نشأته، على” إيران الكسروية، الساسانية، الزرادشتية”. بل هو في تلك المرحلة الأولى من الحرب، لامس تقمُّص “الحالة النبوية”!

لذلك، لم يُعِرْ صدام حسين بالًا لما حذَّرت منه “القيادة القومية”، وتخوَّفَ منه بعض أعضاء “القيادة القطرية”، بل تعمَّدَ مخالفة التحذيرات كلها، بالتركيز، فقط، على الجانب “الإيماني–الإسلامي”.

إنَّ الوثائق، المتاحة للتداول، تُثبِتُ أنه خلال النصف الأول من الثمانينيات، كان صدام حسين، في اجتماعات “القيادة القطرية”، واجتماعات “مجلس قيادة الثورة”، يظهرُ بصورةِ “المربّي” أو “الواعظ”، مُتَحدِّثًا مع رفاقه في القيادتين، وشارحًا، مستشهدًا بالصحابة حينًا، وبكتب السيرة، أحيانًا أخرى، ما كان يُحب أن يسميه ” المجتمع النبوي”، وكيف أنه الأنموذج الصالح الوحيد الذي يجب أن يُحتذى به!

مع ذلك كله، ظلًّ صدام حسين، في الشكل على الأقل، يراعي الرفاق في” القيادة القومية”، حيث حرص في كل أحاديثه تجنُّب استخدام كلمة “إسلامي”، مُكتفيًا بترداد كلمة  “الدعوة الإيمانية”، أو “الحملة النبوية” كما جاء في كثير من أحاديثه التي نقلتها الصحف العراقية في هاتيك الأيام.

قلَّة من البعثيين، ومن المراقبين، ومن عامة الناس، لاحظت المرمى” الوسطي” في التوجه العقائدي المستجد للرئيس العراقي، وغايته تمييز نفسه، وبلاده، عن الحالات الإسلامية الناشطة على جانبيه: الحالة الإسلامية الخمينية الشيعية في إيران، والحالة الوهابية السلفية في المملكة السعودية.

***

إنّ “التوجه الوسطي”، الذي اعتمده صدام حسين في حملته الإيمانية، كان هزلًا فاجعًا، وبليَّة، هي من نكد الدنيا، وسوء طالع الشعب العراقي…

هذا التوجُّه، قرَّبه، أكثر فأكثر، من الممارسات السائدة في “إيران الخمينية”، وهي “أخلاقية” مُتشدّدة من قبل أجهزةٍ أمنية بصورة “شرطة أخلاقية”، لضبط سلوكيات المجتمع، خصوصاً، كل ما يتعلق بالنساء ومسلكهن، مع تزايد أعداد الأرامل واليتامى، بفعل الحرب التي طال أمدها، واشتد أوارها، بسبب من تدخلات خارجية لها مصلحة في إطالتها.

لم تختلف ممارسات ” نظام صدام حسين” المجتمعية (في الإطار الإسلامي)، لا عن ممارسات” نظام الخميني”، ولا عن ممارسات النظام الوهّابي السعودي، عبر “المطاوعة”، أو رجال “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، فبلغ التشابه بين الأنظمة الثلاثة حدَّ التطابق.

بلغت “الحملة الإيمانية ” ذروتها عندما بدأت النتائج المجتمعية السلبية لحروب صدام في إيران والكويت تظهر وتتفشّى. فتشكّلت، برعاية “الرئيس المؤمن”، كتائب أمنية عُرِفت باسم “فدائيي صدام”، كأداةٍ تنفيذية للحملة الإيمانية، وللنهج الجديد لمراقبة، وضبط، تصرفات وسلوكيات العراقيين.

لقد أحدثت “الحملة الإيمانية” التي كانت في جوهرها، حملة مُفتعلة، تماشيًا مع الضرورة السائدة في المنطقة، حينذاك، “ازدواجية اجتماعية مركَّبة”، شملت النظام العدلي، والدولة، والحزب، والعائلة … فظهرَ نظام صدام حسين في تلك المرحلة بحالةٍ انفصامية، مَثَلهُ مَثَل الغراب الذي حاول تقليد مشية الحجل، فنسي مِشْيَتَه، ولم يُتقن مشية الحجل!

هذا الوضعُ المستجد يستدعي الدرس المُتأنّي، ابتداءً من فرز ما هو أصلي وحقيقي، وبين ما هو مُصطَنع ومُفتَعَل بحُكمِ الضرورات السياسية المتعلّقة بأمن النظام وديمومته.

على الصعيد العدلي، بدأ “حكم القانون”، المتمثّل تاريخيًا بقانون العقوبات البغدادي، يتراجَع لتحلَّ مكانه أحكام الشريعة الإسلامية، ولو بصورةٍ انتقائية واستنسابية، فصدرت تعليماتٌ رئاسية بمنعِ “بيع الخمور” في العلن، ومعاقبة مستهلكيها في حال ضبطهم مُتلبّسين، بالسجن، أو الجلد في الساحات العامة، للاتعاظ، وكذلك بالقضاء على حياة الليل، إن في الملاهي الغنائية، أو المسارح الترفيهية، الجادة منها أو الهزلية، الناقدة للأوضاع القائمة في البلاد.

كذلك، جنح النظام، في حلّته الإسلامية المستجدّة، إلى إقرارِ تطبيقِ عقوباتٍ لم تألفها بغداد من قبل، مثل بتر الأطراف للسارقين، أو الرجم للزانية، والحُكم بجلدِ المخالفين للأنماط المجتمعية الجديدة والمتشدّدة. الأفدح من ذلك كله، خصوصًا في السنتين الأخيرتين من حكم صدام حسين، أن كتائب “فدائيي صدام” (ترأسها فترة من الزمن عدي النجل الأكبر للرئيس)، راحت تُعمل سيوفها برقاب مخالفي قواعد السلوك الإسلامية، خصوصًا قطع رؤوس النسوة المُتَّهمات بممارسة الدعارة. وقد أحصت منظمات حقوق الإنسان الدولية خلال تلك الفترة قتل 200 شخص بتُهمٍ مسلكية مختلفة، في مدينة بغداد وحدها. وقد يرتفع هذا العدد في المناطق العراقية الأخرى، والمرجح أن تلك الإجراءات كانت لأغراضٍ “ترهيبية”، لمنع تفشّي الفساد الاجتماعي الناتج من تداعيات الحروب على اختلافها.

على صعيد التربية والتعليم، صار حفظ القرآن إلزاميًا لطلبة المدارس، ومن المرحلة الابتدائية حتى الثانوية، كانت دروس القرآن مفروضةً كمادةٍ أساسية في التعليم، وأخذت الدراسات الإسلامية حيِّزًا أوسع في المناهج المقرَّرة، بحيث تجاوزت الدراسات والبحوث العلمية العصرية التي كانت متفوِّقة في زمانها قبل الحرب مع إيران. وراحت وزارة الثقافة، تنشط في اصدار النشرات والدراسات الدينية، التي حلت مكان الدراسات الأدبية والثقافية والعلمية والفنيّة. كما زادت في البث التلفزيوني، ساعات الأحاديث الدينية.

إلى جانبِ ذلك كله، أمرَ صدام حسين بإنفاق مبالغ طائلة على ترميم المساجد السنّية المُتداعية، وبناء مساجد جديدة (أكبرها وأفخمها مسجد “أم القرى”)، على الرُغمِ من الضائقة الاقتصادية التي كانت تضرب البلاد من جرَّاء الحصار الدولي المفروض عليها منذ حرب الكويت… وتخصيص الميزانيات الطائلة لترميم وبناء الجوامع، كان على حسابِ تلبية حاجات العراقيين، من المساكن والمدارس، وهم الذين ذاقوا الأمرَّين، قبل الحروب التي دفعهم إليها النظام، فشاركوا فيها صاغرين، وعندما اشتدَّ الحصار عليهم، مات الآلاف منهم من سوء التغذية وشح الدواء.

ومضى “الرئيس المؤمن” في أسلَمة البلاد، فأمرَ بتأسيس أول “مصرف إسلامي” يعمل بطريقةٍ “غير ربوية”، أي أنه لا يدفع فوائد على الودائع، ولا يتقاضى فوائد على القروض، شأن المصارف التجارية الحرَّة، التي كان الإسلاميون يُطلقون عليها اسم “مصارف الكفَّار”. وقد خَصَّهُ، برأسمال كبير بلغ أربعة مليارات دينار، بدعم من الدولة ومن “مصرف الرافدين”، أقدم مصرف تجاري في العراق تأسَّس خلال الحرب العالمية الثانية (1941).

***

لم تكن “الحملة الإيمانية” بعد الحرب، محاولة التواصل الأولى لنظام صدام حسين مع التوجهات الإسلامية. فقد بادر وهو يستعد لنزال إيران، إلى مراسلة الإمام الشيعي محمد باقر الصدر، عارضًا عليه التفاهم على ما يتمنّاه الإمام ويُرضيه، لقاء وقف حملة العداء للنظام في الأوساط الشيعية والحوزة النجفية.

رفض الإمام المبادرة، وردَّ عليها برسالة فجَّة اعتبرها صدام حسين مُهينة لشخصه وتتعرَّض بشدة لحكمه، فقرّرَ التخلُّص منه بتصفيته الجسدية، مع شقيقته زينب المعروفة باسم “بنت الهدى”، فألقي القبض عليهما وأودعا السجن، وجرى قتلهما فيه، يوم التاسع من نيسان (أبريل) 1980، قبل خمسة أشهر فقط من بدء الحرب مع إيران، وقبل 23 سنة، بالتمام والكمال، من الاحتلال الأميركي في التاسع من نيسان (أبريل) 2003!

كما جرَّب صدام حسين التصافي والتفاهم مع “الشيعة”، حاول أيضًا التخابر مع “السنيَّة السياسية”، فقام سنة 1993، بمبادرات باتجاه “جماعة الإخوان المسلمين”، وغيرها من الحركات والتنظيمات الدينية، فاسترضاها بأن منحها هامشًا من حريَّة النشاط، شريطة أن تبقى تحت نظره وسيطرته، فإذا خرجت قياداتها عن الخط المرسوم لها، واشتطت متجاوزةً الحد والهامش المتاح لها، عاد الى التنكيل بها وبأعضائها، ومحازبيها، كإجراءٍ سياسي لوضع الأمور في نصابها الصحيح، وليس رفضًا لتوجّهاتهم الدينية!

أقدم صدام حسين على “أسلمة نظامه”، من غير الاعتراف بذلك لقاعدته الحزبية، التي ظل كثيرون فيها متمسكين بعلمانيتهم، ومفاهيمهم الأصلية للحالات الدينية المشخَّصة سابقًا في أدبياتهم الحزبية، من زمن الصراع الحاد مع الشيوعيين في عهد عبد الكريم قاسم.

قد يكونُ السبب الأبرز، الذي جعله حذرًا تجاه القاعدة الحزبية، خشيته من تفسيرهم لانعطافاته الإسلامية بأنها “استسلام” للإسلام السياسي الإيراني، والسعودي الوهابي، و”جماعة الإخوان المسلمين”. ولم يخطر، وقتذاك، لكثيرين من البعثيين ظنٌ آثم، بل فسَّروا ما كان يقوم به صدام حسين، على أنه رسالة منه الى الأميركيين مؤداها، كما قال لي أحدهم، وكان من البعثيين القدامى: “إذا كانت غايتكم أن تسود الأنظمة الإسلامية وتحكم في المنطقة، فأنا على أتم الاستعداد لتحويل العراق الى دولة إسلامية شرط أن تكون تحت سيطرتي”!

وكان الله بالسر عليمًا.

عزة إبراهيم الدوري، أحد القياديين البارزين، في القيادتين القومية والقطرية، وكذلك في “مجلس قيادة الثورة” كان موضع ثقة صدام حسين فقرَّبه منه، وائتمنه على القليل والكثير، وأوكل إليه الإشراف على تنفيذ “الحملة الإيمانية” بكل تشعباتها…   وكان الدوري معروفًا بتدينه وتشدُّده، لانتمائه الى “الطريقة النقشبندية الصوفية”، فاستخدم هذا التفويض للترويج لتلك الطريقة، فأسس في ما بعد، من أتباعها، “فرقة جهادية ” لمقاومة الاحتلال الأميركي، وإسقاط الحكومة العراقية التي نصَّبها “المحتلون”، لكونها “عميلة وطائفية”، حسب تعبيره.

وتحت مظلة “الطريقة النقشبندية الصوفية”، بقي عزة إبراهيم الدوري، “الوحيد” الذي لم تطله يد قوات الاحتلال الأميركي، ومات ميتة طبيعية، خلافًا لرفاقه في القيادة السياسية والحزبية.

***

كان الرمز الأهم ل”دولة صدام حسين الإسلامية”، أنه كتب بدمه وبخط يده عبارة “الله أكبر” على العلم الوطني العراقي، وهو العلم الذي تقرَّرت ألوانه بعد “ثورة العشرين” ضد الإنكليز (1921)، مستمدة من قصيدة للشاعر الوطني العراقي المعروف صفي الدين الحلي وفيه يقول: بيضٌ صنائعُنا، سودٌ وقائعُنا، خضرٌ مرابعُنا، حمرٌ مواضينا

الملفت في الأمر، أنَّ حُكم الاحتلال الأميركي بقيادة بول بريمر، لم يستطع أن يُقر غير علم صدام للعراق الجديد، مع أنه حاول جاهدًا أن يفعل ذلك. فقد عرض على مجلس الحكم العراقي الذي شكله من المتعاونين مع الاحتلال، تصميمًا لعلم جديد يضم خطين أزرقين من فوق ومن تحت، قال إنهما يرمزان الى نهري دجلة والفرات، لكنهم لم يتجرّؤوا على إقراره لكون اللون الأزرق شبيهًا بالعلم الإسرائيلي. وأخيرًا، رسا الأمر على استبقاء علم صدام، مكتفين بإزالة آثار الرئيس العراقي منه، بتغيير أحرف كتابة عبارة “الله أكبر” عليه. ويمكن القول، تبعًا لذلك، إنَّ طيف صدام حسين ما زال يرفرف فوق العراق، إلى اليوم، وربما ظلَّ مرفرفًا الى الأبد!

هذه الحادثة ليست تفصيلًا بسيطًا في المسار العراقي بعد الاحتلال الأميركي، ولم تكن كذلك قبله في أوساط “حزب البعث”، وفي أوساط عائلة صدام حسين، وربما في داخل عقل “الرئيس المؤمن” نفسه.

فقد سمح لابنه البكر عدي إصدار جريدة سمَّاها “بابل”، وشكلت من عددها الأول الذي كان صدر في 31 من آذار(مارس) سنة 1991، نمطًا صحافيًا لم يألفه العراقيون، فقد كانت صاحبة ميسم خاص في كتابة التعليقات والمقالات، الناقدة بشدة للمسؤولين في الحكم، ولم توفّر أحدًا إلّا وأعملت القلم به وبإخفاقاته، وكانت تلك المقالات والتحقيقات على صواب في أحيان كثيرة. وقد استغرب المراقبون السياسيون، كيف يُسمح لتلك الجريدة، بالانتقاد الحاد للمسؤولين، والاقتراب من القيادات الحزبية المرموقة.

زادت حيرة المراقبين هؤلاء، عندما بدأت “بابل” شنَّ حملةٍ مركّزة، مناهضة وقاسية، ضد “الدعوة الإيمانية” التي أطلقها أبو عدي، وتُعدِّدُ مضارَّها على مكونات البلاد، ومخالفتها للعقيدة الحزبية المعتمدة للبعث تاريخيًا، (قُتل عدي مع أخيه الأصغر قصي وابنه مصطفى، في الثالث والعشرين من تموز / يوليو سنة 2003، بغارة شنَّها الأميركيون على بيتٍ كانوا مختبئين فيه بحي البريد في مدينة الموصل).

فسر بعضهم تلك الحالة، بأنها من طبائع صدام حسين في “توزيع المآثم” على الرفاق في القيادتين القومية والقطرية ومجلس قيادة الثورة. وراح بعضهم الآخر، يفسر تلك “الازدواجية” بأنها محاولة “طمأنة” من صدام حسين الى بيئته البعثية، ورفاقه الحزبيين، بأنه لما يزل ملتزمًا مبادئ الحزب، لكن الظرف السياسي الاقليمي يدفع به الى “المناورة” باستخدام الغطاء الديني!

إلى أيِّ حد يمكن اعتماد هذا التبرير، لا يستطيع أحدٌ أن يجزم، لأنه من غير الممكن تصديق أو تكذيب أي شيء لصدام حسين يدٌ فيه، وهو الملفَّع بالغوامض من بدايته الى نهايته… وحتى ما بعد نهايته.

لاقى، برزان إبراهيم التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام حسين، والمدير الأسبق لجهاز الاستخبارات العامة، ابن أخيه، فمضى يحذر، بدوره الرئيس، من مغبة التعاون مع الإسلاميين، والوثوق بهم، فهم “لا يؤتمن جانبهم، ومن طبعهم الغدر”، ثم إن العراق لا يمكن أن يتحول الى “دولة دينية”، تقيم الحد حسب الشريعة الاسلامية، فهو مهدُ الحضارات، التي غيَّرت وجه العالم، ومتعدد الطوائف التي تتجانس وتشكل العراق العصري.

ولم يُبعد الدكتور سعدون حمادي، رئيس المجلس الوطني، نفسه عن معارضة حملة الرئيس الإيمانية، فسجَّل امتعاضه من هذا التوجُّه المستجد، واعتبره خطرًا على الوحدة الوطنية، لأنه يضعها تحت ضغط فرض الدين على الحياة العامة، وعلى كل المكونات غير الإسلامية. وكان سعدون حمادي يرفض مجرد التفكير بتحويل الحزب والدولة الى ما يُشبه “الدولة الإسلامية”، معتبرًا أن ذلك “يتجانس” مع الفكر الديني المرفوض الذي أطلقه حسن البنا، مؤسس “جماعة الإخوان المسلمين” في مصر.

ويثور في البال سؤال: كيف تجاسر الدكتور سعدون حمادي، وعارض، واعترض، ورفض، هو الذي لم يُعرف عنه خلال مسيرته السياسية في الحكم، أنه أقدم على ذلك؟

ألا يكون صدام حسين، هو الذي طلب ما قيل، ووافق عليه، لاجتناب نقمة البعثيين العلمانيين؟

***

إن ما يُحيِّر المراقب لتفكير وتصرفات صدام حسين، مطالعته حول “البعث والدين” حيث  كتب جازمًا: “إن حزبنا ليس حزبًا دينيًا، ولا ينبغي أن يكون كذلك”!

فإذا كان الرئيس العراقي مؤمناً بما كتب، وبما جزم، بأنَّ “البعث” ليس حزبًا دينيًا ولن يكون، فالسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق، هو: لماذا، إذن، أعلن عن اعتناق ميشال عفلق، الأمين العام للحزب، الإسلام، بعد وفاته في شهر حزيران (يونيو) 1989، بعد سنة من توقف الحرب مع إيران، وأقام له جنازة إسلامية في بغداد؟

طبعًا، لا يستطيع صدام حسين أن يفعلَ غير ذلك، وهو خارج لتوه من حربٍ مع الجمهورية الإسلامية، ويسعى الى التصالح معها، بعدما كان أعلن، على طريقته، أن جمهوريته أيضًا جمهورية إسلامية!

لم يكن ذاك التصرُّف مستغربًا على الذين عرفوا صدام حسين عن كثب. فهو في مسألة البقاء في السلطة، لا يُحلّل ولا يُحرّم… يفعل أي شيء لهذه الغاية، فهكذا جبله الله، وأفعال الله لا تُعلَّل!

حتى أن بعض الحزبيين العراقيين، الذين عرفوا ميشال عفلق سابقًا، تساءلوا متعجبين مستغربين: “دخلنا الحزب وكان اسمه ميشال، ووصلنا الى الحكم أول مرة وكان اسمه ميشال، وطردنا من الحكم، وسُجِنَّا، ولوحقنا، وكان اسمه ميشال، وعدنا الى الحكم وكان اسمه ميشال… فماذا عدا مما بدا حتى صار اسمه “أحمد” فجأة”؟”!

بعد مضي أكثر من عقدين على الاحتلال الأميركي للعراق، وإطاحة نظام صدام حسين، و”اجتثاث” “حزب البعث” منه، يبرز سؤال: هل هناك جدوى من إعادة فتح هذا الملف؟

جوابي، أنه لا يجوز أن تُطوى حوادث تلك الحقبة، من غير درسها ومناقشتها، لأنها تُشكّلُ جُزءًا أساسيًا من تاريخ العرب المعاصر، ولأنها أيضًا لم تكن مجرد سجلٍّ للإخفاقات، والتناقضات، والخلافات، والصراعات، والحروب، بل هي أيضًا مدرسة سياسية، وفكرية، رفيعة الشأن، فيها إنجازات ثقافية، وعلمية، وإنمائية باهرة.

وأقول أخيرًا، إنه لو كانت لا تستحق الدرس والتأمل، لما رأينا تهافت الكتاب في الغرب على إصدار عشرات الكتب والدراسات، التي، على أهميتها، ما زالت مُقصِّرة عن بلوغ كنهها، وفهم مضامينها.

(الحلقة التالية يوم الأربعاء المقبل بعنوان: “إسلام البعث”!).

  • سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى