أسطورةُ الاقتصاد في الشرق الأوسط: كيفَ عَزَلَ تفتُّتُ الاقتصادِ العربي المنطقةَ عن الحربِ في غزّة
إنَّ إنهاءَ الحرب في غزّة يُشَكّلُ أولوية استراتيجية تتقاسمها الولايات المتحدة ومعظم دول الشرق الأوسط. ولكن من الخطَإِ الاعتقاد بأنَّ وقفَ إطلاق النار أو حتى حلّ الدولتين من شأنه أن يُعجّلَ بالتكامل الاقتصادي ويجعل المنطقة بأكملها تزدهر.
كارِين يونغ*
دمّرت الحرب المُستمرّة منذ أكثر من تسعة أشهر بين إسرائيل و”حماس” في قطاع غزة الاقتصاد الفلسطيني. ووفقًا للبنك الدولي، كانَ الناتجُ المحلي الإجمالي لغزة في الربع الأخير من العام 2023 –والذي يعكسُ فقط الضرر الناجم عن بداية الحرب– أقل بنسبة 86 في المئة مما كان عليه في الربع الأخير من العام 2022، ويُصيبُ انعدامُ الأمن الغذائي الآن 95 في المئة من سكّان القطاع. في الضفة الغربية، ارتفعت البطالة من 13 في المئة في الربع الثالث من العام 2023 إلى 32 في المئة بحلول نهاية ذلك العام، وهو أعلى معدل مسجل؛ وصلتَ السلطة الفلسطينية الحاكمة إلى حافة الانهيار المالي الصريح؛ وَجَدَ تحليلٌ أجرته مجموعة الأزمات الدولية في حزيران (يونيو) الفائت أنَّ ديونها للبنوك التجارية ومُتأَخِّراتها لصندوق التقاعد الخاص بها قد ارتفعت إلى ما يصل إلى 11 مليار دولار.
عندما بدأت الحرب، تَوَقّعَ بعضُ المُحلّلين أن تنتشرَ هذه الآثار الاقتصادية السلبية في جميع أنحاء المنطقة، ما سيؤدّي إلى زياداتٍ حادة في أسعار الطاقة وانخفاضٍ في عائداتِ السياحة. لكن هذا لم يحدث. لم تتسبَّب الحرب حتى الآن في تعطيلِ أسواق الطاقة بشكلٍ خطير، وهو المقياس المُعتاد لعَدَمِ الاستقرارِ في الشرق الأوسط. كما لم تتدهور قدرة اقتصادات المنطقة على الوصول إلى الديون على نطاقٍ واسع: فقد بلغت إصدارات السندات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 73 مليار دولار في النصف الأول من العام 2024، بزيادةٍ قدرها 59٪ عن الفترة نفسها في العام 2023. وليس من المُستَغرَب أن تُشَكِّلَ المملكة العربية السعودية 49٪ من عائدات السندات هذه، تليها الإمارات العربية المتحدة بنسبة 29٪، وقطر بنسبة 10٪.
لكن هذا الاستقرار لم يَكُن مُفاجِئًا. والسببُ في ذلك هو أنَّ واشنطن كانت لعقودٍ تَعتَبِرُ اقتصادَ الشرق الأوسط على نحوٍ خاطئ باعتباره اقتصادًا مُتماسِكًا، مدفوعًا بالنفط والغاز في الخليج. وكثيرًا ما دفعت هذه النظرة المسؤولين الأميركيين إلى تهميش الديبلوماسية الاقتصادية. ومع نموِّ اقتصادات الخليج، توقّعَ المسؤولون أن تعتمدَ صحّةُ اقتصاد المنطقة على عملياتِ الإنقاذ والاستثمار المحلية ــ وهو التوقُّعُ الذي تأكّدَ إلى حدٍّ ما بعد “الربيع العربي”، عندما تنافست دول الخليج على إنقاذ مصر.
لكن دول الشرق الأوسط كانت تتباهى منذُ فترةٍ طويلة بقُدراتٍ اقتصادية مُختلفة تمامًا، وكان الاقتصادُ الإقليمي مُنقَسِمًا بين مُصَدِّري الطاقة ومُستَورِديها. وحتى هذه الثُنائية أصبحت الآن أكثر تعقيدًا. فمنذ “الربيع العربي”، تجاوزت مزايا دول الخليج إلى حدٍّ كبير قدرة جيرانها الأغنياء بأصولِ الطاقة والذين يُعانون من سوء الإدارة، مثل الجزائر وإيران والعراق وليبيا، على الوصول إلى السوق والتكنولوجيا. علاوةً على ذلك، منذ العام 2016، أصبحت دول الخليج الأكثر ثراءً (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر) أقلَّ مَيلًا إلى تقديم المساعدات والاستثمار وفرص التجارة لجيرانها مُفَضِّلةً السعي إلى الاستثمار محلّيًا والاستعداد لمستقبلها بعد العصر الهيدروكربوني.
إنَّ مُبادراتَ السياسة الاقتصادية الأميركية تجاه المنطقة لم تُواكِب هذا الواقع. فقد ركّزَت عادةً على إنشاءِ ممرّات تجارية جديدة مُوَجَّهة غربًا، وإبرام صفقات أسلحة، وتحفيز الحكومات على الانضمام إلى استثمارات أمن الطاقة الأميركية (بما في ذلك في المعادن الحيوية في أفريقيا)، وتعزيز التكنولوجيا والوصول إلى الطاقة في إسرائيل وشرق البحر الأبيض المتوسط. لكنَّ الولايات المتحدة لا بُدَّ أن تعترفَ بأنَّ عُملاءَ وزبائن المُصدِّرين للطاقة في المنطقة والطلب المستقبلي سيكونان في الصين والهند واليابان. والترويج لفكرة طرق التجارة والشراكات الجديدة غربًا هو مجاملة ديبلوماسية، ولكنها لن تفعلَ الكثير لتغيير الاتجاه الاقتصادي للمنطقة.
كما إنَّ توقُّعَ أن يُغَيِّرَ وَعدُ التطبيع والروابط التجارية مسار الحرب في غزّة هو خطأٌ أيضًا. في كثيرٍ من الأحيان، وعدت السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط بفوائد اقتصادية واسعة النطاق في مقابل السلام. وتزدادُ هذه المبادرات تعقيدًا بسببِ حقيقةٍ مفادها أنَّ الموقفَ الأساس للولايات المتحدة تجاه إيران لا يزال بدونِ حَلّ منذ انسحاب الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015. إنَّ هذا التناقُضَ الاستراتيجي يُشجّعُ إيران على مواصلة دعمِ الجماعات الإرهابية الإقليمية وتهديد الحكم والنمو في العراق ولبنان وسوريا.
لكن إيران لم تمنع دول الخليج حتى الآن من النموِّ اقتصاديًا، ولكن شبح الإرهاب وتعطيل طرق العبور من قِبَل الجماعات المدعومة من إيران ما زالَا يُشكّلان تهديدًا مستمرًّا. وإذا عملت الولايات المتحدة بجدّيةٍ أكبر لتعطيل الأنشطة الإقليمية الخبيثة التي تقوم بها إيران، فلن يُغَيِّرَ ذلك من التوجُّهِ المُتزايد لدول الخليج نحو الشرق. ولكن هذه ستكون أفضل طريقة، في الأمد القريب، لواشنطن لتحقيقِ الفائدة للشرق الأوسط ككل ــ وستكون أكثر فعالية من المحاولات الحالية المُضَلِّلة لجمع اقتصادات المنطقة المتنوِّعة معًا وتوجيه نموّها نحو الغرب.
العمل كالمعتاد
على الرُغمِ من الدمار الذي أحدثته الحرب بين إسرائيل و”حماس” على سُبُلِ عَيشِ الفلسطينيين، فقد كَشَفَت عن المسارِ الاقتصادي الحالي في الشرق الأوسط أكثر مما غيّرَت هذا المسار. فقد ظلت الآثار الاقتصادية للمعارك التي دارت في غزة محصورة نسبيًا حتى الآن، على الرُغم من الصراع المباشر بين إسرائيل وإيران والغضب العربي الواسع النطاق إزاء العمليات العسكرية الإسرائيلية. لكن غزة كانت معزولة أصلًا قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر). ولم يُثبِت انهيارُها الاقتصادي أنه مُعدٍ، على الرُغم من أنَّ أزمة لاجئين كاملة من شأنها أن تُحدثُ دمارًا اقتصاديًا وسياسيًا فوريًا في مصر.
أثّرت الحرب في غزة بالتأكيد في الاقتصاد الإسرائيلي. فقد تعطّلت فُرَصُ العمل بسبب استدعاءاتِ خدمة الاحتياط. وارتفعَ الإنفاق الحكومي بأكثر من 88 في المئة في الربع الأخير من العام 2023، ويعتمد اقتصاد البلاد بشكلٍ متزايد على الديون، وهو ما قد يؤدّي بمرورِ الوقت إلى إضعاف العملة وضغوطٍ تضخُّمية. وخارج إسرائيل وغزة، تأثّرَ الشحن عبر البحر الأحمر بشكلٍ كبير. وانخفضت عائدات قناة السويس بنحو الربع بين تموز (يوليو) 2023 وحزيران (يونيو) 2024. ولكن بفضلِ اتفاقيةِ قَرضٍ سخيّة بقيمة 8 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي بالإضافة إلى قروضٍ من الاتحاد الأوروبي و35 مليار دولار من عائدات مبيعات الأراضي إلى الإمارات العربية المتحدة، تجنّبت مصر أزمة مالية مروِّعة.
خارج إسرائيل والأراضي الفلسطينية، لا تزال المنطقة ككل تتخبّط. ولن يهزَّ أسواق النفط في الشرق الأوسط إلّا الجهد المباشر من جانب إيران للدفاع عن “حماس” و”حزب الله” ومهاجمة البنية التحتية للنفط أو ممرات العبور. لم تشهد تجارة النفط أيَّ اضطرابٍ مادي عند أكثر نقاط الاختناق ضعفًا، مضيق هرمز. لا يزال حوالي 15 مليون برميل من النفط الخام ومنتجات النفط تتدفّق عبر هذا الممر المائي كل يوم خلال الربع الأول من العام 2024، في حين مرَّ حوالي 20 في المئة من صادرات الغاز الطبيعي المسال في العالم من دون عوائق من قطر عبر المضيق. يعتقد المحللون في “إينرجي أنتليجانس” (Energy Intelligence)، وهي شركة بيانات وتحليلات، أنَّ المخاطر التي تُهدّدُ أسواق النفط قد تمَّ تسعيرها أصلًا إلى حدٍّ كبير بعلاوةٍ تتراوح بين 3 و5 دولارات للبرميل. لقد حالت وفرة المعروض من خارج منظمة “أوبك”، ولا سيما من الولايات المتحدة، دون ارتفاع أسعار النفط.
ولأنَّ منتجي “أوبك +” ــ بقيادة روسيا والمملكة العربية السعوديةــ مدّدوا تخفيضات الإنتاج حتى العام 2025، فمن المرجح أن يستمرَّ الطلبُ العالمي على النفط في تجاوز العرض، ما يُعزّزُ الأسعار إلى نطاق 85 دولارًا للبرميل بحلول نهاية العام. ورُغمَ أنَّ الولايات المتحدة تواصِلُ فرضَ العقوبات على إيران، فإنَّ القادةَ الأميركيين لا يرغبون في إثارةِ صراعٍ مباشر أو إعاقة قدرة إيران على تصدير النفط بالكامل، وهو ما يُحافظ على استقرار أسواق النفط وانخفاض الأسعار. وحتى عندما قرر الرئيس الأميركي جو بايدن في نيسان (أبريل) تشديد العقوبات الأميركية على النفط الإيراني المُوَجَّه إلى الصين من خلال مُصَدِّرين ثانويين ــ وبالتحديد ماليزيا والإمارات العربية المتحدة ــ لم تتحرّك أسعار النفط تقريبًا. وكان من الصعب على مسؤولي وزارة الخزانة الأميركية تثبيط إعادة تسمية المنتجات النفطية الإيرانية باعتبارها منتجات من دول أخرى؛ ولا تزال إيران تتجنّب نظام العقوبات الأميركية بسهولة نسبية وتستمر في إيصالِ منتجاتها النفطية إلى السوق.
شاشةٌ مُقسَّمة
وعلى نطاقٍ أوسع، فَشِلَ صُنّاعُ السياسات في الولايات المتحدة في إدراكِ أنَّ أغنى اقتصادات المنطقة تُرَكِّزُ على تعزيزِ شراكاتها التجارية مع آسيا، وليس مع الغرب، وعلى التنافس مع أحدهما ضد الآخر. في الممارسة العملية، أصبح الشرق الأوسط عبارةً عن مجموعةٍ من الدول “العابرة” التي إمّا غارقة في الصراع (العراق ولبنان وليبيا وسوريا واليمن) أو راكدة (مصر وإيران والأردن) مع انكماشِ نموّها وارتباطها بالأسواق العالمية. في نيسان (أبريل) 2024، وجد البنك الدولي أنَّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لديها في المتوسط نسبة ديون إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ نحو 90%. وقبل عشر سنين، كانت هذه النسبة المتوسطة أقرب إلى 75%. وباستثناء أعضاء مجلس التعاون الخليجي وربما المغرب، فإنَّ معظم دول المنطقة تتعامل مع العبء المزدوج المتمثّل في الصراع والديون المرتفعة، ومعدلات النمو المنخفضة المتوقعة، والضغوط التضخّمية الناجمة عن ضعف العملات، وتُكافِحُ من أجل موازنة أعباء ديونها المُقَوَّمة بالدولار مع احتياجاتِ الإنفاق الاجتماعي.
في الوقت نفسه، تُحرِزُ دولٌ أخرى مثل سلطنة عُمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تقدُّمًا في قدرتها على توليد النمو غير النفطي وتنويع اقتصاداتها. كما تقترِضُ هذه الدول المُصَدِّرة للطاقة بكثافة، حيث يبلغ متوسط نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي الآن 30% مقارنة ب10% قبل عقد من الزمان. ولكن هذا الاقتراض يؤتي ثماره: إذ أصبحت شركات النفط الوطنية الخليجية الآن أكثر مَيلًا من شركات النفط الأميركية الكبرى إلى التباهي بمشاريع واستثمارات الطاقة المُتجدّدة الكبرى. والفرص الاقتصادية لهذه البلدان آمنة بسبب الأسواق الآسيوية التي تصل إليها الآن، وليس بسبب علاقاتها داخل الشرق الأوسط أو أوروبا. وتوقعت وكالة الطاقة الدولية أنه بين العامين 2022 و2028، سيأتي 90% من النمو في الطلب على النفط على مستوى العالم من منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهو ما من شأنه أيضًا أن يدفع هذه البلدان إلى زيادة الطلب على الغاز الطبيعي المُسال فيما هي تتحوّلُ بعيدًا من الفحم.
لقد ساعدت مبيعات الهيدروكربونات القوية هذه الدول المزدهرة نسبيًا في الشرق الأوسط على البدء في تحويل مصادر الطاقة لصناعاتِ التصنيع القائمة مثل تصنيع الصلب والأمونيا من النفط إلى مصادر طاقة منخفضة الكربون أو خالية من الكربون، مما يجعل هذه الصادرات أكثر جاذبية للعملاء الذين يهدفون إلى التحوُّل الأخضر. كما تسعى شركات النفط العربية العملاقة إلى استثماراتٍ مشتركة جديدة مع الصين في تصنيع الطاقة الشمسية وتطوير محطات الطاقة. على سبيل المثال، تعمل الشركات الصينية “TZE” و”Sungrow” و”JinkoSolar” على توسيع صادراتها وقدرتها التصنيعية في الشرق الأوسط، ولا سيما في سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. لا تقتصرُ الروابط بين آسيا والشرق الأوسط على النفط. وفقًا لبيانات مركز التجارة الدولية، وهي وكالة متعددة الأطراف أُنشِئت لمساعدة البلدان النامية على الوصول إلى الأسواق العالمية، بلغ إجمالي صادرات الخليج من البلاستيك والمواد الكيميائية والمطاط والمعادن الثمينة إلى آسيا حوالي 56 مليار دولار في العام الماضي ولديها القدرة على الزيادة بمقدار 50 مليار دولار أخرى بحلول العام 2030. وتستضيف المملكة العربية السعودية الآن أكثر من 1,300 مصنع بلاستيك وأصبحت مُصَدِّرًا رائدًا للمنتجات البلاستيكية والمطاطية إلى الصين.
الأمر الأكثر أهمية هو أنَّ الدول الآسيوية ــوخصوصًا الهند والصين ــ ركّزت على توسيع نطاق اتفاقيات التجارة الحرة والتعاون الاقتصادي مع الخليج بدلًا من فَرضِ قيودٍ تجارية جديدة. في أيار (مايو) الفائت، توقّعَ تحليلٌ لبنك “إتش أس بي سي” (HSBC) أن يتجاوزَ إجمالي تدفُّقات الاستثمار الأجنبي المباشر التراكمية بين آسيا والشرق الأوسط، وخصوصًا دول الخليج، 270 مليار دولار أميركي على مدى السنين العشر المقبلة، ارتفاعًا من أقل من 140 مليار دولار أميركي على مدى العقد الماضي. على سبيل المثال، أثبتت اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الهند والإمارات العربية المتحدة، والتي دخلت حيِّزَ التنفيذ منذ أيار (مايو) 2022، أنها حاسمة لتعزيز الصناعات غير النفطية في الإمارات، وزيادة الصادرات الفضائية والطيران من الإمارات إلى الهند من 40 مليون دولار في العام 2022 إلى 2 ملياري دولار في العام 2023.
قبول التجارة
مع ذلك، فإنَّ الطريقة التي يُواصِلُ بها صنّاع السياسات في الولايات المتحدة النظر إلى المنطقة باعتبارها كيانًا مُتماسِكًا تميلُ إلى ترسيخ تدخّلاتهم بشكلٍ ضَيِّقٍ على إسرائيل وعلى استقرار أسعار الطاقة، بدلًا من الانطلاق من الاعتراف بكيفية وضع الدول المتنوّعة نفسها بشكلٍ مختلف لتحقيق الأمن الاقتصادي. لقد تضمّنت جهود الولايات المتحدة لدفع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة مقترحات للتكامل الاقتصادي في الشرق الأوسط، بما في ذلك تطبيع العلاقات الديبلوماسية بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، الأمر الذي من شأنه أن يساعد المملكة في الحصول على الضمانات الأمنية والوصول إلى التكنولوجيا النووية التي تتوق إليها. لكنها لن تفعلَ الكثير لتحفيز الاستثمار في أيٍّ من البلدين أو لتسوية النزاعات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وفي مفاوضات وقف إطلاق النار، دفعت الولايات المتحدة أيضًا نحو إنشاء ممرات تجارية جديدة تربط الخليج بأوروبا، بما في ذلك الممر الاقتصادي الذي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا. وكان تعميق العلاقات الاقتصادية في المنطقة بسرعة أمرًا غير بعيد المنال قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر). ولكن هجوم “حماس”، والعمليات العسكرية الإسرائيلية اللاحقة، وتحوُّل دول الخليج شرقًا، جعل هذا الأمر أقل احتمالًا.
عندما كان صنّاع السياسات في الولايات المتحدة يتظرون في فُرَصِ التجارة والاستثمار في جميع أنحاء الشرق الأوسط، كانت إسرائيل عادةً شريكًا جذابًا للتوقُّف للوصول إلى التكنولوجيا الإسرائيلية وموطئ قدم في حقول الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط. إنَّ الوجهات الثلاث الأولى للاستثمار الأجنبي المباشر في الشرق الأوسط، من حيث عدد المشاريع الجديدة وتخصيصات الاستثمار، هي إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. قد تكون هذه الدول على استعدادٍ للاستثمار في بعضها البعض، وهي تشترك في مصلحة استمرار استقرار الاقتصاد المصري وسهولة الشحن عبر قناة السويس. لكنها لا ترى مشروع تنمية مشتركًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
إنَّ الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة في ما يتعلق بالشرق الأوسط بسيطة للغاية في الواقع: التنافس مع الصين والحدّ من نفوذ إيران. ولكن من الناحية الاقتصادية، لا تستطيع واشنطن تحدّي الهيمنة الصينية في الشرق الأوسط من خلال بناء طريق حرير جديد ومنافس. يجب أن تقبل السياسة الاقتصادية الأميركية تجاه المنطقة أنَّ الصين ستظل شريكًا تجاريًا واستثماريًا رئيسًا. تعمل الصين الآن على تحويلِ سلاسل التوريد الخاصة بها من خلال البحث عن مستثمرين مشاركين من الخليج في مصافي النفط الصينية. وفي الخليج، تعمل بكين على إنشاء مشاريع مشتركة في صناعات الطاقة الجديدة مثل إنتاج الألواح الشمسية والمركبات الكهربائية. ولأن الصين لم تتنافس قط مع الولايات المتحدة لتزويد أي دولة في الشرق الأوسط بقدراتٍ دفاعية وجوية، فقد تختار واشنطن التركيز بشكلٍ أضيق على اتفاقياتها الدفاعية، وخصوصًا تلك التي تبرمها مع دول الخليج وإسرائيل. ورُغمَ أنَّ الشراكات التي تُركّزُ على الدفاع تُشَكِّلُ أيضًا علاقات تجارية مهمة، فإنها لا تُشكّلُ بالنسبة إلى الولايات المتحدة استراتيجية اقتصادية أو ديبلوماسية ناجحة طويلة الأجل في الشرق الأوسط.
لكن في الأمد الأبعد، يتعيَّن على واشنطن أن تُدركَ أيضًا أنه حتى لو سعت القوى الخليجية وإسرائيل إلى تحقيقِ تكامُلٍ أكبر، فإنّها ستواصل إعطاء الأولوية لمسارات النمو الخاصة بها والشراكات المُفَضَّلة. وقد ركّزَ العديد من المسؤولين الأميركيين بشكلٍ كبير على التطبيع الإسرائيلي-السعودي، سواء للمساعدة على دفع وقف إطلاق النار في غزة أو لتوجيهِ ضربةٍ للنفوذ الصيني والروسي في المنطقة من خلال إنشاء دائرة نفوذ حول نقاط الاختناق الرئيسة في مضيق هرمز وممر البحر الأحمر. ولكن في نهاية المطاف، لن يؤدّي التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية إلى تسريع الاستثمار وازدهار التجارة عبر الشرق الأوسط. وبالتالي فإنَّ التلويحَ باحتمالِ تحقيقِ تكامُلٍ اقتصادي إقليمي أكبر لا يُشَكّلُ الجزرة التي تأمل الولايات المتحدة أن تؤدي إلى نتيجة.
إنَّ إنهاءَ الحرب في غزة يُشَكّلُ أولوية استراتيجية تتقاسمها الولايات المتحدة ومعظم دول الشرق الأوسط. ولكن من الخطَإِ الاعتقاد بأنَّ وقفَ إطلاق النار أو حتى حلّ الدولتين من شأنه أن يُعجّلَ بالتكامل الاقتصادي ويجعل المنطقة بأكملها تزدهر. يتعيَّن على دول الشرق الأوسط التي تشهد نموًا اقتصاديًا قويًا أن تضمن طرق التجارة المستقرة والآمنة شرقًا والاتصال بالأسواق الناشئة في آسيا وأفريقيا. وينبغي على الولايات المتحدة أيضًا أن تتصالح مع حقيقة الجغرافيا الاقتصادية للطاقة. سوف تستمر التآزرات في تصنيع الطاقة المتجددة فضلًا عن أهمية الوقود الأحفوري في تسهيل التحوُّل إلى الطاقة الأكثر خضرة في ربط الخليج بآسيا. ويجب على الولايات المتحدة أن تُوَضِّح ما يمكنها أن تفعله في الواقع: فهي تستطيع أن تضع ثمنًا للاستقرار الذي توفّره في ممرات العبور الرئيسة للأطراف المستفيدة، سواء داخل الشرق الأوسط أو خارجه، بما في ذلك الصين. وبوسعها أن تعمل بقوةٍ أكبر لتعطيل شبكة الإرهاب الإيرانية من أجل خلق إمكانيات أفضل للحُكمِ والنمو.
- كارين يونغ هي باحثة بارزة في مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا ومؤلّفة كتاب “الحكم الاقتصادي لدول الخليج العربية: نشر المساعدات والاستثمار والتنمية في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان وباكستان”.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.